«ليستْ جونفييفْ شوفيل غريبة عن الثقافة العربية الإسلامية وتاريخها. ففضلا عن قضائها جزءا من طفولتها في كل من الجزائر وسوريا، فقد سبق لها أن نالت الجائزة العالمية «الأمير فخر الدين» عن كتابها «صلاح الدين موحّد الإسلام». وفي كتابها «عائشة، محبوبة النبيّ»، اختارتْ أسلوبا آخر للحديث عن علاقة عائشة بالرسول، هو أسلوب التخييل التاريخي الذي يمزج بين الحدث التاريخي والمتخيّل. غير أنّ نسبة الواقع هنا تتجاوز التخييل. لقد حياة عائشة مع الرسول حياة ملحمية، بل إنها تنطوي على الكثير من الرومانيسك بالمعنى الإنساني العام. وقد خلّفت عائشة الكثير من المرويات والمحكيات والأحاديث عن حبّ الرسول لها وتعلّقه بها، بل حتى عن بعض حميمياتهما. في هذا الكتاب، تتبع شوفيل المسار التاريخي، السير ذاتي، لشخصية عائشة كما يرويها كبار الأخباريين: ابن إسحاق، الطبري، البخاري، الواقدي وغيرهم، كما تعمد إلى إعادة وضع عدد من الآيات القرأنية في سياق هذا المسار. إنه كتاب يتعيّن قراءته بمتعة العيْن الروائية وليْس بعين المرجعية التاريخية المبثوثة في كتب المؤرخين ونصوص السيرة.» في هذا المناخ، كان على محمّد أنْ يتصرّف. ففي هذه الأثناء، كان يحاول أنْ يتخيّل الجبال المكسوّة بالخضرة، والحدائق والوديان والحدائق المتواجدة خلف بيوت الطائف المرحّبة. لكنَّ الغريب في الأمر، هو أنّ هناك وجْها كان يفرض نفسه عليه، وجه عائشة الذي كان يرمقه من الباب الكبير للبيت، حائرا قلقا مما سمعه من حديث بينه وبين أبي بكر. كان الاضطراب يتملّكه والحيرة تسكنه، ذلك أنّ الأحلام التي يراها في الليل، خلال هذه الأيام الأخيرة ما فتئتْ تقضّ مضْجعه. ففي منامه، قدّم له ملاك مرّتان طفلة مقمّطة في ثوب من حرير وهما يقولان له: - «هذه زوجتك، فاكشفْ عن وجهها?»1. استسلم وكشف بذهول عن ملامح عائشة، وسرعانَ ما استيقظ من منامه مذعورا يتصبّب عرقا. ما هذه الحماقة التي انتابته؟ الطفلة لا يتعدّى عمرها الستّ سنوات بينما هو في الخمسين. ثم إنه أخفى هذا الأمر ولم يحدّث به أحدا. غير أن الملاك سوف يزوره للمرّة الثالثة خلال الليلة الماضية، بيدَ أن محمّدا هو الذي طلب منه هذه المرّة أنْ يكشف عن الوجه. ومن جديد بدتْ له عائشة، ثمّ فرك عينيْه قائلا: «إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ». وبحركة من يده، ضرب في الهواء وكأنه يطرد الجنّ المتطاولين، وبعد ذلك توجّه مصدوما إلى بيت أبي بكر. على مقربة من البيت، تلعب الصبايا بدُماهنّ، وعند رآها رفقتهنّ أربكته أحلامه غير اللائقة. ومرّة أخرى سيلتزم الصمت خجلا من أن يثير مثل هذا الموضوع أمام صديقه. وعند عودته إلى البيت، عاد إلى التفكير في مشاريعه المستقبلية، إلاّ أنّ الوجه كان يبدو له ثانية ويقضّ مضجعه. وفجأة، سيخرجه صوت نسويّ من شروده قائلا مخاطبا إياه قائلا: - يا محمّد، لا يمكنك أن تبقى وحيدا مستسلما للوحدة، فهلاّ تزوجتَ يا رسول الله لتسلو بعض حزنك، وتؤنس وحدتك بعد خديجة، وإذا شئتَ فعندي لك زوجتان، إحداهما بِكْر والثانية ثَيِّب، فأيّهما تريد؟ هبَّ محمّد منتصبا في جلسته، وعيناه شاردتان. وعلى بُعد خطوتيْن منه، كانتْ تقف البدينة خوْلة وهي تضع يديْها على خصرها متمايلة تحدجه بنظرة ساخرة. ذلك أنه مباشرة بعد وفاة خديجة، أخذتْ هذه القريبة من زوجته مشعل سلطة تدبير البيت الذي يعيش حالة حداد. فالرجل أرمل، وهو نبيّ فوق ذلك، لا يمكنه مواجهة مشاكل البيت. صحيح أن له أربع بنات: الثلاث الأكبر سنّا كنّ قد تزوّجنَ من رجال ينتمون إلى نسب شريف لم يعتنقوا الإسلام.وبينما كانت تعيش أولى بناته علاقة حبّ جميلة مع زوجها، فإن أختيْها الأخرييْن طُلّقتا بعد أن فقدتا الحظوة بإبعاد والدهما وقبيلته. أما صغرى بناته، العازبة، فإنها أصغر من أن تقوم بدور والدتها. وبخصوص فاطمة وأختيْها المهجورتين، فإنهما معا تضامنتا بالبكاء والنواح ضد شرّ الجميع، وجحود البعض، وضد الألم الذي ما فتئ ينهكهما. لم تكن أيّة واحدة منهما بقادرة على تحمّل مسؤولية البيت إذن. كان ينبغي أن تحتلّ هذا المنصب امرأة قوية وذات تجربة. ولم تكن مكة تفتقد إليهنّ. كانت خولة الخاطبة، حين تكون رائقة المزاج، تعرف كيف تقوم بعملها على أحسن وجه، وكانت تعجب محمدا. ومن جانبه، فقد كان ما يزال ينعم بوسامة الرجل وحسن المظهر، فضْلا عن يديه الطويلتيْن وصوته الرخيم وتلك النظرة المتلألئة التي تنفذ إلى أعماق الروح. كانت الخمسة والعشرون سنة التي قضاها في الإخلاص والوفاء إلى زوجة تكبره بخمس عشرة سنة تبدو غريبة، فقد كان الأمر استثناء في ذاكرة البدو. علاوة على هذا، فإن شجاعته أمام المضايقات والاعتداءات التي تعرض لها، جعلته مشهورا ليس فقط داخل المدينة، بل كذلك في الأصقاع المحيطة، وصولا إلى تخوم الصحراء حيث كان أصحاب القوافل ينقلون مآثره. - ثيّب أمْ بكر؟ اقتراح خوْلة هذا أثار فضول الرسول وشغل باله. لذلك سألها بنبرة خائبة الأمل: - عن أية نساء تتحدثين؟ لا يمكن لأية واحدة منهما أن تعوّض زوجتي خديجة الطيبة الحنون. لقد صدّقتني في الوقت الذي لم أكنْ شيئا. وحين ظننتُ بأنني جُننتُ، وحدها التي كانتْ تطمئنني وتعيدني إلى هدوئي. وهي التي أقنعتني بالخضوع إلى الأوامر الإلهية، والشروع في نشر الدعوة، رغم المصاعب. عزيزتي المسكينة? لقد فقدتها إلى الأبد، وسوف يكون من المستحيل عليّ نسيانها. واحتراما للفقيدة، صمتتْ خولة للحظات قبل أنْ تواصل قائلة: - وأَمَّا الثَّيِّبُ، فَهي سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، امرأة آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ في دين الإسلام. هاجرت إلى الحبشة مع زوجها سكران، وبعد عودتهما إلى مكة بقليل، توفّي زوجها. ستبلغ عما قريب سنتها الأربعون وستكون مستعدة للزواج بك. أجابها بالقوْل: - حسنا، والآن من هي البكْر؟ - أَمَّا الْبِكْرُ، فَهي ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْكَ، عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. امتقعَ لون محمد، ذلك أن الرؤيا التي رآها ثلاث مرّات متتالية تعود الآن لتشغل باله. فهل هذه مشيئة الله؟ بادرها محمد: - اذهبي لزيارة سودة أوّلا، وإذا رضيتْ فلتبحثْ عن رجل على وجه السرعة أطلبها منه. وبعد ذلك اذْهبي عند أبي بكر. 1 الصيغة التي يرد بها هذا الحدث في كتب السير والأخبار هي أن الرسول قال لعائشة: « أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ، جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ فَأَقُولُ : إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ» (المترجم). غدا: النبيّ محمد يتزوّجُ سوْدة ويخطبُ عائشة