«ليستْ جونفييفْ شوفيل غريبة عن الثقافة العربية الإسلامية وتاريخها. ففضلا عن قضائها جزءا من طفولتها في كل من الجزائر وسوريا، فقد سبق لها أن نالت الجائزة العالمية «الأمير فخر الدين» عن كتابها «صلاح الدين موحّد الإسلام». وفي كتابها «عائشة، محبوبة النبيّ»، اختارتْ أسلوبا آخر للحديث عن علاقة عائشة بالرسول، هو أسلوب التخييل التاريخي الذي يمزج بين الحدث التاريخي والمتخيّل. غير أنّ نسبة الواقع هنا تتجاوز التخييل. لقد حياة عائشة مع الرسول حياة ملحمية، بل إنها تنطوي على الكثير من الرومانيسك بالمعنى الإنساني العام. وقد خلّفت عائشة الكثير من المرويات والمحكيات والأحاديث عن حبّ الرسول لها وتعلّقه بها، بل حتى عن بعض حميمياتهما. في هذا الكتاب، تتبع شوفيل المسار التاريخي، السير ذاتي، لشخصية عائشة كما يرويها كبار الأخباريين: ابن إسحاق، الطبري، البخاري، الواقدي وغيرهم، كما تعمد إلى إعادة وضع عدد من الآيات القرأنية في سياق هذا المسار. إنه كتاب يتعيّن قراءته بمتعة العيْن الروائية وليْس بعين المرجعية التاريخية المبثوثة في كتب المؤرخين ونصوص السيرة.» قال محمّد لأبي بكر: - مبروك يأخي. وسوف أهتمّ بابنك كما لو كان ابني القاسم1 الذي أخذه الله في وقت مبكّر. غير أنّ أبا بكر ردّ بنوع من الانزعاج: - يا محمّد، إنها ليستْ سوى بنت، وشعرها أحمر? أطرقَ قليلا، وتابع بصوْت منخفض: - ألا تكون بشعرها الأحمر ابنة الشيطان؟ وقد قالتْ لي أمّ رومان أنه بإمكاني إغراقها إذا كانتْ هذه رغبتي. وأعترف بأنني تردّدتُ كثيرا في الأمر. فهذه الولادة أزعجتني وقضّتْ مضجعي كثيرا. وجعلتني أتساءل: ماذا سيكون مصيري إذا قتلتها؟ الشيطان أم الله؟ ما أدراني. بادره محمد مربّتا على كتف صديقه: - لا تفعلْ شيئا? فالله وحده هو ربّ الحياة والموت. لقد وهبكَ هذه الصبيّة، وينبغي أنْ تحافظ عليها. هل تعرف مشيئة الله؟ هل تدري ما الذي خبّأه لها حين جعل ولادتها تصادف اللحظة التي رأيتُ فيها الملاك؟ فلا تضيّع الهدية التي وهبك الله، أما الابن الذّكَر فإنه سوف يأتي قريبا. لا تخْشَ شيئا وكنْ سعيدا. توقّفَ لحظة لمعانقة صديقه المتوتّر الحائر، ثمّ أضاف متسائلا: - ما الاسم الذي سوف تطلق عليها؟ همهمَ أبو بكر قائلا: - عائشة، هذا هو الاسم الذي اختارته لها أمّ رومان. إنه اسم والدتها التي كان شعرها أحمر كذلك. قال محمد كالحالم: - عائشة، أيْ «التي تعيش وتحيا»، وُلدتْ في الليلة ذاتها التي رأيتْ فيها الملك جبريل. سوف أسهر على رعايتها يا أخي. أَعدُكَ. II - مرحبا هذه هي التحيّة التي وجّهتها الصبيّة الصغيرة التي رأت النور تحت سقف البيت الجليل. صبية جميلة بخصلات شعر برّاقة حول وجه دقيق ولؤلؤيّ. عيْنان واسعتان تزيّنهما النجوم. عائشة تبلغ الآن ستّ سنوات، ترتدي فستانا مزركشا محاطا بشريط أبيض، وهي تحرّك يديْها بلطف كبير لتصاحب عبارة «مرحبا»، تلك التحية التي وجّهتها إلى الرجال الذين يعملون في الباحة الواسعة الفاصلة بين البيت والمخازن. يردّ الخدم على التحية بانحناءة أمام ابنة سيّدهم الذي يغمرهم بالرعاية والعناية والعطايا. - وعليك السلام. تتابع حركة الخدم وما يقومون به باهتمام كبير. كانتْ ضحكتها مثيرة، وكانت بديهتها مثار إعجاب كذلك، فضلا عن كلامها الموزون بنَفَس شعري. فمنذ نعومة أظافرها أبانتْ عن فصاحة عربية أصيلة، هي عربية نجد والحجاز التي تلقّنتها لدى بدو الصحراء الذين تركها عندهم والدها مباشرة بعد ولادتها. وهي عادة عربية قديمة في صفوف عائلات أعيان المدينة الذين كانوا يعتبرون أن هذه العودة إلى النّبْع هي الوسيلة المثلى لإرساء الطباع العربية العريقة، والتزوّد بقيم الأجداد والأسلاف. كان يتعيّن على الذكور والإناث المرور عبر هذا النموذج القَبَليّ الذي سيكون نظامه هو قاعدة حياتهم. وكان أبو بكر قد اختار معسكرا ينتمي إلى بني مخزوم، واحدة من القبائل الأكثر احتراما، إلى جانب قبيلة بني أميّة. وهما اثنتان من القبائل الأولى الاثنتا عشرة التي كانت تشكّل الجماعة الهامة لقريش، سادة مكة. وقد كانت لأبي بكر علاقة بأسيادهم الذين ارتبط بهم بفضل العلاقات والمعاملات التجارية منذ عدة سنين. وسواء تغذّت عائشة بحليب الشّاة أو بحليب الناقة، فإنها تغذّتْ على وجه الخصوص من هذه المزايا الأساسية التي تحكّمتْ في رسم شخصيتها: الشجاعة، الصبر، الحزم، الاستقامة، الزهد، دون أنْ ننسى قيم الكرم والبذْل. وبحكم عيشها تحت الخيام، بجانب النساء والأطفال، فقد تعوّتْ على الضجيج وصراخ الأطفال غير المالوف، وعلى القرب من الحيواناتن وقساوة الرجال، ورائحة الرمال والعطور التي تنشرها الرياح. وفضلا عن كلّ ذلك، فإنها ارتوتْ من معين الشعر والموسيقى، ومن المحكيات السردية التي كان يرويها العرب البدو وهم متحلّقون حول نار مشتعلة. وتحت السماء المُضاءة بالنجوم، كانوا يشيدون بشجاعة المقاتلين وبسالتهم، ويعدّدون صفات جمال أميرات الصحراء المحلوم به، والذي كان يسكن مخيّلاتهم. داخل هذا العالم الذي لا حدود له جرتْ عائشة نحو الأفق اللاّنهائيّ، مكتشفة نشوة الحرية. كانت تقوم بكلّ هذا وهي تعيش مع أقرانها من البنات والصبيان الذين يعيشون باللامبالاة ذاتها. بعد ذلك بأربع سنوات، سوف تلتحق، وهي مشبعة بهذه المعارف الخشنة والحسيّة في آن، بمدينة مكّة، أيْ بمحيطها الجَبَلي والصخري الذي يرتفع ممتدّا كحاجز خانق يفصل المدينة عن شساعة اللانهائيّ. وداخل بيتهم ذي الأسوار العالية كانتْ تشعر بالاختناق وكأنها داخل أسوار سجن، لذلك كانت تهرع إلى سطح البيت الذي يطلّ على العالم الخارجي. هناك في الأعلى كانتْ تقضي الساعات الطويلة. وحين وجّهتْ لها جاريتها الملاحظة، اعترفتْ لها بكوْنها تحسّ هنا بالاختناق، وبأنها لا تجد صديقاتها وأصدقائها الذين اعتادت على الجرْي معهم بكلّ حرية. لكن مع مرور الأيام، تمكن عائشة من التأقلم مع الحياة الحديدة من خلال اكتشاف عائلتها. فبالإضافة إلى أبويها، هناك أخوها عبد الله وأختها أسماء من زواج والدها السابق، فضلا عن أخ صغير، عبد الرحمان، ولدته أمها بكل سهولة. كان الطفل الصغير يسلّيها كثيرا بحماقاته. وبجانبهم، كان يعيش جدها وجدتها من أبيها، وأخته الصغرى، وهي أرملة بدون أطفال. 1 اللافت أنّ هناك ندرة كبيرة في الأخبار عن أولاد النبى من الذكور، وهذا كان سببا في عدم معرفة أخبارهم أو تداول سيرتهم، وربما يعود الأمر إلى موتهم صغارا فلم ينتبه اليهم أحد منذ ولدوا , ومن هنا لم يكن هناك شهادات ميلاد او سجلات لكتابة المواليد أو تدوين التاريخ، وكان الاعتماد على ذلك من خلال الروايات وما تحفظه ذاكرة القوم .. وقد لد القاسم فى مكة قبل البعثة وكانت فرحة ابيه شديدة حيث أنه أتى بعد ولادة أربعة بنات فى بيئة تفتخر بولادة الذكور وتوئد الاناث. (المترجم) غدا: عائشة، «السّيّدة الصغيرة»