من المنتظر أن يثير كتاب «الدين والسياسة بين تهافت العلمانيين وقصور الإسلاميين» للمفكّر التونسي سامي براهم، الكثير من الجدل الفكري والسياسي والديني لجرأة مضمونه وأطروحاته، إضافة إلى التقديم، البحوث والدراسات والمقالات التالية: «مثقّف السّلطة وسلطة المثقّف - العلمانية والإسلام في مواجهة التحريف - الدين والسياسة بين تهافت العلمانيين وقصور الإسلاميين - بين الحقّ الإنساني والحقّ الشرعي- حرّية المعتقد والضمير: مقاربة إسلامية - زواج المسلمة من غير المسلم في ضوء حريّة الضمير والمعتقد - الدولة والحقّ - الجذور الفكرية للعنف السياسي لدى الشباب: السلفيّة الجهادية نموذجا - السلفية في مناخ تونسي - العقل الوضعي قارئا للإسلام: قراءة في مشروع الدكتور هشام جعيّط - ليطمئنّ عقلي: قراءة في كتاب «ليطمئنّ قلبي» للدكتور محمّد الطالبي - تمثيل الأنبياء بين غياب النصّ وحضور الفتوى أو التجريب الاجتهادي - عقائد المسلمين بين الإيديولوجي والمعرفي أو مدخل إلى علم الكلام - أمريكا والإسلام: جورج بوش (1796 / 1859) نموذجا - تصريحات بينديكت السادس عشر وبيان نوسترا آيتاتي: انحراف أم امتداد - الآخر الأقصى في ضوء ميزان التّكفير بين الفيصل والمستصفى للغزالي - التشوّف آلية لتجدّد الأحكام - فلسفة القدر عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من خلال تفسير التحرير والتنوير - إلغاء عقوبة الإعدام من منظور إسلامي - ويختتم بملحق خاص فيه أهمّ الحوارات التي أجريت مع مؤلّفه بعد الثورة. وما يوحّد بين هذه البحوث والدراسات هو البحث في المفاهيم وتفكيك النصوص واستنطاقها وترك المجال لها لتعبّر عن إمكاناتها الدلاليّة الكامنة واختبارها في ضوء القيم الكونيّة للعصر وحاجاته الراهنة. وقد كتبت فصول الكتاب في سياقات مختلفة بعضها أكاديمي وبعضها مقالات رأي المؤلّف تركها على علاّتها دون تنقيح لتكون شاهدا على بعض هواجس ما قبل الثورة ومشاغلها. وتنفتح جميعها على قضيّة مشتركة مركزها إمكان تأسيس شروط منهجية معرفيّة لإسلام مواطني بما تعنيه المواطنة في أبعادها الإجرائيّة العملية من مساواة تامّة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص في المنافع والأعباء بين المواطنين في العالم دون تمييز باعتبار اختلاف اللّون والعرق واللّغة والانتماء الديني والمذهبي والثقافي والجهوي وهي القيم التي يمكن أن نختبرها في منظومة الهويّة. إن ما ورد في هذه المقالات من تصوّرات وتأويلات لا تعدو أن تكون مداخل أخرى للتفكير في قضايا طالما أثارت جدلا إيديولوجيا محتدما واصطفافات حزبية وفرزا سياسيا. كما أنّه في هذا الكتاب يقوم بقراءة نقدية لمشروع المفكّرين التونسيين هشام جعيّط ومحمّد الطالبي. وعرف المؤلّف كأحد أبرز المختصّين في الحركات السلفيّة الّتي خصّص لها حيّزا هامّا في هذا الكتاب. ويؤكّد المؤلّف أنّ كتابه: «الدّين والسياسة بين تهافت العلمانيين وقصور الإسلاميين» الصادر عن «منشورات كارم الشريف» ويندرج ضمن السلسلة الفكرية. وجاء في 416 صفحة ليس عنوانا للإثارة بل للتشخيص والتوصيف وليس للتعميم بل لتحديد مواطن الارتباك في الخطاب الفكري والسياسي الرّاهن... ليس التهافت مطلقا ولا القصور مزمنا، بل هما رهينا سياسة الاستبداد والتصحّر الثقافي وتدمير الحياة السياسية وتخريب المسار الإصلاحي التنويري الذي شهدته تونس طيلة أكثر من نصف قرن من الزّمان. ويحاول المؤلّف عبره أن يسهم في الحراك المجتمعي من موقع المثقّف والباحث. ويرى أن: «معضلة الدين والسياسة في الشرق الإسلامي تتمحور حول تأويل النصّ والمسلمون المعتقدون في مبادئ الإسلام أو الوارثون لثقافته منذ لحظة اقرأ إلى اليوم يمارسون التجريب التّأويلي بأشكال وآليات مختلفة... ويمكن تصنيف ضروبه ضمن مدارس ثلاث: الأولى تؤمن بأنّ العقل دون النصّ منزلة وتجعل النصّ حاكما على العقل، والثانية تؤمن أنّ النصّ دون العقل منزلة وتجعل العقل حاكما على النصّ والثالثة تؤمن بمعيّة العقل والنصّ وتجعل العقل والنصّ في جدل أفقي ولا تبحث في أسبقية أحدهما على الآخر باعتبارها قضيّة كلاميّة قد لا يترتّب عليها عمل على المستوى الإجرائي المنهجي أثناء التشريع للواقع وبناء تصوّرات تستجيب لحاجاته مستثمرة من ذاك الحوار الجدلي بين العقل والنصّ». ويبرز المؤلّف في كتابه أنّ: «هذه الآفاق في الفهم والمقاربة والتّأويل كانت حاضرة في الجدل الذي أثارته رهانات الثورة التونسيّة التي أدخلت الشرق من جديد لواجهة التاريخ باعتبارها واقعة حضاريّة أعطت الانطباع أنّ هذا الشرق وقلبه الذي نبض من تونس بإمكانه بعد قرون الانحطاط والاستبداد أن يصنع شروط قومة حضاريّة جديدة تؤسّس لحداثة روحها شرقيّة وأفقها كونيّ. لقد طرحت في تونس ما بعد الثورة كلّ القضايا التي ستطرح على الضمير الإسلامي حتى لكأنّ تونس مخبر حضاري لتجربة النهضة العربيّة الجديدة. ولعلّ أوّل إشكاليّة واجهتها الثورة في رهانات التّأسيس ما يتعلّق بالهويّة وأساسا بالبند الأوّل من الدّستور والتوجّه التّأسيسي للثورة الذي يبحث في النمط المجتمعي وهويّة الدّولة ومرجعيّة المنظومة القانونيّة يقدّم الدّليل الموضوعيّ أنّ ما وقع في تونس منذ 17 ديسمبر ليس حالة ثوريّة أو مجرّد سقوط لرأس السّلطة بل ثورة بالمعنى السوسيولوجي ولكن الثورات لا تولد مكتملة بل تنجز شروطها وفق نظام تراكمي ولعلّ التّأسيس وطرح القضايا الجوهريّة ذات البعد المعرفي والحقوقي والمدني والأخلاقي والحضاري ضمن حراك اجتماعي متحرّر من كلّ قيود الاستبداد مظهر من المظاهر التي تعبّر عن الشّروط السوسيولوجيّة لهذه الثورة الفريدة التي لم تكن على مثال سابق». ويلاحظ المفكّر سامي براهم في إطار رصد موقف النخب السياسية والفكرية دون عناء كبير أنّنا أمام سلفيتين أو أصوليتين الأولى دينيّة والثانية وضعانيّة تختلفان في المرجعيّة ولكنّهما تتفقان في: انغلاق الهويّة على دلالات محدّدة: انغلاق يقتضي الالتزام عند الدينية / انغلاق يقتضي الإبعاد عند الوضعانية. وخطّة فكّ الارتباط: الأولى مع العصر والثّانية مع الماضي. والتمثّل الحرفي الانتقائي للنصوص عند كليهما. والانقطاع عن التراث عند كليهما وذلك بحصره في مذهب ضيّق عند الأولى وتهميشه عند الثانية. وبين هاتين السلفيتين مسارات للوسطيّة في السياسة والثقافة وتأويل النصوص. وهذا الالتقاء الموضوعي بين الأصوليتين نجد أثره في إشكاليّة الدّيني والمدني أو مدنيّة الدّين حيث أنتجت كلّ الثقافات أزواجا دلاليّة تعبّر عن الجدل الدّائر في داخلها والحراك الفكري النظري والواقعي العملي الذي شهدته وهي تؤسّس للشّأن العامّ... وقد أنتجت الثقافة العربيّة الإسلاميّة أزواجها الدّلاليّة من قبيل: العقل والنقل / الحكمة والشريعة / أهل الرّأي وأهل الحديث / الاجتهاد والتقليد / التجديد والمحافظة / الأصالة والمعاصرة / وكلّ هذه الأزواج التي تعكس جدلا فكريّا وعمليا نشأت داخل جدلية الدين والشّأن العامّ حيث لا فصل ابتداء بين الدّيني والمدني إذ كان الدين في المدينة وكانت المدينة في الدّين، أي أنّ الدّين كان ينظّم شأن المدينة وكان منظوروه أفرادا من المدينة غير منفصلين عن مناشطها المدنيّة، وكانت المدينة تساهم في تطوير مسائل الدّين من خلال الحوادث والنّوازل التي تطرأ على نشاطها وتدعو إلى تجديد مسائل الدّين وتطوير مناهج النظر، بحيث تراعي مصالح المدينة ونسق تطوّرها ... وفي خضمّ هذا النشاط الجدلي التفاعلي بين الديني والمدني لم ينشأ زوج دلالي قائم على التقابل بين الدّيني والمدني أو الدّيني والسياسي، إذ هذا الزّوج الدّلالي نشأ ضمن مسارات ثقافية أخرى لها سياقاتها وملابساتها الخاصّة. إنّ هذا الكتاب بيّن فيه صاحبه أنّ الخلاف الجوهري اليوم ليس بين الدين والمدينة أو الدّيني والمدني، بل بين قراءة للدين تساهم في صلاح المدينة وإعمارها المادي والمعنوي والانتصار للمدنيّة بما تعنيه من ترسيخ للحسّ المدني وقيم المواطنة والكرامة الإنسانية والمساواة والتعايش والحرّيات العامّة والأساسيّة والمعارف العقلانيّة، وقراءة أخرى تساهم في تخريب المدينة وتدمير إعمارها المادي والمعنوي والقيمي والرّوحي. وفي تقديرنا أنّ كلا السّلفيّتين أو الأصوليتين الدّينيّة الحرفيّة المتشدّدة واللائكية اليعقوبيّة المتطرّفة تكرّسان قراءة للدين تفضي إلى خراب العمران وتكريس الاستبداد السياسي والإرهاب الفكري... وبينهما مسارات للمدنيّة تستثمر أفضل ما في ثقافة الذّات التّونسيّة الرّاهنة من قيم تراثيّة وإصلاحيّة تنويريّة أصيلة لها راهنيّتها وأفضل ما في الروافد الثقافية المعاصرة من قيم كونيّة إنسانيّة. لا باعتبارها وافدة دخيلة، بل باعتبارها جزءا لا يتجزّأ من منظومة الهويّة». ومؤلّف الكتاب سامي براهم مفكّر تونسي من الجيل الجديد، وهو باحث في قسم اللغة والآداب العربية والحضارة بالجامعة التونسية متحصّل على شهادة الماجستير في اللغة والآداب العربيّة تخصّص حضارة بملاحظة حسن جدّا عن بحث موضوعه: «المعتزلة من خلال كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري» سنة 2005 . وبصدد إعداد رسالة دكتوراه عن موضوع «منظومة الإجماع في أصول الفقه: مقاربة نقديّة». له العديد من الدراسات والبحوث والمقالات الفكرية حول الإسلام والتراث والأديان وراهن الفكر العربي منشورة في مجلاّت ودوريات تونسية وعربيّة. شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية في تونس وخارجها. يشغل حاليا منصب مدير مركز الشيخ محمّد الفاضل بن عاشور للثقافة والفنون «التنوير». وهو عضو بعدّة مراكز بحث ومنظّمات وجمعيات منها وحدة بحث حوار الثقافات بجامعة 9 أبريل بتونس ومنظّمة العفو الدولية فرع تونس وجمعية «منتدى الجاحظ» بتونس.