إذا كان القانون المالي لسنة 2012 لم يحمل أية إشارات واضحة إلى توجّه جديد في التدبير الحكومي، حيث طغى عليه طابع الجمود والاستمرارية، فإن المؤشرات المتوفرة لحد الآن تدل على أن القانون المالي لسنة 2013 سيكون أسوأ من سابقه بكثير، ما يهدد بعدم الاستقرار... فليس مستبعداً أن تلجأ الحكومة إلى تخفيض الإنفاق الاستثماري للحدّ من عجز الميزانية الذي قارب حوالي %7 من قيمة الناتج الداخلي الخام العام الماضي، والحالُ أنَّ أي تقليص في حجم الاستثمار الحكومي، إضافة إلى تأثيره السلبي في النمو الاقتصادي، فهو يتناقضُ مع التزامات أحزاب "الأغلبية الحكومية" التي أكّدت على تعزيز البنية التحتية والتعليم والصحة، وتحسين مؤشرات التنمية البشرية التي يسجّل فيها المغرب تأخّراً ملحوظاً. إضافة إلى ذلك، يمر المغرب بظرفية تتّسم بتراجع ملموس للنشاط الاقتصادي وتنامي الشكوك والضبابية حول المستقبل. ولعل هذا الشعور التشاؤمي هو ما يفسِّر تراجع مؤشرات بورصة للدار البيضاء بنسبة 14% منذ بداية السنة الحالية، وتراجع حجم التعاملات بنسبة تتجاوز %78,2 في نهاية شهر شتنبر من السنة الحالية، ما سبَّب استياءً شديداً لدى المتعاملين، خصوصاً صغار المستثمرين. فضلا عن ذلك، فقد تراجع الناتج التجاري الخام ب %27 خلال الأشهر السبعة الأولى من السنة الجارية إلى مستويات قياسية، منتقلا من ناقص 106,6 مليار درهم في متم يوليوز 2011 إلى ناقص 113,78 مليار درهم في متم يوليوز الماضي، حسب معطيات كشف عنها مكتب الصرف. كما سجل مؤشر الثقة لدى الأسر خلال الفصل الثاني من سنة 2012 انخفاضا قُدِّر ب 5,1 نقاط مقارنة مع مستواه خلال الفترة نفسها من سنة 2011. علاوة على ذلك، يلمس تأثير موسم الجفاف على مخزون القمح، إذ أعلن المكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني أن مخزون القمح الطري قارب 23,5 مليون قنطار عند متم شهر يوليوز الماضي، وهو ما يلبي حاجيات المغاربة لمدة خمسة أشهر على الأكثر، ما سيضطر المغرب إلى استيراد هذه المادة من الخارج. ولكن أسعار القمح في الأسواق العالمية عرفت ارتفاعا مهولا يفوق 10% مقارنة بالسنة الماضية. هكذا، فمن المحتمل أن تشتد درجة الاحتقان الاجتماعي خلال الشهور المقبلة، حيث قد يتعمق تراجع معظم المؤشرات المالية والاقتصادية والاجتماعية، كما أن الحكومة ستكون غير قادرة على إقناع فئات واسعة من المجتمع المغربي بقراراتها المجحفة، حيث سيزيد اكتشاف الجميع لتقاعسها وعجزها وافتقادها للإرادة السياسية... لا تعطي "الحكومة" في المغرب البعد الاجتماعي اهتماما يذكر، إذ تتجاهل بشكل مطلق العدالة الاجتماعية التي تشكل أحد المطالب الأساسية للشعب المغربي الذي تعاني أغلبيته الساحقة من البطالة وتعيش في الفقر، وتشعر بقلق شديد متزايد لأنها لم تر من هذه الحكومة سوى الزيادة الفاحشة في أسعار المواد الأساسية والتنكر لكل مطالبها الاجتماعية...، ما يدل على اعتناقها لعقيدة الليبرالية المتوحشة... تعني مطالبتنا بوضع العدالة الاجتماعية ضمن أولويات السياسات العمومية، اتخاذ ترتيبات تضمن تمتع كل المغاربة بفرص متكافئة في الحياة، وذلك بغض النظر عن جنسهم أو انتمائهم الاجتماعي أو الثقافي أو الديني أو العرقي... ونقصد بذلك أن يتم تحقيق تكافؤ الفرص في مجالات التعليم والتغذية والصحة والسكن والشغل والأجر أو التقاعد... فبدون ذلك، لن تكون هناك عدالة اجتماعية ولن تستقر الأوضاع. وهذا ما يستوجب الشروع في ترجمة عملية لمطلب العدالة الاجتماعية هذا عبر القانون المالي للحكومة والتشريعات المنظمة لعلاقات الشغل وأحوال الناس وظروفهم المعيشية... وللتدليل على أهمية ما نقول، تكفي الإشارة إلى أوضاع الظلم المتردية التي تعيش فيها أغلبية المغاربة، والمتجلية خصوصا في سوء توزيع الناتج الداخلي الخام، حيث لا يزيد نصيب أغلبية الشعب المغربي منه على نسبة 20%، بينما يحصد منه الأغنياء، وهم أقلية قليلة، أكثر من 80%... ومن المحتمل أن ترتفع نسبة الفقر لتصيب أغلبية المغاربة. وتضاف إلى هؤلاء الفقراء الفئات المهمشة التي تشكل نسبة مهمة من الشعب المغربي التي تقيم في مناطق السكن العشوائي ولا يتمتع أفرادها بسكن صحي أو مرافق عامة، أو شغل منتظم... وتشكل هذه الفئات المصدر الأساسي لظواهر تشغيل الأطفال وأطفال الشوارع وما ينجم عن ذلك من مشاكل اجتماعية مكعبة، زد على ذلك الأعداد الوفيرة من العاطلين الشباب... يمثل الشباب 30% من سكان المغرب، يعاني 49% منهم من الإقصاء الاجتماعي، حيث يعانون من البطالة والجهل معا. وتشكل فئة الشباب 44% من الفئة السكانية البالغة سن الشغل، لكنها لم تستفد مما عرفته البلاد من نمو اقتصادي في السنوات الأخيرة. ويشير تقرير صادر عن البنك الدولي إلى أن 5% فقط من الشباب المغربي لهم مستوى تعليمي عال. كما أن أزيد من 80% من الأسر لها دخل يقل عن 6500 درهم، و50% لها دخل يقل عن 3500 درهم (المندوبية السامية للتخطيط). إضافة إلى ذلك، فقد ارتفع عدد العاطلين عن العمل، بحسب الإحصاءات الرسمية، خلال الربع الأول من العام، ب 93 ألف شخص كما عرفت سوق الشغل، ما بين الفصل الأول من سنة 2011 ونظيره من سنة 2012، تراجعا إجماليا في حجم مناصب الشغل ب 109.000 منصب، ما نتج عنه ارتفاع عدد العاطلين ب 93.000 شخص. وسجل معدل البطالة تزايدا قدر ب 0,8 بالمائة. وقد بلغ معدل البطالة نسبة %14,4 في المناطق الحضرية بعدما كان لا يتجاوز نسبة %13,3 في السنة الماضية (المندوبية السامية للتخطيط). لقد ترتب عن هذه الظواهر التي تجسد غياب العدالة الاجتماعية أن أصبح أبناء الأغنياء، بحكم انتمائهم الاجتماعي، قادرين على الحصول على الشغل في القطاع الخاص والبنوك والشركات الاستثمارية والشركات متعددة الجنسيات... بينما صار أبناء الفقراء عاجزين عن الحصول على فرص شغل في القطاعين العام وغير المنظم... تبعا لذلك، على الحكومة أن تمنح أولوية لمعالجة هذه الأوضاع الظالمة من خلال: - إعادة النظر في توزيع الناتج الداخلي الخام على أسس عادلة، ما يقتضي وضع نظام عادل للأجور يضمن حدا أدنى للأجور كافيا لضمان عيش كريم للأسر المغربية، كما يلزم وضع حد للأجور الباذخة. أضف إلى ذلك أنه ينبغي الرفع من الميزانيات العامة للصحة والتعليم والإسكان وضمان حسن تدبيرها، وتطوير نظام التأمينات الاجتماعية ليشمل كل الفئات الفقيرة. - تخفيض الإنفاق غير الضروري في الميزانية العامة. - زيادة الاستثمار بهدف تحقيق معدل نمو سنوي لا يقل عن 6%. - رفع مستوى تأهيل المغاربة الذين يلتحقون بسوق الشغل، عبر إعادة النظر المستمرة في تدريبهم وربطه بالمشاريع التنموية وما توفره من مجلس أعلى لتنمية الموارد البشرية بهدف الإشراف على هذه العملية. - إعطاء محاربة الفقر أولوية في البرامج الاستثمارية والاجتماعية. - القضاء على الاحتكار وتسهيل ولوج المقاولات الصغرى والمتوسطة لمصادر التمويل لمشاريعها، ما سيساعد على بروز نخب جديدة تساهم في التنمية... - محاربة كافة أشكال الريع والفساد. وقبل الشروع في ذلك، ينبغي أن تعقد "الحكومة" لقاءات جدية مع ممثلي القطاعات الاجتماعية المختلفة لدراسة مشاكلها، ومعرفة مطالبها وإنجاز دراسات من أجل تحديد الأولويات وتسطير جدول زمني لتنفيذها. قد تعترض هذه "الحكومة" التي ترفض العدالة الاجتماعية قائلة: "من أين نأتي بالموارد التي تمكننا من تمويل هذه العمليات والإجراءات؟". تقتضي الديمقراطية أن يضطلع الأغنياء بمسؤوليتهم الاجتماعية، وبدون ذلك لن يعرف المجتمع الاستقرار، ولن تكون ثرواتهم في أمان... وهذا ما يستوجب عليهم أن يمولوا من فائض أموالهم ما يسد الحاجات الضرورية لأغلبية الشعب المغربي، وهذا يقتضي اتخاذ بعض الإجراءات التي يأتي على رأسها: - سن ضريبة على أرباح المعاملات التجارية التي لا يبذل فيها أصحابها جهدا مثل الاستثمار العقاري في شراء أراضي البناء وبيعها وعلى المعاملات في البورصة، وفرض شرائح ضريبية جديدة تصاعدية في الضريبة العامة تتجاوز عشرين في المائة لتصبح 25%، 30%، 35%، بالنسبة للأرباح التي تتجاوز الملايير سنويا... على هذا النحو يمكن توفير الاستقرار للمجتمع وفتح الباب في ذات الوقت لتأهيل الإنسان المغربي ليكون قادرا على الاستجابة لمتطلبات العصر، ما يؤهله ليصير منتجا وقادرا على المساهمة في تنمية ثروات بلده... يرى بعض الدارسين أن المقاولة في أزمة، وبالتالي يجب إعفاؤها من الضرائب إلى أن يتمكن أربابها من استرجاع الثقة ويعاودون الاستثمار، مما قد يساعد على حل المسألة الاجتماعية نسبيا عبر توفير مناصب الشغل. لكن دارسين آخرين يرون أنه إذا كان الأغنياء الكبار يطالبون بإعفاء ضريبي، فإن الفئتين المستضعفة والوسطى في حاجة إلى عدالة ضريبية. وإذا كان هناك من إعفاء ضريبي، فينبغي اتخاذه لصالحهما. ويضيف هؤلاء أن البلاد التي يعاني اقتصادها من العجز وتلجأ إلى الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، ثم تقوم بإعفاء المقاولات الكبرى من أداء مستحقاتها الضريبية، إنَّما تزج باقتصادها في أزمة خانقة.