تأملا في الأحداث والممارسات السياسية والاقتصادية المتراكمة عربيا ومغاربيا بعد ما سمي بالربيع العربي، وفي التطورات ومنطق سلوكيات الفاعلين مغربيا، يتضح بجلاء أن هناك هوة كبيرة ما بين الخطابات ذات الطابع الطوباوي والممارسات الميدانية "التفعيلية". لقد تأكد كذلك أن الشعارات الداعية إلى الالتزام بالفضيلة كقيمة، وبخطابات "المدينة الفاضلة"، هي مجرد طوبى يتم إثارتها لتأجيج النزعات الانفعالية التي تعبد الطريق لمحترفي هذه الخطابات للوصول إلى المنفعة والمصلحة، وسيادة المنطق "البراغماتي". إنه واقع قديم في التاريخ العربي الإسلامي استمر بنفس المنطق إلى يومنا هذا، تاريخ لم يتوقف من خلاله يوما الفقهاء ومحترفو التيارات المحافظة بالمطالبة والدعوة إلى النضال أو الجهاد من أجل الخلافة والإمامة وتطبيق الشريعة وفرض "مكارم الأخلاق". يتم التشبث برفع هذه الشعارات الطوباوية بالرغم من كون التاريخ التراثي أثبت محدوديتها وعقمها السياسي والاقتصادي والثقافي على مستوى الواقع. وإن دل هذا على شيء, فإنما يدل بالواضح أن هذا التشبث ليست دوافعه تعبدية بريئة يراد منه نيل مرضاة الله، بل هو تشبث بأحد مصادر "الشرعية" السياسية القوية التي تثير النزعات الانفعالية المؤيدة. فطوال القرون الأربعة عشر الماضية، بقيت المطالبة بالخلافة والإمامة، كأساس لتحقيق العدل والعدالة الاجتماعية والإنصاف والمساواة، مجرد تمثل طوباوي بدون وقع ملموس على الواقع المعيش بمجالاته المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبضمان استمرار الهوة ما بين الطوبى والواقع، سادت "التقليدانية" في المجتمع وترسخت في الروح الجماعية والفردية للمحكومين، وساهمت في خلق الزعامات الواهية، وحافظت على امتياز الرواد. وبنفس المقاصد، تحولت الشعارات المطالبة بالمساواة و"ديكتاتورية البروليتاريا" عند رواد الحزب الواحد عربيا إلى طوبى أججت غضب القوات العمالية والقواعد الشعبية الفقيرة، وتحولت بعد ذلك إلى انقلابات أتاحت الفرصة لظهور أنظمة سياسية جديدة بمنطق مصلحي براغماتي صرف، والتي تعرضت بدورها للغضب الجماهيري زمن ما يسمى ب"الربيع العربي". عاش العرب هذا المنطق في زمن كان فيه الغرب يخطو خطوات سريعة في اتجاه الحداثة وما بعد الحداثة في السياسة والاقتصاد والثقافة، خطوات جعلت "البراغماتية" والدقة في التعامل أساس التعاقد ما بين الفاعلين والمواطنين في كل المجالات. فبعد انتهاء الحرب الباردة، وهدم جدار برلين، تحول شعار الحرية الفردية والجماعية في السياسة والاقتصاد، والحق في المبادرة، والدفاع على حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، إلى طوبى في العالمين العربي والمغاربي، طوبى مكنت الإيديولوجية النيوليبرالية من ترسيخ البراغماتية الاقتصادية عند فاعليها بالشكل الذي يخدم مصالح الشركات الكبرى العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات. عاش العرب والمغاربيين هذا الوضع في وقت كان فيه الغرب قد ابتعد نهائيا عن العموميات في الخطابات، والمشاعر الفضفاضة، والشعارات الطوباوية في السياسة، وأقر، بعدما حقق ثورة ثقافية حقيقية رسخت الفصل ما بين الدين والسياسة، ضرورة تجاوز الخطابات الطوباوية المثالية لتحل محلها "البرامج" السياسية الفكرية الإيديولوجية الدقيقة المعتمدة كمرجع وحيد وفريد للتعاقد والمحاسبة بعد نهاية الفترات الانتدابية في مختلف المستويات الترابية وأساس التنافس على خدمة المواطنين. خلاصة لقد تأكد فكريا، عربيا ومغاربيا، أنه مهما رفعت شعارات العدل والعدالة الاجتماعية والإنصاف والمساواة وتساوي الفرص والالتزام النضالي بالقضايا الإنسانية عند مختلف التيارات الإيديولوجية، إسلامية كانت أو ليبرالية أو شيوعية، ستبقى في نهاية المطاف مجرد طوبى "مخيالية" انفعالية لن تخدم إلا المنخرطين في الشبكات البراغماتية النفعية ما لم يتم التعاقد الواعي ما بين الفاعلين الأساسيين والمواطن على أساس برامج سياسية واضحة فكريا ودقيقة في الأهداف والأرقام، تعاقد تتحمل فيه الحكومات كامل مسؤولياتها أمام البرلمان. كما تبين اليوم مغربيا أن التمادي في الحفاظ على المنطق الطوباوي في الخطابات السياسية لن يمكن البلاد من الخروج من مرحلة الانتقال الديمقراطي، بل أكثر من ذلك قد يخضعها في المستقبل لإكراهات قد تعصف بالمكتسبات المتراكمة في مختلف المجالات. ففي زمن العولمة والشمولية لا يمكن "للطوبى" أن تبقى الوسيلة الأكثر استعمالا "لشرعنة" الرواد والزعامات بدون أن يكون لذلك وقع ملموس على واقع المواطنين. وعليه، نستنتج في الختام أن تقمص دور القيادة في تدبير التغيير والتطور في بلادنا على أساس الخطابات الطوباوية والأخلاقية المثالية المجردة (وكأن البلد المعني يبتدئ من الصفر) بدون إعطاء أي أهمية لضرورة ربط الفكر بالواقع والحكم على أساس البرنامج التعاقدي، سيبقى في العمق مجرد ديماغوجية سياسية انتهازية. ومع ذلك، نلاحظ في بلادنا استمرار هذا المنطق بشكل من الأشكال وتصونه وترعاه وتدبره "آلة" ضخمة لا تقبل إلا من يفهم اللعبة ويتقنها وينخرط فيها باستمرار ("آلة" محافظة جنودها الأتباع الطائعين). الغريب في الأمر، أن من يتشبث بالموضوعية في التفكير والتعبير والفعل، ويناضل من أجل العقلانية والديمقراطية والحداثة، تعتبره الآلة السالفة الذكر مجرد فاعل مولوع ب"الاستئساد" (مشتق من كلمة أسد) على الدولة والمجتمع أو "مغرور" بنفسه يسعى إلى زعزعة معتقدات المغاربة والاستقرار السياسي للبلاد. وكلما تمادى في الاستمرار في إصدار مواقفه وأفكاره تتالت أمامه الإشارات التي تحذره بكون "الدولة" و"الجماعة" لا تنسى من "يستئسد" عليها، وأنها تتوفر على الآليات للمتابعة للتأكد من المقاصد والنيات، حيث تكون ردود أفعالها مع مرور الوقت مختلفة ومتنوعة وقوية وموجعة. إنه الحرص على الحفاظ على "التقليدانية" كأساس لمأسسة العلاقة ما بين الحاكم (الحكومة) والمحكوم (الشعب) والتي لا تطيق في العمق السلط المضادة لمنطقها (المنطق السياسي السائد). وفي نفس الوقت، فالمشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، الذي دعا جلالة الملك مرارا إلى بنائه، يبقى إلى حد بعيد مشروعا واعدا يتطلب تعطيل "آلة" الضبط والتحكم السالفة الذكر ليحل محلها الانفتاح، والوطنية، والحماس في الدفاع على الثوابت السياسية، والحوار الفكري الحر، والتحديث الثقافي، والحق في المبادرة والحرية في الفعل الميداني، وقبول "الدولة" و"الجماعات والفرق المحافظة" للمختلف معهما ولو كان راديكاليا في أفكاره سواء في اتجاه اليمين أو اليسار.