ظل حسن نجمي: الشاعر الصحفي: يلاحق طيف: »جيرترود« الرواية، منذ مبتدى ثمانينيات القرن الماضي، طالعته ملامح خيالاتها لأول مرة، وهو يتصفح كتابا قديما، داخل أحد دكاكين بيع الكتب المستعملة »بالمدينة القديمة«، زمنها كان يقيم في مدينة »الدارالبيضاء« ويشتغل في جريدة «الاتحاد الاشتراكي« مجمل الأشياء النفيسة، ربما مضمرة أو مخبوءة في الكتب المهملة المتخلى عنها، غير أن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد »صدفة« كما يتوهم البعض، بل بالإرادة في »»مناولة»« هذه الصدفة، القبض عليها، مساءلتها، وبالتالي التنقيب في ثنيات تجويفاتها حد استنهاضها على مراحل، وبالتالي انصهارها جوانيا ومجريات اليومي، وهي تشغل مساحة من التفكير حين لا صدفة. ما يستوجب السؤال بهذا الخصوص، هو كيف يطارد شاعر طيف خيال رواية في البال، أو بالأحرى كيف يلاحق ملامح خطى: جيرترود شتاين، الكاتبة الأمريكية، كيف يدبر تقنية اقتفاء أثرها، وبالتالي ذبيب ملامح خطواتها، ووفق أية بوصلة للهدي، وهو الشاعر المدموغ بالبراري اللامتناهية للجملة الشعرية البكر، وبالخيال الباذخ على خلفيات واقعية، طبعا، كيف نجزم ولو واهمين، أن حسن نجمي الشاعر، المحتكم من باب مدون في اللوح المحفوظ حق لم يتمثل في مبتدى منتهى مصافحته للكتاب المستعمل المتخلى عنه جيرترود: قصيدة شعرية: لا يمكن أن يغفل »»الشارب»« التفكير وفواكه عناقيد العنب تتدلى يانعة حوله في كؤوس الخمرة المترعة، و كذلك الصياد والطرائد تلاعب لاهية مجال بصره لا يمكن أن يفكر في غير بندقية الصيد، وقس على ذلك. هذه الأمور وغيرها، هي موضوع تبئير من البؤرة الالتباس مضاعفا بخصوص هذه: القضية، شاعر تدركه الرواية، فيركب عوالم أقترافها من موقع القوة، حين ولا مؤشرات قبلية تؤشر على ذلك، إذ استثنيا: تمرينات أو تمارين ما قبل العرض /رواية »الحجاب« والتي لا تضمر ولا تنبئ بساطتها العادية عن فتنة رواية لافتة في الأفق هي مجمل مكونات العرض الروائي ومركزة: نعلم جميعا، حتى لا تأخذني يدي للنسيان، أن غير قليل من الشعراء ركبوا تلاطم أمواج بحر الرواية، وأن حدود مغامرة تجربة هذا الركوب وصمت أعمالهم ببلل صفة »الرواية الشعرية« وذلك أضعف الإيمان إذن، ما الذي حدث بخصوص تشييد معمار رواية جيرترود: تستوي وتستقيم، إضافة نوعية في تراكم المشهد الروائي المغربي، بل تتأبط بنية نظام تفكيرها وأجوائها، دونما مواربة تأشيرة العبور بامتياز الى رحابة الكوني عن طريق المحلي.. ووفق أية آليات تم الاشتغال على هذا الامتياز حد الاختراق. »الاختراق« غير المطابق ولا المتجانس، بديهيا، منذ البداية، يهم رواية يكتبها ويوقعها، شاعر خفي، لا مرئي، من القدرة على التماهي حد التقمص المدوّخ وشخصية صفة الروائي ومجمل مكونات انشغالاته وذبذباتها، الأمر لا يتعلق هنا بمجرد تمثيل دور عابر في مسرحية عابرة، بل بالقدرة على التحول الانقلابي من الداخل، حد محو الشاعر وإبادته، وهو أمر صعب، لا أعرف كيف تم تدبيره بالقياس الى »شاعر« أدمن الشعر حد خفقات الروح، أمر لا ينتظم ويستوي في اعتقادي بغير التمثل حد الانصهار وكينونة الروائي والحلول ضمن مكونات تركيبته التي ترهن إيقاع بنية نظام تفكيره، وأعتقد شخصياً أن هذا هو ما حدث بالفعل، انطلاقاً من ممارسة العنف على الذاكرة: الذاكرة الشعرية وما تختزنه من قاموس لغوي محدد، على حساب لغة وظيفية تليق بمواصفات الروائي، رغم أن الأمر لا ينفي الاحتفاظ بالشاعر في السريرة والتعايش معه بشكل حذر، مروراً بضخ دماء جديدة، ربما، تليق وشساعة فصول الرواية، أمكنتها أزمنتها، تعدد شخوصها وتضاربها، إلخ... والسؤال الأساسي بهذا الخصوص، هو كيف تنصَّل، حسن نجمي بهدوء وسلاسة من مكونه الشعري على حساب استتبات خيمياء الروائي في مختبر... مكونات جسده؟ قد يقول قائل، إن الزمن الطويل الذي استهلكته هذه الرواية من عمر صاحبها، هو الذي وضع مسافة بين صفته، شاعراً يلاحق خيالات خطى جيرترود، بنفس روائي، بمعنى أن الزمن هو مشتل خيمياء مختبر الروائي داخل جسده؟ وإذا كان هذا الرأي يحتمل الصواب، فهو يحتمل الخطأ أيضاً، على اعتبار أن الرواية جيرترود، تلاحق أنفاسها على مستوى النسيج والبناء، المدموغ بثراء لغة وظيفية مشبوكة حد البهاء، دونما أدنى تقطيع أو تشظي. غير أن السؤال الأساسي، مرة أخرى، هو أين احتفظ »الروائي« بالزمن الذي نسج داخله بنية روايته، وهل كانت تلازمه من قريب أو بعيد المتغيرات في بنية المجتمع المغربي، وبالتالي في تركيبة مختلف الأرواح التي تؤثثه وتشد أزره، أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، بداية الانفراج، وإطلاق سراح أول دفعة من المعتقلين السياسيين بموجب عفو ملكي، 1984 وهي ذات السنة التي انشغل فيها حسن نجمي، بترصد طيف خيالات جيرترود انشتاين، أي ذات السنة التي بدأت هذه الأخيرة جيرترود تكتبه جسدياً، وهي تلاحقه بدورها. لذا ذات طعوم المعنى، هي ما يمْهر بُرهان، هذه الرواية العصية والمشرعة في آن على الأبدية كالبحر وكالصحراء، على خلفية تداخلات صفات الأنساب الروائية ضمن بنية شكل مُتراص حد العضوية: التاريخ المدموغ بملامح التوثيق دونما نأمة إزعاج، والمضمر ضمنياً شأن الرحيق بما يشبه السيرة اللامرئية، داخل وعاء لغة متعددة في وحدة لا تُضاهى، مشفوعة بمحو يكتب محواً، وبياضات مقروءة تستحضر المزاج و الجنس المتكتم حد الطفح بشكل رائق: تقنية الشكل الجمالي وهو يعتلي قطاف فواكه هذه الرواية شأن الشجرة المباركة، هو ما يستوجب في رأيي الإحاطة والإلمام، ونحن نجني ثمارها. غير أن ما لفت انتباهي، حقاً، ومن موقع سلبي، وأنا أرصد بعض القراءات التي واكبت، صدور: جيرترود، هو هذا التهيب أو الإحجام بخصوص التأشير على منحى »الخطاب السياسي«، ضمن مختلف الخطابات التي أثمرتها شجرة جيرترود، وإن بشكل رمزي لا يحتاج إلى مفاتيح سحرية: محمد الطنجاوي، التابع لظل جيرترود الأمريكية، ذات الأصول اليهودية، والمتخلى عنه في نهاية »اللعبة« بشكل مهين، ألا يحيل ذلك من باب التأويل المشروع، على فصول التبعية اللامتناهية للغرب بما في ذلك، أمريكا، لا أعرف. الرواية، ها هي. القراءة الإيديولوجية السياسية. فينا هي؟