كان عاجل ، منذ الصغر، عاشقا لناس الغيوان، وفي شبابه أصبح متخصصا في أداء أغاني الفرقة ، وظل إلى حدود الآن مطلوبا خلال بعض الجلسات من بعض أصدقائه لأداء أغانيهم ، خصوصا أن له قدرة على تقليد ، وبإتقان ، كل فرد من أفرادها . عندما بدأ عاجل يشارك في السهرات الأسبوعية، شارك إلى جانب الغيوان في العديد من الحفلات، وكانت مناسبة لكي يتعرف على أفرادها واحدا واحدا. بعد ذلك بسنوات سيشارك عاجل إلى جانب المرحوم العربي باطما في مسلسل جنب البير، الذي أخرجته فريدة بورقية، وقد تم تصوير المسلسل في اولاد بوزيري بالشاوية، التي ينحدر منها المرحوم ، وقضوا هناك زهاء 4 أشهر التي تطلبتها مرحلة التصوير. خلال هذه المرحلة سيتعرف عاجل عن قرب على شخصية العربي باطما ويقف على إمكانياته ومواهبه الفنية المتعددة. يؤكد عاجل أن المرحوم العربي باطما كان متعدد المواهب، فقد كان ممثلا ومغنيا، زجالا ومؤلفا، له عين ثاقبة وقدرة فريدة على النفاذ إلى عمق الأشياء، لكنه وبنفس المستوى، كان متواضعا لا يحب الحديث عن نفسه، ومرات عديدة كان يقول :«أخي محمد ، رحمه الله كذلك، أزجل مني» أي أنه أفضل من العربي في مجال الزجل. كما كان العربي باطما، يوضح عاجل ، طيب المعشر، لا حواجز بينه وبين الآخرين، والحديث معه متعة حقيقية، لذلك كان منزله لا يخلو من ضيوف، فنانون، كتاب، صحافيون.. الشاب خالد، مثلا ، كان عندما يحل بالمغرب، يتوجه مباشرة إلى منزل المرحوم، لكن مع اشتداد المرض، سيقلل من هذه الزيارات لأنه ، كما يقول عاجل، لم يكن يريد أن يراه أصدقاؤه وهو يتألم. كانت مسرحية «شارب عقلو» هي آخر فصل من مرحلة إثبات الذات ، وقد رأى عاجل ، وهو الذي كان مسؤولا في فرقة مسرح الحي عن اختيار النصوص والإخراج، رأى أن الوقت قد حان للتعامل مع مؤلف مشهور ، ونص من شأنه أن ينقل الفرقة إلى مرحلة الانتشار الواسع، وبالطبع لم يكن هناك أفضل من العربي باطما. قام عاجل بزيارة العربي باطما، بعد أن علم عن طريق أخيه رشيد باطما أنه انتهى من تأليف مسرحية جديدة . فاتحه في الموضوع ، فقبل العربي على الفور ، كان النص المسرحي بعنوان «ثانوية العصافير» فسلمه له، بل أكثر من ذلك سلمه 30 ألف درهم لإنتاجها، لكن عاجل أخبره أنه لا يمكن أن يقبل هذا المبلغ، لأن فلان هو المكلف بالمسائل الادارية... لكنه أعجب بالنص ، وبعد أن قرأه زار باطما وناقش معه مختلف التفاصيل، وكان رأي عاجل أنه من الأفضل أن يتم تغيير العنوان إلى «العقل والسبورة» على أن يبقى اسم ثانوية العصافير، التي كانت تتحدث عن إشكالية التعليم الخاص آنذاك ، موجودا داخل مشاهد المسرحية. قبل باطما الاقتراح دون تردد، فقد اعتبر بدوره أن عنوان «العقل والسبورة» سيكون أكثر إثارة وجذبا للجمهور، كانت هذه طبيعته، فسرعان ما يقتنع بفكرة إذا رأى أنها صائبة خلال مرحلة الإعداد للمسرحية، سيقترح باطما بدوره على عاجل الاستعانة بكل من عمر السيد ، الرمز الغيواني الكبير ، ومحمد الخياري، ليشاركا في العمل ، عمرسيشارك في هذه المسرحية فقط ، بينما استمر الخياري مع مسرح اليوم في أعمال أخرى حققت المسرحية النجاح الذي كانت تبحث عنه الفرقة، وعرضت في مختلف المدن المغربية، وفي الراشدية مثلا، حيث تم عرضها في ملعب كرة القدم، شاهدها ما يقارب 15 ألف شخص ، بعد الاستعانة بعشرات مكبرات الصوت، وكانت هي التي حققت الانتشار الواسع لمسرح الحي ومهدت ل «حسي مسي». ذات يوم، كان عاجل مع صديق له في أحد المقاهي، عندما وصله الخبر المزلزل، وفاة العربي باطما، كان يعرف مثل كل أصدقاء ومعارف الفنان الكبير، أن المرض اشتد عليه، لكن رغم ذلك أحس بخسارة كبيرة، كان المرحوم يؤكد عاجل مازال في مقتبل العمر، وكان مازال قادرا على الإبداع والعطاء، لكنها إرادة الله، لقد فقد المغرب كله فنانا كبيرا من الصعب أن يعوض وكأن قدر عاجل أن يكون للمأساة شوطا ثانيا ، وعندما كانت الفرقة ما زالت تعرض المسرحية، توفي والده الحاج عاجل بنموسى، وكانت تلك صدمة كبرى بالنسبة لعبد الإله ، الذي كان قد بدأ يتذوق طعم النجاح ويتمنى أن يعيش معه والده هذه الفرحة. كانت الفرقة متعاقدة مع أحد المنظمين لعرض المسرحية في سلا، في نفس اليوم ، فاقترح عليه أعضاء الفرقة تأجيل العرض إلى يوم لاحق، لكنه رفض بشدة فما ذنب الجمهور الذي اشترى التذاكر وينتظر أن يشاهد المسرحية. هكذا وبعد أن دفن والده في الواحدة ظهرا، كان في التاسعة ليلا يقف على الخشبة ويؤدي دوره، دون أن تظهر عليه ملامح التأثر، لكن ما أن كان ينروي بالكواليس حتى يغلبه البكاء . بعد انتهاء العرض، طلب عمر السيد من المتفرجين أن يقدموا تحية خاصة لعاجل الذي دفن والده في نفس اليوم، فصعد جميع من كان في القاعة إلى الخشبة واحدا واحدا، يقدمون له واجب العزاء إذا كان تحقيق النجاح أمر صعب، فإن الأصعب هو المحافظة على هذا النجاح، عاجل الذي كان يدرك هذه المسألة، وبعد انتهاء عروض «العقل والسبورة» ، التي كانت أول تجربة له كمخرج، وشاهدها المغاربة عبر التلفزيون مما زاد من نسبة الإقبال على مسرح الحي ، قرر التريث قليلا قبل الشروع في عمل جديد ، يحافظ للفرقة على المكانة التي كسبتها ويزيد من إشعاعها { فجأة سيأتي قرار نقلكم إلى مكان مجهول .. فيما بعد ستعرفون انه سجن غوانتانامو الذي سيصبح شهيرا بعد ذلك .. كنتم أول الدفعات التي س «تتشرف» بالاستقرار فيه..!؟ لم يكلمنا أحد في سجن قندهار، اقتحموا علينا بغتة أقفاص الاعتقال ، قيدونا و وضعوا أكياسا على رؤوسنا معدة لهذا الغرض فقط ، أشربونا مخدرا ، ألبسونا حفاظات .. بمعنى تَغَوَّطْ أو بُلْ في مكانك و لا تزعجنا.. طلبت بمجرد الصعود إلى طائرة عسكرية أمريكية المرحاض .. لكن الجواب كان ضربة بعقب بندقية و ضربة قيد حديدي ثقيل.. أحسست بثقب غائر في رأسي بعد الضربة و دم متخثر و دوخة تذهب بك إلى الإغماء.. كانت أطول 24 ساعة في حياتي .. سفر طويل و لا تعرف الوجهة، و لا ماذا سيفعلون بك، نتوقف ليلا و نقلع ليلا، إلى أن وصلنا إلى مكان أشبه بميناء بحري ..حملنا في «باص» و عبرنا إلى أرض أخرى عبر البحر .. اعتقدناها في بداية الأمر جزيرة في دولة قطر ، لكن توقعاتنا لم تكن مضبوطة بالمرة، لقد كنا في جزيرة غوانتانامو الكوبية .. و تلك حكاية أخرى ستبدأ لكي لا تنتهي إلا بعد أربع سنوات من التحقيق و العذاب الأليم . { أصبحتم رسميا محتجزين تحت مسؤولية الجيش الأمريكي و في قاعدة أمريكية بامتياز..؟ .. كيف قضيتم أول يوم في هذا السجن الذي سارت بذكره الركبان..؟ بعد نزولنا ، أخذونا على المستشفى لضبط الأمراض و الأعطاب ، لقد كانت يدي مكسورة مهشمة، و البقية كانت تشكو من أمراض مختلفة أغلبها بقايا و شظايا القنابل و الصواريخ . لم يختلف توزيعنا على العنابر و الزنازن عن الطريقة التي عاملونا بها سابقا في قندهار ، الضرب و الكلاب ، بعدها طلبت مقابلة طبيب بشأن الكسور و الثقوب التي تخترق جسدي ، لما فحصني طبيب عسكري أمريكي، وجد جمجمتي مكسورة ، ناولني بعض الدواء ، أدخل مقصا في رأسي، وجد ثقبا كبيرا . بعد فحص طويل، طلبوا مني التوقيع على وثائق لإجراء تدخل جراحي عاجل لبتر يدي .. رفضت الأمر بشدة .. لم أشأ أن أصبح بيد واحدة .. و هنا أقول لك إن سبب شفاء يدي كان على يد طبيب مغربي ساعدني كثيرا و هو الدكتور محجوب الفليفلي.. الأمريكيون قرروا قطعها و الطبيب المغربي رئيس مصلحة العظام بمستشفى اسفي أعادها إلى مكانها بعملية جراحية بسيطة. { بعد كل هذه الإجراءات أخذتم أماكنكم ، بدأ يظهر الفرق بين المعتقلات السابقة والسجن المذكور .. ؟ نعم .. التحقنا بزنازننا ، كنت في عنبر «الخليج» ، و من محاسن الصدف أن التقيت بأخي يونس في نفس الزنزانة في أول ليلة .. وزعوا علينا أغطية و فوطات و ملابس جديدة .. لأول مرة نحصل على فرشاة أسنان و صابون.. لأول مرة نأكل رزا و برتقالا و حليبا و كرواصة .. لأول مرة نحصل على سرير فردي .. لأول مرة سجن نظيف .. لكن لأول مرة لم يطفئوا الأضواء علينا إلا بعد أربع سنوات .. لم نر الشمس بعدها و لا أحسسنا بطعم الليل.. لقد كانت سنة أولى حليب و رز و تحقيق .. و كان المحققون يتعاملون معنا باحترام .. رغم أنهم كانوا يقولون لنا في أفغانستان ، أنهم سيذهبون بنا إلى سجن في كوبا لن تخرج منه إلا ميتا ، هذا إذا اكتشفك أحد ، أما إذا علموا أنك عضو في القاعدة فستتم تصفيتك و لن ترى البشر بعدها و لن تحلم بالعودة إلى بلدك . { بدأ مسلسل التعود على اعتقال و سجن جديدين .. ؟ أصبحت لديك زنزانة بمتر على متر ونصف ، هي عبارة عن صندوق حديدي بارد شتاء و حار صيفا ( مقلة) ، الدوش مرة كل ثلاثة أيام بمعدل خمس دقائق ، و ماؤه كان باردا في كل الفصول ، كنا نقوم بحركات تسخينية لمقاومة برودته ، بل لسعاته. مَكَّنُونَا من ملابس خشنة بدون تبان ، كانت تصدر منها روائح ثقيلة تزكمنا .. داخل الزنزانة صنبور لا يشرب ماؤه ، مرحاض رومي .. و من جرب منا مياه الزنزانة ، كان يصاب بالدوخة وسلس البول ومثانته دائما ملأى .