في محطة قطار مدينة فاس و عند العربات المهملة، يعيش اليوم عشرات و ربما مئات من شباب، ألقت بهم القارة السمراء خارج مواطنهم: غانيون، ايفواريون، كونكوليون، سيراليونيون........ صار المشهد مألوفا، مشهد يومي، لؤلئك المعذبين في الأرض، الذين حركتهم في الأصل رغبة أو طموح في العبور إلى الضفة الأخرى، فوجدوا أنفسهم بعد سفر طويل، امتد بالنسبة للبعض منهم ألاف الأميال، يعيشون داخل عربات صدئة يفترشون ما تبقى من تجهيزاتها الخشبية أو الحديدية، باحثين كل يوم عن لقمة عيش بالتسول حينا، وبالبحث في القمامة حينا، وبحمل الأثقال عند أسواق بيع الخضر أحيانا، وباستدرار عطف زوار المقابر، أحيانا أخرى، معظم هؤلاء المعذبين في الأرض شباب في مقتبل العمر، ودعوا مناطق الغابات و السفانا، يحلمون بغد أفضل و بمدخرات يعودون بها إلى أوطانهم عند مطلع كل صيف، مثلما كانت تبرز لهم الصور الملونة التي تقذف بها القنوات التلفزية و التي كانوا يستهلكونها بينهم و بثقة كبيرة. نظرات هؤلاء و أنت تقابلهم جيئة و ذهابا تلخص أزمة عالمنا المعاصر ولعل أول ما تلخصه هو تفاقم التباين في الثروات و في الإمكانيات الإقتصادية وفي أسباب العيش بين شمال المتوسط و جنوبه. نظرات هؤلاء توحي بأن عالمنا مقسم فعلا بين القادرين على العيش في أوطانهم في هدوء و طمأنينة و بين من تدفعهم الحاجة دفعا إلى ركوب مخاطر السفر برا أو بحرا للوصول إلى ما كان في مخيالهم، يوما ما، حلما أو جنة عدن، و لكنه يتحول كل يوم إلى سراب يرمز إليه مأواهم في مدينة فاس، تحت عجلات العربات غير المستعملة، في أقاصي أركان محطة القطار. جزء كبير من هؤلاء الأفارقة، فقد في ما يبدو الأمل في العبور إلى الديار الإسبانية أو الإيطالية أو الفرنسية بالشكل الذي خطط له في البداية حينما اعتبروا أن المغرب لن يكون بالنسبة إليهم سوى محطة جغرافية مرحلية أو بوابة ظرفية قد يستقرون فيها لأسابيع أو شهور في أسوأ الحالات قبل الرحيل إلى نعيم المقام الأوربي، نعيم جرى تكثيف المشاعر بخصوصه في خيالهم الطفولي . لقد تعود هذا الشباب القادم من أعماق القارة السمراء يحمل حلما إفريقيا بتحسين الحال على المقام الطويل في المغرب و أصبح وصفهم أشبه ما يكون بوضع ما يرمز له الفيلم الشهير " نومانزلاند " ويبدو واضحا اليوم أن هؤلاء الوافدين من أفق بعيد، وجدوا لدى المغاربة بما في ذلك البسطاء منهم و الفقراء تفهما كبيرا مشوبا بنوع من العطف الطبيعي، كما وجدوا فيهم مساعدين على قدر ما هو متاح من إمكانيات، وقد بين هذا الوضع أن بلدنا قد أصبح بمصادفات العولمة، وإكراهات الاقتصاد العالمي،أرض استقبال لهذا النوع الجديد من الهجرة، بعد أن كان مصدرا لها، بل أكثر من ذلك وجد المغرب نفسه في ظرف قياسي بلدا تتسع أريحيته لما ضاقت به أريحية أغنياء الغرب الذين يصممون كل يوم على سد الأبواب والمنافذ أمام الهجرة القادمة من الجنوب، رغم الحديث المكرر عن الانفتاح والتحرك الحر لمختلف عناصر و قوى الإنتاج. بسطاء الأفارقة المتحملين لبرد الشتاء القاسي، برد مدينة فاس، و هم قابعون متزاحمون داخل العربات، لا يفهمون بالطبع هذا الكلام حول العولمة ونفاق الغرب، و لكنهم يفهمون شيئا واحدا أن إخوانهم في الإنتماء القاري، أي المغاربة هم أرحم بهم و أرفق من أولائك الذين يدبجون الخطابات حول الانفتاح و التبادل الحر، و هذا درس كبير من المفروض أن تنتبه حكوماتهم إلى مغزاه في المستقبل.