موضوع شائك، ويحتاج إلى مهارة خاصة من أجل الخروج من المطبات التي يطرحها بأقل خسارة ممكنة. ودليلنا على ذلك أنه ليس أرضا غير مطروقة، إذ كلما أثاره باحث أو تطرق إليه طالب كلما أدرك أنه يمشي في حقل ألغام هائج تصنعه توترات الصراع بين «العقل» والتعلق الشامل بالمقدس الديني. ذلك أن أي «شبهة حياد ديني» عادة ما يترجمها الغلاة إلى مسّ وانتهاك للانتماء الديني، وهو ما يطرح إشكالات أخرى ترتبط ب»التكفير» و»الارتداد» و»إهدار الدم» و»المحاكمات».. المحنة الثانية التي تعرض لها النبي (ص)، هي تلك المرتبطة بما يسمى ب»حديث الإفك»؛ والإفك: الكذب، وكذلك الأفيكة، والجمع الأفائك. ورجل أفاك أي كذاب. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن الزبير «وذلك أفكهم» بفتح الهمزة والفاء والكاف، على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. والأفك «بالفتح» مصدر قولك: أفكه يأفكه أفكا، أي قلبه وصرفه عن الشيء. وقرأ عكرمة «أفكهم» بتشديد الفاء على التأكيد والتكثير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وذكر المهدوي عن ابن عباس أيضا «آفكهم» بالمد وكسر الفاء، بمعنى صارفهم. وعن عبد الله بن الزبير باختلاف عنه «آفكهم» بالمد، فجاز أن يكون أفعلهم، أي أصارهم إلى الإفك. وجاز أن يكون فاعلهم كخادعهم. ودليل قراءة العامة «إفكهم» أي يكذبون. وقيل «أفكهم» مثل «أفكهم» (القرطبي 3135). أما حديث الإفك، فمرتبط باتهام عائشة بإتيان الفاحشة (الخيانة الزوجية). وتقص عائشة نفسها ما وقع حتى غمرتها التهمة: فتقول : «كان رسول الله (ص) عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه: فأيتهن خرج سهمها خرجت معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق خرج سهمي عليهن فارتحلت معه. قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق: لم يهجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحل بعيري جلست في هودجي ثم يأتي القوم فيحملوني يأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه علي ظهر البعير ويشدونه بالحبال وبعدئذ ينطلقون. فلما فرغ رسول الله من سفره ذاك توجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات فيه بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل فتهيؤا لذلك، وخرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي فلما فرغت أنسل من عنقي ولا ادري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته وجاء القوم الذين كانوا يرحلون لي البعير (وقد كانوا فرغوا من إعداده) فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع فاحتملوه فشدوه علي البعير ولم يشكوا أنى به، ثم أخذوا برأس البعير وانطلقوا، ورجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب، لقد انطلق الناس.. قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني وعرفت أني لو افتقدت لرجع الناس إلي، فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يلبث مع الناس، فرأي سوادي فأقبل حتى وقف علي، وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب فلما رآني قال:»إنا لله وإنا إليه راجعون» ظعينة رسول الله (ص)؟ وأنا متلففة في ثيابي ما خلفك يرحمك الله؟ قالت فما كلمته ثم قرب إلي البعير فقال أركبي واستأخر عني.. قالت: فركبت وأخذ برأس البعير منطلقاً يطلب الناس فوالله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت ونزلوا فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي البعير فقال أهل الإفك ما قالوا وارتجع العسكر والله ما أعلم بشيء من ذلك». وتتابع: «قدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (ص) اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي؛ إنما يدخل رسول الله (ص) يسلّم، ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني، ولا أشعر بالشرّ! حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو مبرزنا، ولا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا. وأمرنا أمر العرب الأول في التنزّه. وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمّها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطّح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب. فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبّين رجلاً قد شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي».