إذا كانت السياسات العمومية تعوقها مجموعة من الأعطاب، مع ما لذلك من كلفة ومن تبعات، فإن البعد المجالي - في سياق الإصلاحات المنتظرة - يشكل عاملا استراتيجيا في أفق إنجاح تقعيد المشروع التنموي الجديد. إن النموذج التنموي الجديد يشكل الأرضية الضامنة لسيادة القرار، وهو القادر على تمكين المغرب من هوامش مساعدة على اتخاذ المبادرات الضرورية، كما من شأنه فتح آفاق جديدة شريطة مواصلة الإصلاحات التي تحظى بإجماع وطني. لكن يبقى السؤال عن أي محتوى لهذه الإصلاحات؟ كيف؟ وضمن أي أفق؟ حتى هذه اللحظة، مازالت الأزمة العالمية، التي انطلقت من الولاياتالمتحدةالأمريكية في سنة 2008 كأزمة مالية، مستمرة مع آفاق غير مستقرة. ومع توالي الأيام، أصبحت مضاعفاتها اقتصادية واجتماعية مع تداعيات سياسية عصفت بعدد من الحكومات التي لم تكن في مستوى التوقعات ولا كانت لها القدرة على معالجة الأوضاع، وضمان تماسك اجتماعي قوي. لذلك، لم تعد الأزمة عابرة، بل أصبحت بنيوية وتمس الاقتصاد العالمي، حيث جعلت النموذج الاقتصادي الذي ظل سائدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وكذا قواعد اللعب المصاحبة له نموذجا متجاوزا. فالعولمة فرضت نمط الفكر الوحيد والنهج الاقتصادي الوحيد، كما أفزت مفاهيم باتت تفرض نفسها كبدائل عن كل ما له علاقة بالتوجهات الاستراتيجية الكبرى وبالاختيارات الاقتصادية والمالية.. حتى أصبح التدبير، بارتباط مع الحكامة، هو الحل السحري لكل مشاكل ومعاناة بلدان العالم. هذا التوجه، وفي سياق عولمة عشوائية جارفة، ساهم في استبدال الاقتصاد المنتج باقتصاد المضاربة، حيث باتت البورصات مرآة لا تعكس حقيقة الأوضاع الاقتصادية والمالية لعدد كبير من الدول، لكون اقتصاد المضاربة يخضع لتحكم قوى خارج إرادة الدول التي أصبحت تخضع لمنطق السوق الذي لا يستجيب دائما للحاجيات الأساسية المرتبطة بتطور الاقتصاد. على المستوى الوطني، ينبغي التذكير بأن الحكومة السابقة تجاهلت آثار الأزمة العالمية، خاصة آثار أزمة منطقة الأورو على الاقتصاد الوطني، بدعوى أن هذا الأخير، أي الاقتصاد الوطني، له المناعة الضرورية والقدرة اللازمة على مواجهة الصدمات الخارجية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفريق الاشتراكي بمجلس النواب نبه الحكومة في عدة مناسبات، خاصة عند مناقشة قانون المالية لسنة 2010 - 2011، كما طالبنا باتخاذ القرارات الضرورية وتقدمنا بمجموعة من الاقتراحات من بينها تعديل قانون المالية حتى يستجيب لمتطلبات المرحلة من منظور توقعي. وفي نفس الاتجاه، بادر الفريق الاشتراكي داخل الحكومة إلى تبني نفس المواقف، كما حاول إقناع كافة الأطراف بجدوى هذا الاختيار، لكن بدون جدوى. وبنفس الاستخفاف كذلك تعاملت الحكومة الجديدة مع تداعيات الأزمة المالية، لا بمناسبة تقديم البرنامج الحكومي وحسب، لكن أيضا بمناسبة تقديم قانون المالية لسنة 2012، وهو ما بات يعطي الانطباع بأن المغرب يعيش بمعزل عن كل التقلبات التي يشهدها العالم. بل أكثر من ذلك، إن آخر تصريح لرئيس الحكومة والذي أدلى به يوم السبت 28 يوليوز لأسبوعية La vie économique والمنشور في عددها الأخير ( الأسبوع الأول من شهر غشت ) يؤكد فيه على أن الوضع ليس كارثيا، مع إفراط كبير في تفاؤل لا يستند إلى معطيات واقع أصبح متأزما، ولعل هذا ما يؤكد مجددا أن القضايا الأساسية التي تهم فعلا حاضر ومستقبل الاقتصاد الوطني توجد خارج اهتمامات الحكومة، وأن أسلوب اللامبالاة يعبر عن عجزها عن وضع خطة استشرافية انطلاقا من توقعات عدد من المؤسسات الوطنية. إن أسلوب اللامبالاة هذا وكذا اختيار القفز على واقع أصبح معقدا يؤدي إلى الافتراء من أجل اصطناع الطمأنة. فماذا تغير بين الأمس واليوم حتى تعترف الحكومة بأن هناك أزمة؟ الأكيد أن هناك عدة عوامل أدت إلى تغيير خطابها ورؤيتها للقضايا التي أصبحت تفرض نفسها اليوم بإلحاح شديد، والتي تتطلب معالجة سريعة، حتى لا نعيش مرة أخرى قساوة الظروف التي مر منها المغرب في ثمانينيات القرن الماضي، من خلال تبني سياسة التقويم الهيكلي. ومن بين هذه العوامل نذكر ما يلي: - الخطاب الملكي ليوم 30 يوليوز، بمناسبة عيد العرش، والذي كان , كما هي العادة , خطابا توجيهيا واضحا، بما تضمنه من رسائل وتنبيهات لما يجب أن تقوم به الحكومة اقتصاديا، ماليا واجتماعيا. فمن خلال قراءة واقعية لهذا الخطاب تبرز مخاطر استمرار الأوضاع المالية بدون اتخاذ مبادرات تساعد على استكمال الأوراش الحالية، مع مواصلة للإصلاحات الضرورية. - الصعوبات المحيطة بتحضير قانون المالية لسنة 2013. ذلك أن الحكومة وإلى اليوم، ونحن في منتصف شهر غشت، ما زالت لم تضع الإطار التوجيهي الخاص، والذي يعتبر ركيزة قانون المالية المقبل، من حيث الأولويات وكذا حجم الاستثمارات ووسائل التمويل. فقانون المالية لسنة 2013 سيكون , بدون شك , قانون الاعتراف بالأزمة من أجل مواجهتها. - قرار صندوق النقد الدولي الذي اتخذ يوم الجمعة 3 غشت الجاري والقاضي بمنح المغرب بعض التسهيلات التمويلية بلغت 6 مليارات و 200 ألف دولار، على أساس آلية جديدة أحدثت في السنة الماضية، وهو مؤشر يفيد بأن الأوضاع مرشحة للأسوأ، وهو إلى ذلك قرار ليس بريئا، رغم بعده الإقليمي، حيث إن الأردن قد استفادت هي الأخرى، بموجب نفس القرار وفي نفس السياق، من تسهيلات مماثلة، كما أن المفاوضات جارية مع تونس ومصر، مما يؤكد أن هذا القرار يعتبر بمثابة تأشيرة لولوج الأسواق المالية الخارجية من أجل الاقتراض، وهذا بالفعل ما أعلن عنه وزير المالية يوم الاثنين 6 غشت الجاري بمجلس النواب. حيث أكد هذا التوجه من خلال إعلانه عزم الحكومة عن اقتراض مليار دولار، وهو , بكل تأكيد , مؤشر إضافي يبرز مدى تردي الأوضاع المالية. وأمام هذه الوضعية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه المناسبات هو: كيف ستوظف كل هذه الأموال؟ هل سيتم توظيفها في تمويل الاستثمارات أم في أشياء أخرى غير ذلك؟ إن العوامل سالفة الذكر تكشف عن طبيعة الأوضاع، كما أنها تؤكد حقيقة كون الحكومة الحالية تفتقر إلى رؤية اقتصادية ومالية تجعلها قادرة على التحكم فيما يجري. فكيف يستقيم الحديث عن النجاعة في التدبير؟ وكيف يمكننا الحديث عن الحكامة في غياب استراتيجية واضحة وشاملة تستحضر المستقبل على أساس معاينة ما يجري على أرض الواقع, سواء عندنا أو في محيطنا؟ وما هي الدروس التي يجب استخلاصها من كل ما سبق؟ 1 - إن الأزمة الحالية أبرزت , مرة أخرى , المشاكل البنيوية للاقتصاد الوطني، وذلك من خلال هشاشته وتقلبات وتيرة نموه. صحيح أن مجهودات كبيرة قد بذلت في العشر سنوات الأخيرة، والتي مكنت المغرب من تحقيق نتائج إيجابية، خاصة في اتجاه تنويع الأنشطة الاقتصادية غير الفلاحية، حيث كان وقع الأوراش الكبرى الخاصة بالبنيات التحتية في غاية الأهمية، إذ أصبح معدل النمو طيلة هذه الفترة يتجاوز نسبة 4 في المائة. لكن الواقع يؤكد أن التنمية الاقتصادية ببلادنا ما زالت مرتبطة أساسا بالاستيراد وباستهلاك الموارد المستوردة أكثر من ارتباطها بما ينتج محليا. هذا النموذج الاستيرادي له تأثير على التوازنات التجارية، وهو ما يكلف المغرب الشيء الكثير من مخزون عملته الصعبة. 2 - ضرورة تجنب السياسات التقشفية التي تؤزم الأوضاع وتوسع دائرة الهشاشة الاجتماعية، مما قد تكون نتيجته عدم الاستقرار. على المغرب، والحالة هذه، أن يراهن بالأساس على التنمية، لأن الممكن التنموي ببلادنا مازال يتيح فرصا كبيرة ومهمة، وهذا ما سيساعد على فتح أوراش جديدة لا فقط استكمال الأوراش الحالية. فقد علمتنا التجارب أن الظروف الصعبة عادة ما تولد مشاريع كبرى تتيح الفرصة لفتح آفاق جديدة. وهنا نتساءل: لماذا لا نفكر اليوم في ورش تكون له دلالة سياسية وحمولة رمزية قوية، كما تكون له فوائد اقتصادية واجتماعية. تحضرني هنا فكرة مشروع قطار يربط مدينة مراكش بالداخلة مرورا بأكادير ومدينة العيون. هذا المشروع سيوسع، بدون شك، حدود التنمية ببلادنا، كما سيساهم في إنجاح المشروع الجهوي الجديد، علاوة على خلق مناصب شغل تفتح المجال لإدماج الجيل الجديد من شبابنا في المناطق الجنوبية. إن التجارب التاريخية لعدد كبير من البلدان أكدت صواب هذا التوجه. والأكيد أن طريق الوحدة بالأمس مع بداية الاستقلال ستجد امتدادا طبيعيا لها من خلال مشروع قطار الوحدة. 3 - التسريع بالإصلاح الجبائي على أساس تقليص الفوارق الاجتماعية، من أجل تقوية التماسك حفاظا على الاستقرار. وفي هذا الإطار، لماذا لا يتم التفكير جديا في فرض ضريبة عن الثروة، خاصة في المرحلة التي نجتازها الآن؟ لماذا لا نفكر في عفو ضريبي شامل قصد تنقية الأجواء والحد من الانتظارية واسترجاع الثقة لدى كل الفاعلين الاقتصاديين؟ فالأكيد أن الإعفاء الضريبي ليس نقيضا لواجب أداء المستحقات للدولة، بل العكس. فما يجب تجنبه الآن هو المساطر البيروقراطية المعقدة التي لا تساعد على الاستخلاص الطبيعي والقانوني للضرائب. 4 - إن المغرب يفتقد إلى استراتيجية اقتصادية شمولية ومتكاملة، وهذا ما يطرح إشكال الفعالية والمردودية للسياسات القطاعية الحالية، والتي لا زالت إلى اليوم منفصلة عن بعضها البعض. فالتفكير في التأسيس لمثل هذه الاستراتيجية يكمن في الرجوع إلى التخطيط بمفهوم جديد وبمحتوى جديد وبآليات مختلفة كذلك. خاصة أن الاقتصاد والتدبير الاقتصادي لا يقبلان الارتجال وليسا وليدا اللحظة. إن التخطيط الحيوي والمتجدد يعتبر وسيلة أساسية للتحكم في العامل الزمني، إنه الإطار الضروري للتنسيق والتقويم، في أفق الاستشراف. فالتخطيط هو الأداة الوحيدة التي تساعد على الحوار بين مختلف المتدخلين، كما أنه يساعد على جعل الثقافة الاقتصادية والاجتماعية أداة لتعميق الوعي بالقضايا الوطنية. لكن العولمة فرضت , كما أشرنا إلى ذلك من ذي قبل , مفاهيم جديدة بل أحيانا ملغومة، تم بموجبها استبدال التخطيط بالحكامة، التي يراد لها أن تتحول إلى مفتاح سحري لحل كل القضايا المستعصية. لقد أصبح من الضروري، والحالة هذه، البحث عن نموذج تنموي يستجيب أكثر لمتطلبات المرحلة الحالية، نموذج له القدرة على تعبئة الممكن التنموي بوضع أسس متينة لاقتصاد منتج، بعيدا عن اقتصاد المضاربة التي أصبحت، من خلال العقار، مصدرا أساسيا للتراكم ببلادنا. إن وضعية مثل هذه جعلت الثروة ببلادنا مرتبطة بالأرض وبكل ما يبنى فوقها ولا شيء غير ذلك، وتلك ظاهرة ليست سليمة، لأنها لا تعكس طبيعة اقتصادنا الذي يعرف تحولات في الاتجاه الذي سيساعده على مواجهة تحديات الانفتاح على العالم الخارجي. هذا النموذج الجديد يفرض بالدرجة الأولى وقفة تقييمية للسياسات العمومية، من أجل التركيز على الرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني. ذلك أن الاستفادة من العولمة ومن اتفاقية التبادل الحر بات يفرض علينا اعتبار التصنيع أولوية رئيسية. فلا تنافسية بدون تصنيع ولا تصنيع بدون تغيير مصادر التراكم ببلادنا؛ أي الانتقال من الاهتمام بالمضاربة بجميع أشكالها العلنية والمقنعة إلى ما هو منتج. وفي هذا السياق، فإن الدولة تبقى مطالبة بالقيام بدور ريادي للوصول إلى هذه الغاية. إذ لا يمكن توفير الشروط الضرورية لإنجاح هذا التوجه دون أن يكون للدولة دور مركزي في ذلك، وهذا , بطبيعة الحال , ما سيخلق دينامية جديدة ستساعد على إبرام شراكات مع القطاع الخاص في الداخل كما في الخارج. وعليه، فإن معادلة التنافسية تُختزل في الربط بين تدخل الدولة من أجل التصنيع، على أساس فتح المجال للرأسمال الخاص. ومن جهة ثانية، فإن الجهوية تعتبر القاعدة المجالية للتسريع بوتيرة النمو. فالإصلاح الجهوي الجديد يشكل ورشا حيويا له أبعاد مختلفة. فإذا كانت السياسات العمومية تعوقها مجموعة من الأعطاب، مع ما لذلك من كلفة ومن تبعات، فإن البعد المجالي - في سياق الإصلاحات المنتظرة - يشكل عاملا استراتيجيا في أفق إنجاح تقعيد المشروع التنموي الجديد. إن النموذج التنموي الجديد يشكل الأرضية الضامنة لسيادة القرار، وهو القادر على تمكين المغرب من هوامش مساعدة على اتخاذ المبادرات الضرورية، كما من شأنه فتح آفاق جديدة شريطة مواصلة الإصلاحات التي تحظى بإجماع وطني. لكن يبقى السؤال عن أي محتوى لهذه الإصلاحات؟ كيف؟ وضمن أي أفق؟ الملاحظ أن الحكومة الحالية لا تُطمئن، بل لقد قامت بزرع الشك في صفوف الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين وكذلك داخل المجتمع المدني. وأخيرا، إن النموذج التنموي الجديد يقتضي من الحكومة إعطاء تفعيل الدستور الأسبقية الأولى، أي التفعيل السليم الذي يجعل من الاختيار الديمقراطي واقعا حيا وسلوكا رفيعا وتعاملا حضاريا، بل ثقافة تؤسس لقواعد جديدة في الحقل السياسي المغربي. ذلك أن الاختيار الديمقراطي لا يختزل في الانتخابات ونتائجها. فمعاركنا السياسية اليوم وغدا تجعلنا نتحمل مسؤولية تاريخية، حتى لا يخلف المغرب الموعد.