المبدع الغيواني الكبير عبد الرحمان باكو رحمه الله وأسكنه فسيح جناته هو ثالث ورقة بعد، بوجميع وباطما، يسقطها خريف العمر من شجرة الغيوان الوارفة بظلالها الإبداعية الخالدة.. هو أحد الأعمدة الشامخة التي شيدت بعرق نضالها الفني الطويل أبهى صرح لهذه المجموعة الأسطورية التي خلخلت واقع ومسار الأغنية المغربية ورسمت لها أفقا مستقبليا بإبداع نغم جديد وكلام رمزي صارخ بمواويله في وجه القذارة والاستبداد والطغيان، وبابتكار صيغة غنائية مدهشة وأسلوب تعبيري فجائعي لا عهد لنا به لأنه يختلف عما ألِفناه في أغنيتنا قبل بداية السبعينيات من القرن الماضي .. عبد الرحمان هو السباق لنفض الغبار عن الثراء الذي يزخر به التراث الكناوي الإفريقي الحزين وإخراجه من دائرة الظل المغلقة إلى رحاب الجماهير العريضة داخل الوطن وخارجه.. لقد هز بصوته المؤثر وصدق روحانيته الخفية وأنغام سنتيره الحزينة مشاعر وأرواح الملايين.. هو مجذوب من مجاذيب ظاهرة ناس الغيوان التي أسست لثقافة غيوانية حكيمة ذات بعد فكري متمرد يدعو إلى طرح الكثير من الأسئلة الشائكة على شاكلة «واش حنا هُما حنا؟».. أسئلة حاسمة في تصوير الداء وتحديد الخلل ومساءلة الواقع الاجتماعي المتردي بكل بؤسه وهشاشته بجرأة وشجاعة وطموح كبير.. اليوم أهمس لروحك يا سليل «الزمن الجميل» أيها المسكون بسحر السنتير وبلاغة القصيدة الغيوانية التي تكمن قوتها في بساطتها وأقول: هذه رسالة وداع تحتفي بذكراك التي ستبقى على قيد الحياة محفورة في وجدان الذاكرة المغربية من خلال تجربة مليئة بالنبل وحافلة بهموم الإنسان المقهور وتطلعاته للحرية والأمن والعيش الكريم، وستذكرك أيها الهزار المغرد رقصتك التعبيرية الجاذبة وأغنياتك الهائلة في «إطار المجموعة «غير خوذوني، زاد الهم، النادي أنا، نرجاك أنا،» وهي من الروائع التي أبدعتها «ناس الغيوان» كتجربة فنية ساهمت بعمق في تطوير وتحديث التراث الشعبي المهجور الذي أفرزت من خلاله أغنية شعبية راقية كانت منعطفا حاسما في تاريخ الغناء المغربي الأصيل والمعاصر، أغنية بصيغة أخرى وبُعد آخر في التجربة الغيوانية التي قفزت بجذور الأصالة من عمقها البدائي إلى قمة الإبداع الغيواني الحديث بكل المقاييس المتعارف عليها في عالم الموسيقى والغناء الكوني.