رد الباحث سيمون بوتر النجاح الذي حققته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» على مدى عقود إلى سعي صنّاع القرار في بريطانيا تكريس نفوذها بوصفها إمبراطورية إعلامية جديدة بعد فقدانها قوتها ونفوذها الاستعماري. وفي دراسة، هي الأولى من نوعها في هذا السياق، وحملت عنوان «إمبراطورية الإعلام: بي بي سي والعالم البريطاني، 1922-1970»، يشير سيمون بوتر إلى أن المملكة المتحدة سعت إلى تسخير الآلة الإعلامية المتمثلة في البداية في إذاعة «بي بي سي»، ثم في ما بعد في بقية مؤسسات الهيئة، لتدعم نفوذها في العالم بعد أن بدأت تتغير ملامح القوى العالمية. وتحيط هذه الدراسة العلمية الشاملة بكل جوانب الدور الكبير الذي لعبته الإمبراطورية الإعلامية «بي بي سي» في دعم الإمبراطورية البريطانية في الداخل والخارج. يذكر أن «هيئة الاذاعة البريطانية» تمول من دافعي الضرائب البريطانيين، ويرغم كل منزل يحتوي على تلفزيون دفع ضريبة سنوية تقدر 137 جنيها إسترلينيا. ولا تسمح الهيئة ببث الإعلانات التجارية للحصول على مقابل. ويتناول بوتر عبر عدة فصول بشكل دقيق تاريخ تطور أشهر هيئة إعلامية في بريطانيا والعالم منذ نشأت سنة 1922، تحت مسمى شركة الإرسال والاذاعة البريطانية ثم تطورها سنة 1927 إلى هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»، وكيف تحوّلت هذه الشبكة الصغيرة إلى لاعب أساسي في أهم الأحداث التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وكيف ساهمت في تشكيل مجرى هذه الأحداث، خصوصا خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة التي كانت بريطانيا لاعبا رئيسيا فيها؛ مثلما ساعدت المملكة المتحدة في بسط نفوذها من خلال نشر الثقافة البريطانية والترغيب فيها خاصة في أهم مستعمراتها: مصر والهند. ويشير الباحث في هذا الصدد إلى أن المسؤولين في هيئة «بي بي سي» كانوا يدركون أهمية هذه الوسيلة في تعزيز أواصر الإمبراطورية البريطانية والتأثير في المجتمع البريطاني داخل المملكة المتحدة وايرلندا وأيضا التأثير في الشعوب خارج حدود المملكة. وتطور دور «بي بي سي» أكثر حين بدأ نجم الامبراطورية البريطانية يهوي، وفق ما جاء في الدراسة، حيث استعانت بها الحكومة للدعاية من أجل الوحدة الوطنية والاستقرار الاجتماعي والثقافي والسياسي. كما استخدمتها لإظهار نفسها أنها تشجع السلام والنظام الدوليين وتدعو إلى القيم الديمقراطية، مما ساعدها على الاحتفاظ بتأثيرها كقوة عالمية. ومن خلال وثائق أرشيفية يسلّط بوتر الضوء على الدور الذي لعبته هيئة الإذاعة البريطانية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين كأداة تعبئة واستقطاب، بعد أن أصبحت في يد الصفوة البريطانية التي «أمّمتها» بالاتفاق مع ملكة بريطانيا لضبطها وفق أسس وقواعد مضبوطة حتى لا تؤثر على المجتمع البريطاني وتدعم المملكة المتحدة في الخارج وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط. وتجدر الإشارة إلى أن الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين شكلت مرحلة ذروة التسابق الإعلامي للوصول إلى الجمهور العربي، ومحاولات استمالته بين القوى الدولية المتصارعة، بين بريطانيا عبر «بي بي سي» وألمانيا عبر إذاعة «صوت برلين» الناطقة بالعربية. وفي إطار هذا الصراع قررت «بي بي سي» إطلاق خدماتها باللغة العربية وذلك لخدمة مصالح بريطانيا في الشرق الأوسط الذي كان يمثل نقطة دعم هامة لها خاصة خلال الحرب العالمية الثانية بعد أن بدأت الشمس تنحسر عن أجزاء كثيرة من إمبراطوريتها العظمى. ويمضي الباحث في هذا السياق مشيرا إلى أنه بعد تحجيم دور المملكة المتحدة وتصاعد التيار القومي بزعامة مصر التي كان لها دور فعّال في المنطقة حاولت هيئة «بي بي سي» التعويض عن تراجع الإمبراطورية البريطانية وفقدان المستعمرات ب«الاحتلال الثقافي» من خلال سيطرة التكنولوجيات الجديدة للاتصال الجماهيري وتأثيرها. ويذكر الباحث في هذا السياق أنه تم تسخير البرامج الكوميدية والاحتفالية والثقافية والرياضية لتحقيق هذه الغاية، كما تم اطلاق «خدمة بي بي سي» التي تطورت وأصبحت اليوم تعرف ب«الخدمة العالمية» (وورلد سيرفيس). وبالتالي، وفيما انحسر نجم الإمبراطورية البريطانية على مدى العقود الماضية، حققت «بي بي سي» نجاحا كبيرا وبسطت نفوذها بعدما أصبحت تخاطب شعوب العالم بلغاتها المختلفة أينما كانت.