أصدرت منظمة «هيومان رايتس ووتش» تقريرا يحكي تفاصيل مثيرة للأيام الأخيرة من حياة العقيد معمر القذافي، كما يوجه انتقادات شديدة اللهجة للسلطة الانتقالية الليبية لعدم مباشرتها لأي تحقيق في حادث قتل معمر القذافي وابنه المعتصم وباقي الأشخاص الذين تم اعتقالهم أحياء, وظهروا في أشرطة فيديو ينكل بهم قبل أن يُعثر عليهم مقتولين. يقدم هذا التقرير الدليل على أن ميليشيات مصراطة قامت، بعد اعتقال القذافي وتجريده وباقي أفراد قافلته من السلاح، بتعريضهم لضرب وحشي قبل أن تتم تصفية العشرات منهم. وبعد مرور سنة على هذا الحادث، لم تقم السلطات الليبية بأي شيء من أجل مباشرة التحقيق في الحادث ولا محاسبة الأشخاص المتورطين في ارتكاب هذه الجرائم. ثمة صعوبة في إعادة رسم مسار القذافي خلال أيامه الأخيرة، إذ لم تكن تحيط به سوى دائرة محدودة من الأشخاص الذين يثق فيهم وحراسه الشخصيين، وجلهم قُتلوا وهم يحاولون الهرب من سرت، كما هو موثق في هذا التقرير. غير أن أحد المقربين من القذافي، والذي قضى الأيام الأخيرة رفقته نجا من الموت يوم الفرار، وتم إلقاء القبض عليه حيا من طرف إحدى ميليشيات مصراطة. ويتعلق الأمر بمنصور الضو، وهو مسؤول أمني من أوفياء القذافي وقائد الحرس الشعبي. وتمكنت منظمة "هيومان رايتس ووتش" وصحيفة "نيويورك تايمز" من تحديد موقعه داخل أحد مراكز الاعتقال في مصراطة بعد مرور يومين على قتل القذافي، واستجوابه في مكان خاص. ولقد قدم الضو تفاصيل مثيرة حول الأيام الأخيرة في حياة معمر القذافي. ورغم عدم تمكن المنظمة من التأكد بنفسها من صحة تلك التفاصيل، إلا أن ما ورد في رواية الضو تتوافق وروايات باقي الناجين الذين كانوا في عين المكان، رغم أنهم لم يكونوا في اتصال مباشر بمعمر القذافي. ظل معمر القذافي ومقربيه في العاصمة طرابلس إلى أن سقطت في أيدي المعارضة المسلحة بتاريخ 28 غشت 2011، وحينها غادروا طرابلس في قوافل متفرقة وإلى وجهات مختلفة. وتم قتل خميس القذافي، الذي كان يقود كتيبة خميس الثانية والثلاثين للنخبة التابعة للجيش الليبي، يوم 29 غشت عندما كان يحاول الهروب من طرابلس، وحسب ما يعتقد، فإن العملية تمت بواسطة قصف من قوات حلف الناتو. أما سيف الإسلام القذافي، فقد ذكرت تقارير أنه فر إلى بلدة بني وليد المناصرة للقذافي، ولقد كشف للمنظمة بأنه أصيب بجروح خفيفة يوم 17 أكتوبر إثر قصف الناتو لقافلته في وادي زمزم، عندما كان في طريقه إلى سرت. وتم اعتقاله يوم 19 نونبر قرب الحدود الجنوبية لليبيا على يد ميليشيات الزنتان. أما الابن الثالث للقذافي، المعتصم، والذي كان يشغل منصب مستشار الأمن القومي وقائد القوات المشرفة على الجبهة الشرقية خلال الحرب الأهلية الليبية، فقد كان في سرت عندما سقطت طرابلس، وظل هناك. وفر معمر القذافي إلى سرت، قبل أن يلتحق به منصور الضو. وحسب هذا الأخير، فإن آخرين مثل عز الدين الهنشيري، رئيس الحرس الشخصي للقذافي، وحمد مسعود، السائق الشخصي للقذافي، وعدد من الحراس الشخصيين التحقوا بالقذافي في سرت مباشرة بعد سقوط طرابلس. أما عبد الله السنوسي، رئيس جهاز استخبارات القذافي، فقد ظل معه لفترة وجيزة قبل أن يغادر في اتجاه سبها (500 كلم إلى الجنوب) ليخبر زوجته بخبر مقتل ابنهما، لكنه لم يعد إلى سرت. ولم يكن معتصم القذافي، الذي كان يشرف على القوات المدافعة على سرت، يبقى رفقة والده وباقي المسؤولين الكبار، بل كان يزورهم بشكل منتظم. وكان القذافي ومعاونيه مستقرين في قلب مدينة سرت، لكن مع اشتداد القصف على المدينة، اضطروا لتغيير مقر إقامتهم باستمرار. ويتحدث الضو عن حالة اليأس التي بدأت تعيشها المجموعة مع اقتراب مقاتلي الميليشيات منهم، بالقول: "كنا في البداية مستقرين داخل إحدى العمارات في مركز المدينة، غير أن القذائف كانت تصل إلى ذلك المكان، فاضطررنا إلى مغادرة العمارة ودخول أحياء صغيرة في مناطق مختلفة من المدينة. وفي آخر المطاف، انتقلنا إلى الحي رقم 2 [حي يقع في الضاحية الغربية للمدينة]. لم نكن نتوفر على ما يكفي من الطعام، ولا حتى الأدوية، وكنا نجد صعوبة في العثور على المياه لأن صهاريج المياه، ربما أصيبت إثر ضربات عشوائية. كانت ظروف العيش صعبة، وكنا نقتصر على تناول المعجنات والأرز، وحتى الخبز لم نكن نتوفر عليه. وكما تعلمون، فإن تقريبا كل منزل ليبي كان يتوفر على مخزن للطعام، لذلك استعملنا ما كنا نعثر عليه في المنازل التي نقيم فيها". ويستطرد بالقول: "كان معمر القذافي يقضي معظم وقته في تلاوة القرآن والصلاة. كان اتصاله بالعالم الخارجي منقطعا. لم يكن هناك أي شكل من أشكال التواصل، لا تلفزيون، لا أخبار، لا شيء على الإطلاق. ربما كان بإمكاننا استخدام هواتف الثريا التي تشتغل بنظام الأقمار الصناعية والحصول على بعض الأخبار من قنوات "الراي" [الإيطالية]، روسيا اليوم، "بي بي سي" أو "فرانس 24"، أقصد الاتصال بأشخاص كانوا يشاهدون تلك القنوات. لم تكن لدينا أي مهمات للقيام بها، كنا فقط نقضي وقتنا بين الاستيقاظ والنوم. وكان المعتصم يتولى مهمة المراقبة، أما نحن، فكنا فقط مرافقي معمر القذافي." وحسب الضو، فإن القذافي الذي كان يمسك بجميع السلطات في يده أصبح ينام في منازل مهجورة، يبحث عن الطعام ويستشيط غضبا بسبب تردي حالته. يقول الضو: "كنا نغير مكان الإقامة كل أربع أو خمس ساعات حسب الظروف. وكنا نقيم في منازل مهجورة، وفي بعض الأحيان، كنا نجد أنفسنا وسط أفراد إحدى العائلات. وعندما كان السكان يغادرون المدينة، كنا نذهب إلى منازلهم لنقيم فيها. لقد كانت المنازل تترك مفتوحة، وكنا نتحرك على متن سيارات عادية، كنا نستقل سيارة أو سيارتين، تحملان مجموعة منا قبل أن تأتي بالآخرين. وكنا غالبا ما نُضرب من طرف الثوار داخل المنازل التي كنا نقيم فيها بواسطة القذائف أو صواريخ غراد، حيث أصيب ثلاثة من الحرس بجروح، ولم نكن نتوفر على طبيب. ولقد تغير القذافي وأصبح أكثر غضبا، خصوصا بسبب انقطاع الكهرباء ووسائل الاتصال وفقدان القدرة على الاتصال بالعالم الخارجي. وكنا نتوجه إليه للحديث معه لمدة ساعة تقريبا، وكان يتساءل: 'لماذا لا نتوفر على الكهرباء؟ لماذا لا نتوفر على المياه". في العشرين من أكتوبر 2011، كانت قافلة تضم العقيد القذافي و250 فردا من أنصاره تحاول الفرار من مدينة سرت، غير أن مقاتلة بدون طيار تابعة لقوات حلف الناتو قصفتها قبل أن تدخل في مواجهة مباشرة مع قوات الثوار. وبعد ذلك القصف، شوهدت جثت 105 أفراد متناثرة قرب بقايا السيارات المحطمة، وتبين أن غالبية أولئك الضحايا قُتلوا خلال قصف الناتو والمعركة الأخيرة، في حين أن بعضهم كان يحمل علامات تشير إلى أنهم تم إعدامهم. أما 66 شخصا آخرين من أفراد القافلة، والذين تم اعتقالهم أحياء بعد المعركة الأخيرة، فقد تم العثور عليهم في وقت لاحق مقتولين على مقربة من فندق "المهاري". كانت قافلة القذافي، التي كانت مسلحة بشكل كبير، تحاول البحث عن معبر للهروب من الحي الثاني في مدينة سرت المحاصر، غير أن القافلة كانت مراقبة بواسطة طائرة بدون طيار تابعة لحلف الناتو، وأرسلت قذيفة نحو القافلة مما أدى إلى تدمير إحدى السيارات، حسب ما ذكره شهود عيان، واستمرت القافلة في المسير لبضع مئات الأمتار، لتجد نفسها أمام قاعدة عسكرية لقوات الثوار، وفي نفس الحين قصفت طائرة عسكرية لحلف الناتو القافلة، مضرمة النار في العشرات من أنصار القذافي، في حين دخل البقية في مواجهة عسكرية مع مسلحي الثوار. واحتمى القذافي وبعض الناجين داخل إحدى الفيلات، ومكثوا هناك لبعض الوقت قبل أن يحاولوا الهرب عبر الحقول وحشروا أنفسهم داخل إحدى قنوات الصرف الممتدة أسفل إحدى الطرق الرئيسة في المدينة، وهناك تم اعتقال القذافي بواسطة ميليشيات مصراطة. يتحدث منصور الضو عن محاولة مغادرة مدينة سرت قائلا: "عندما حاولنا الهرب، كان هناك قصف جوي يستهدفنا، وضُربنا مرتين. وكدنا نصاب بأحد الصواريخ، الذي فجر سيارة أخرى كانت على يميننا مما أحدث فوضى كبيرة تسببت في خروج الأكياس الهوائية الواقية في السيارة التي كنت على متنها وأصبت بإحدى الشظايا." ونقل تقرير المنظمة عن يونس أبو بكر يونس، نجل وزير الدفاع الليبي الأسبق، الذي كان بدوره في مسرح الأحداث ومات داخل قناة الصرف التي كان يختبئ داخلها القذافي: "بعد قصف قوات الناتو، حاول الناس البحث عن مخبأ في المباني المجاورة. وشاهدنا معتصم القذافي مصابا لأنه كان في مقدمة القافلة عندما تم قصفها. وفي مدخل الفيلا، كان هناك بيت الحارس، وهناك عثرنا على معمر القذافي يضع خوذة واقية ويرتدي سترة واقية من الرصاص، كما كان يحمل مسدسا في جيبه وسلاحا أوتوماتيكيا بين يديه. جاء منصور الضو وأخذ والدي ومعمر القذافي إلى منزل آخر, بقينا هناك فقط لبضع دقائق، وخرج الضو وعاد مرة أخرى وهو يقول إن جميع السيارات قد تم تدميرها. وهناك تم الشروع في قصف الفيلا مما اضطرنا للمغادرة. كانت هناك الكثير من الحواجز الإسمنتية التي اختبأنا وسطها رفقة الأسر والحرس." وقال يونس أبو بكر يونس أن معتصم القذافي قرر وهو داخل الفيلا أن يقوم بفتح الطريق مرفوقا بثمانية أو عشرة من المقاتلين، وغادر قائلا: "سأحاول وسأجد لكم طريقا للخروج من هنا." وعندما كان الجميع يحاول الاختباء وراء المباني الإسمنتية، اقترح الضو الركض نحو قناة الصرف الموجودة أسفل الطريق الرئيسة، والتي تبعد حوالي مائة متر عن المكان، ومن هناك سيحاولون الوصول إلى مجموعة من المزارع على الجانب الآخر من الطريق. وكان القذافي مرفوقا بمنصور الضو وأبو بكر يونس، واثنين من أبناء هذا الأخير، وستة أو سبعة أفراد من الحرس الشخصي. وركض الجميع عبر أحد الحقول، قبل أن يزحفوا في اتجاه قناة الصرف، وبمجرد عبورهم إلى الجهة المقابلة، شاهدهم أفراد المليشيات المقاتلة. يقول يونس أبو بكر يونس: "رمى الحراس الشخصيون قنابل في اتجاه المقاتلين، غير أن القنبلة الثالثة أصابت جدران القناة وسقطت بين معمر القذافي وأبوب بكر يونس. حاول الحارس الشخصي حمل القنبلة ورميها مجددا، لكنها انفجرت بين يديه وبترت أجزاء من جسده، وأصابت شظية والدي فسقط أرضا، وأصيب القذافي بدوره على الجانب الأيسر من رأسه. ركضت نحو والدي، لكنه لم يكن يرد، كنت أسأله إن كان بخير. رأيت القذافي ينزف ومنصور كان بدوره منبطحا على الأرض، أما الحارس فقد مات." وفي تلك اللحظة ألقى الثوار القبض على القذافي وأصابه أحدهم بمدية في مؤخرته قبل أن يتم الاعتداء عليه بالركل واللكم. وتم بعد ذلك حمله في سيارة إسعاف في اتجاه مصراطة، ليظهر بعد ذلك جثة هامدة: ولم يتضح إن كان قد توفي بسبب العنف الذي مورس عليه، أم بسبب الجروح التي أحدثتها شظايا القنبلة، أم أنه أصيب بطلق ناري في وقت لاحق، كما يدعي البعض. وفي صباح نفس اليوم، قام أفراد من ميليشيا مصراطة باعتقال معتصم القذافي، نجل معمر القذافي، والذي كان مكلفا بقيادة القوات المدافعة عن سرت، عندما كان بدوره يحاول الفرار من ميدان المعركة. ولقد أظهر شريط فيديو تم تداوله مباشرة بعد اعتقاله أنه كان في وعيه، وكان قادرا على الكلام والمشي، ولم يكن جسده يحمل سوى آثار بعض الجروح الصغيرة في أعلى صدره، كما كان يتحدث إلى أفراد الميليشيات ويشرب الماء ويدخن السجائر. وفي مساء نفس اليوم، تم إظهاره ميتا، وصدره يحمل آثار جروح كبيرة، مما يعني أنه قُتل في المعتقل. بعد المعركة الأخيرة، كان أكثر من مائة فرد من قافلة القذافي قد قُتلوا في عين المكان، فيما تم اعتقال حوالي 150 فردا، وتم نقل 70 منهم أحياء إلى مصراطة، قبل أن يتم العثور على 66 منهم مقتولين صبيحة اليوم الموالي قرب فندق "المهاري". وأظهر شريط فيديو لأحد الهواة ثوار مصراطة وهم يعتدون على 29 من المعتقلين بالضرب والصفع والبصق والشتم. وتمكن أفراد منظمة "هيومان رايتس ووتش" من التعرف على ستة من الأشخاص الذين تعرضوا للاعتداء في الفيديو من بين جثت القتلى التي تم العثور عليها قرب الفندق المذكور، كما أكد الطاقم الطبي في مستشفى سرت وجود سبعة آخرين ضمن قتلى الفندق، وتعرف أيضا أفراد وأصدقاء خمسة قتلى آخرين كانوا قد ظهروا في نفس الشريط. وجاء في التقرير أن عمليات القتل تلك التي نفذها معارضو القذافي تعتبر أكبر عمليات تصفية موثقة على امتداد ثمانية أشهر من المواجهة المسلحة في ليبيا، مضيفا أن "قتل أفراد وهم رهن الاعتقال يعتبر جريمة حرب". ولم تتخذ السلطات الانتقالية في ليبيا أي خطوات جدية للتحقيق في هذه الجريمة الفظيعة، رغم أن الأدلة تشير إلى تورط أفراد من ميليشيات مصراطة في ارتكاب هاته الجرائم أو أنهم كانوا على علم بها. وذكر التقرير أن "فشل السلطات الليبية في التحقيق يظهر أن ثمة استمرار في غياب السيطرة على المليشيات المسلحة بشكل كبير، وأن هناك ضرورة ملحة لجعل المليشيات المسلحة العديدة تحت السيطرة الكاملة للسلطات الجديدة.