منذ انتفاضة سيدي بوزيد انتشرت عدوى الثورة من تونس إلى مصر ثم ليبيا والبحرين ثم اليمن وسوريا. باستعمالها شعار "ارحل !" كانت تطلعات الشعوب العربية تسعى إلى طرد القادة الفاسدين ونصرة الديمقراطية، وكان المحتجون يطالبون بتوزيع أفضل للثروات وتحسين جودة حياتهم اليومية بالحصول على وظائف ومساكن من أجل استعادة كرامتهم. في الواقع، هذه الثورات أو ما سمي ب"الصحوة العربية" قاسمها المشترك هو تمويلها من طرف الملكيات البترولية و تأطيرها المحكم من طرف الإخوان المسلمين. والنتيجة هي ما نشاهده اليوم في تونس وليبيا ومصر. لكن السؤال الذي يحق لنا أن نطرحه هو: بأي معجزة يدعم الأوروبيون هذه الحركات التي تسير ضد مصالح تلك الشعوب ظاهرياً ضد مصالح الغرب ؟ إذا كانت دمقرطة هذه البلدان تهمنا، فإن استسلامهما لواقع أكثر استبدادا من سلفه لا يبشر بالخير بالنسبة للمستقبل. وإذا كان الربيع يدوم أكثر من سنتين ولم ينته بعد، فما بالك والفصول الأخرى؟ قد نكون ضد التيار بالنسبة للرأي العام الغربي المتحمس والساذج للغاية، لأن الإنسان يجب أن يكون ساذجا كي يصدق بأن الديمقراطية والحرية قد تتدفق "من مصباح علاء الدين" بفضل الإنترنت، في بلدان تخضع منذ نصف قرن لديكتاتوريات قضت على جميع المعارضات، ولها من الإمكانيات التقنية لتحد وحتى لتمنع تماما الولوج إلى الشبكة العنكبوتية. بعدما مرت فترة الهيجان التحرري وانفعالات أنصار الفيسبوك، كان علينا أن نهضم الأمر الواقع : السلطة في هذه البلدان وقعت بين أيدي القوى السياسية الوحيدة التي كانت منظمة وهي القوى الأصولية الدينية التي نجت من كيد الدكتاتوريات لأنها كانت مدعمة ماليا من طرف الملكيات البترولية التي تتقاسم معها نفس القيم، وكانت كذلك مدعمة سياسيا من طرف الغرب لأنها كانت درعا ضد تأثير كتلة الشرق. في تونس ومصر، الأحزاب الإسلامية والإخوان المسلمون والسلفيون المتطرفون يتقاسمون اليوم أغلبية مريحة في برلمانات منبثقة من الانتفاضات الشعبية. يشاركون في إدارة الوضع بتعاون مع الجيش لأنهم ملزمين باحترام دوره الاقتصادي الفعال والمهيمن وكذا علاقاته الوطيدة بالأجهزة المخابراتية الدولية. ويبتعدون بدهاء عن المطالب الشعبية التي أوصلتهم إلى السلطة. ثابتون في ممارستهم للغة المزدوجة، فإنهم يفعلون بالضبط عكس ما يعلنون: في مصر، بعد أن صرحوا في ميدان التحرير في ربيع 2011 أنهم لا يتطلعون إلى أية سلطة، لديهم اليوم السلطة السياسية المطلقة. في تونس، وبعد تخليهم رسميا عن إقحام الشريعة في الدستور، فهم يقومون اليوم بتنظيم لجان اليقظة لفرض قوانين مستوحاة من الشريعة بعيدا عن أنظار وسائل الإعلام الغربية. هذه الظاهرة تنتشر حتى في العاصمة حيث الحظر من جميع الأنواع : الرقابة على المهرجانات والصحافة وجميع أشكال الفنون، وقمع الحريات الأساسية، وبطبيعة الحال حقوق المرأة والأقليات. وليس لهذه القوى الرجعية ما تخشاه من الانتخابات المقبلة، الممولة إلى حد كبير من قبل الملكيات البترولية التي تعتبرها عربون ولاء العالم العربي، لأن لديها كل الوسائل لشراء الضمائر وإنشاء جيش من العملاء الذين سيعملون على تكريس هيمنتهم ومواجهة ساحة سياسية ديمقراطية مضطربة وبدون وسائل، والتي سوف يكون من السهل التنديد بإلهامها الأجنبي وبالتالي بإلحادها. ليبيا غرقت في حالة من الفوضى. بعد أن تجاوزت قوات حلف الشمال الأطلسي إلى حد كبير التفويض المعطى لها من طرف الأممالمتحدة ودمرت نظام العقيد القذافي السيئ السمعة، وجدت البلاد نفسها مسلّمة لشهية قبائل وعصابات متناحرة، مصممة على الدفاع بالأسلحة عن فضاءاتها المحلية وعن معاشها. تم حل "المجلس الوطني الانتقالي" تحت هجمة زعماء العصابات الإسلامية، والعديد منهم أعضاء سابقين في تنظيم القاعدة، بدعم وبتمويل من دولة خليجية التي تنوي أن يكون لها رأي في أي قرار في حل هذه القضية واتخاذ حصتها من استغلال النفط والغاز في البلاد. في اليمن، الرحيل غير المشرف للرئيس علي عبد الله صالح فتح الباب أمام القوى النابذة التي كانت تزعزع البلاد بشكل متواصل مند سنين. والقبائل السلفية الموالية لتنظيم القاعدة تغذي الفوضى باستمرار بأبواب العاصمة.