بالأمس من مرتفعات قلعة حلب, كان بإمكان الزائر أن يقرأ آلاف تجاعيد المدينة وإرث الماضي الطويل وطاقة المستقبل. أما اليوم، فإن الآلة الهمجية لنظام بشار الأسد التي كشفت عن أنيابها هي التي يمكن قراءتها إذا أمكن الوصول إليها دون أن يدفع حياته ثمنا. في أي بلد آخر يمعن جيش في قصف ممنهج لشعبه؟ في أي بلد آخر غير سوريا ترى الطائرات الحربية ولا شيء يتهددها تطلق وتقطع وتدمر وتقصف بهدوء في قلب البلد والأحياء التي ترفض الرضوخ للنظام؟ لسوء الحظ المطرقة المدمرة العاملة في مدينة حلب شمال سوريا لا تثير اهتمام أحد والأسباب متعددة، الملأ أمام تراكم المجازر. الخنوع أمام شلل الدبلوماسية، المسافة التي بدأت ترتسم تجاه الربيع العربي بعد حماية الانتفاضات والانتقالات الملتوية التي جاءت حتى الآن أصولية أحادية وذات اتجاه واحد. هذه اللامبالاة الآثمة هي أكثر من ذلك, بالنظر لما تكشف عنه مجازر حلب والتي تنقلها عدة شهادات, لامبالاة لها عدة أسباب , هل هو الدعم الشعبي الذي مازال النظام يدعيه؟ دعم ينتزع من تحت تعذيب القصف المتوالي إلى أن تطلب الرحمة لكي تتوقف المذبحة... »»الثورة المضادة«« في سوريا لم تستطع كسب القلوب بل إنها تمحيهم من على الخريطة واستعمال طائرات »الميغ« دون أدنى اعتراض من موسكو لا يؤثر على أدنى تطور في الموقف لدى روسيا. وتدخل الدول العربية المناهضة لسوريا والتي تستغل التمرد لتصفية حسابات قديمة وتغيير خارطة التحالفات لصالحها؟ ولكن إذا كان قصف حلب يشهد على شئ غير عجز النظام على فرض تواجده على الأرض، فإنه يشهد على الخصاص الذي يميز رجال الجيش السوري الحر. لا أثر في حلب للأسلحة التي توفرها العربية السعودية وقطر والتي قد تبرر باسم توازن مزعوم ومشكوك فيه لميزان القوة, تزويد النظام السوري بالأسلحة الروسية والايرانية. أما عن الجهاديين الأجانب الذين يجدبهم المستنقع السوري، فإن تواجدهم إذا ما تأكد يبقى محدودا وهامشيا. ما تقوله حلب هو ببساطة مرعبة لن يكون هناك جواب غير الجواب العسكري على التحدي العسكري الذي يطرحه نظام دمشق, تسليح حقيقي للمعارضة, تدخل محدد ومستهدف سواء كان ذلك فعليا أو رمزيا، فالصراع لا يوفر بدائل أخرى لتفادي السيناريو الأسوأ الذي تجري كتابته. ماهو هذا السيناريو؟ الانتفاض الشرس أكثر فأكثر لجيش لا يظهر على قلبه المتماسك مؤشرات التآكل. تطرف أكبر لمتمردين يمقتون المتمنيات الجوفاء للغرب, وفي النهاية تشكيل منطقة رمادية من لبنان إلى العراق، تكون فريسة لتوترات متعددة. القصف بلغ درجة من الكثافة والحدة إلى درجة أنه في الشوراع يتم جمع الجثت والناس المصدومين والطيور الميتة, كل يوم, القنابل الحكومية تقتل وتصيب بالعاهات وتجرح نصف سكان حلب, الدمار بلغ حدا أصبح من الصعب العثور على الكلمات لوصفه، متى وصلنا هذا الحد، هذا الانطباع بأن كل القواعد قد اختلت؟ هل أمام مستشفى يصل إليه أطفال ملفوفون في خرق مثل أمهاتهم مزقتهم نفس القنابل؟ أم أمام ذلك المبنى من خمس طوابق نسف عن آخره بانفجار واحد وسكانه دفنوا تحت الأنقاض والناجون منهم في طريقهم لأن يصبحوا مجانين؟ أم من رصيف وأنت تنظر مشدوها طائرات تلقي بقنابلها في آخر الزقاق مثل خيط أسود يخترق هواء حلب، كما في مناورة لقتل أناس آخرين وتفجير مباني أخرى؟ يوما بعد يوم ترتسم حملة التدمير في جسد المدينة, قذيفة تدمر قاعة الأكل بمن فيها تبدو فجأة كارثة من الدرجة الثانية غير بعيد قنابل تزن 500 كلغ تلقيها المقاتلات أو براميل ضخمة من المتفجرات تلقيها المروحيات تسحق وتدمر بنايات بأكملها. نمر ذات صباح من زقاق بعد ساعات يتحول الزقاق إلى ركام يتم إخراج الناس من تحت الأنقاض بالجرافة وفي نفس الوقت تسقط قذيفة أو قنبلة غير بعيد. القتل والهدير لا يتوقفان ، القتل في كل مكان لكنه قتل بالتقسيط كما لو أنه أريد إضافة شكل من التفنن للتعذيب، وكل يوم يتكثف نار السماء كما لو أن ادمغة هذا الدمار بدأت تستقر في المدى البعيد. هذه هي الدرجة القصوى للقمع الذي تصوره النظام السوري. طيلة اشهر ينزل المتظاهرون الى الشوارع وطيلة اشهر استمر قتلهم او تعذيبهم. وبعضهم انتهى به المطاف الى حمل السلاح. في نهاية يوليوز كان الجيش السوري الحر يسيطر على نصف حلب. ومنذ ذلك الوقت يجري القتال في العاصمة الاقتصادية. هل العقاب اعد ليكون في حجم الإهانة؟ لا يمكن أن تزعم أن الأمر يتعلق بانعكاس منطقي للمعركة الجارية التي يواجه فيها الجيش السوري الحر يسيطر على نصف حلب. ومنذ ذلك الوقت يجري القتال في العاصمة الاقتصادية. هل العقاب اعد ليكون في حجم الاهانة؟ لا يمكن ان تزعم ان الامر يتعلق بانعكاس منطقي للمعركة الجارية التي يواجه فيها الجيش السوري الحر القوات الحكومية على عدة جبهات من جنوب غرب المدينة الى شمال شرقها، اللهم اذا اعتبرنا ان الجيش الحكومي يقاتل على جبهة من طبيعة اخرى تقع في البعد الثالث للمجال الجوي والتي تعطيها حرية سحق نصف حلب تحت القنابل. بالنسبة لهذه المعركة. يحرص الجيش النظامي على أن يخصها بما يناسب الجرائم الكبرى, وحدها الدول تستطيع أن تعد لها وتنفذها. لابد من هدوء في التفكير، والكثيرمن المنطق والاصرار لتدمير نصف مدينة يزيد سكانها عن المليونين فقط لأن عددا قليلا من المسلحين (يؤكدن أن عددهم 9000 رجل، وذلك يبدو مبالغا فيه) يوجدون فيها، ولأن المتظاهرين يواصلون كل جمعة مطالبة الرئيس بشار الاسد بمغادرة السلطة. وبينما تتساقط القنابل حاولنا البحث عن مقارنات ضمن لائحة المدن التي دمرتها جيوش أنشئت في الأصل لحمايتها وأمنها. فكرنا في الوسائل الشيطانية للجيش الروسي وهو يدك غروزني بطائراته ودباباته وقذائفه. فكرنا في سكان سراييفو الذين قصفوا أمام أعين العالم. فكرنا في أحياء موقاديشيو التي انمحت من الخريطة. ربما غرنيكا؟ غرنيا في ذاكرتنا بسبب قصفها وايضا لان بيكاسو خلد هذا الشيء الذي يصعب قوله: هذا الألم، و تلك الفظاعة وذلك الدمار؟ عندما لا تسعف الكلمات, فإن الجنون لا يكون بعيدا. عندما يكون نظام يتوفر على الاسلحة تسمى اعتباطا اسلحة دمار شامل، واسرابا من المقاتلات والمروحيات والمدافع والقنابل والقذائف والرشاشات الثقيلة. ويستعملها ضد شعبه، فإن ذلك يجسد حلب وهي تحترق وتدمر، ويعني انك تصاب بالجنون. الجيش السوري اقدم في السابق على عمليات مماثلة في مدن اخرى، في لبنان أعلى اراضيه، في سنة 1982 في حماة، اسفر تمرد، قاده في البداية الاخوان المسلمون، عن نفس المصير: أحياء بكاملها اختفت من الخريطة.. لم يكن وقتها نشطاء يصورون بهواتفهم النقالة الأحياء المدمرة، قبل بت صورهم التي تتجاوز كل فهم، لم يكن هناك شهود اجانب في سوريا المغلقة آنذاك, حيث كانت كل الضربات مباحة. في حلب، الامر مختلف، لكن الاخبار الواردة منها محيرة، الشهادات نادرة، لانعرف بالضبط عدد الضحايا, هل لأن حلب أصبحت قاتلة إلى حد قتل حتى الرغبة في معرفة ذلك؟ ام لان الصراع عمر طويلا بالنسبة لباقي العالم الذي تبتلعه هموم أخرى. ومع ذلك, فالعنف يبقى بسيطا. طائرات تتناوب طيلة الايام على الاقلاع من المطارات ومدرجات المدينة لتدمر الأحياء المجاورة دون ان تلقى اية عراقيل، الطيران الحربي السوري يعمل، مثل السلطة المركزية، دون رادع. وفي ذات الوقت يتحكم الجيش السوري الحر في جبهات تشبه اكثر فاكثر ساحات دمار. ويلخص قائد ميداني بسخرية قائلا: »فرصتنا، هي رداءة النظام وليس قوتنا الذاتية«. الجيش السوري الحر لا يتشكل من ملائكة، وصلتنا أنباء عن عمليات نهب في منطقة الشيخ نجار الصناعية التي يتحكم فيها، لم نتأكد من الأمر. و كل تنقل أصبح مغامرة معقدة.ذات ليلة شاهدنا منشور بحث مقاتلي أهم كتيبة (لواء التوحيد) عدم اخذ سوى اسلحة وسيارات الشيعة او عدم سرقة الاثاث من المنازل المهجورة.. نداءات تبقى صيحات في واد. هل يغير ذلك من محنة المدينة؟ العذاب الذي يعيشه الرجال والنساء والاطفال الذين يقتلون وهم في طابور امام المخابز مثلا. يوم 30 غشت احصت منظمة العفو الدولية ما لايقل عن 10 مجازر في حق مدنيين كانوا ينتظرون دورهم لشراء قطعة خبز. لم يتغير الأمر حتى الآن. يجب فهم لماذا يستمر سكان حلب في التجمع في اماكن معرضة الى حد الشعور بالخوف والرغبة في الفرار علي الفور،. فقط، وببساطة لأنه لا خيار امامهم، لأن الخبز يباع بثمن محدد في هذه المخابز المدعومة 8 ليرات سورية، (اقل من 10/1 اورو) الخبز يبقى من الميزات الحسنة التي وفرها النظام السوري للطبقات الفقيرة. والحاجة اليه منذ ان استقرت الحرب الاهلية في حلب اصبحت اكثر الحاحا، لم يعد هناك شغل، ولا زبائن، ولا مداخيل مالية او هي قليلة. في الشوارع، هناك اناس ليسوا مشردين لكنهم يبحثون في اكوام القمامة بحثا عن الطعام. هناك نساء ماكن يتحدثن الى اجنبي، لكنهن اصبحن مجبرات على محاولة بيع بعض السجائر. في حلب يجب التساؤل حول طريقتك في العيش كما تتساءل كيف تموت؟ اليس الامر كما لو انك مجنون؟ او ربما صافي الذهن تماما مثل ذلك القائد على جبهة حي صلاح الدين، الذين سألنا وهو يعرف الجواب، عما يمكن ان نفعله لوقف المجزرة. لك ان تتحدث عن مجلس الامن وعن قواعد ومناورات الدبلوماسية الدولية. مع رجل تحت رحمة قديفة دبابة في جانب الزقاق حيث يقاتل نهارا وليلا، امام واجهات بنايات يخرج منها الموت دون ملل، لك أن تقول له ان فرنسا كانت تود لو انها تفعل اكثر. حدثته عن الحكومة والتزاماتها وعن المعارضة وانقساماتها وعن الازمة الاقتصادية التي ترهق اوربا. السؤال، في نهاية المطاق ليس مصيدة لغوية، تجبر, تفرض اختيارك الموقع وسط الحطام. الشيء الوحيد الذي تحتفظ به هو ان الرجل في العمق كان لبقا بطرحه السؤال، لأنه كان بإمكانه أيضا أن يضيف: اذا كنتم قد جئتم الى هنا لكي يطلق عليكم النار هكذا بدون فائدة، من الأفضل ان تعودوا من حيث أتيتهم، ما الفائدة من عباراتكم وتساؤلاتهم وحكوماتكم، إذا كانت فقط من أجل أن تتركنا نموت؟ حلب الرئة الاقتصادية لسوريا تحتضر منذ عدة أسابيع تحت قنابل جيش بشار الأسد، في هذا التقرير نقدم شهادة مبعوثين صحافيين لجريدة لوموند من قلب هذا العنف الأعمى وغير المسبوق