حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . في ذلك العام كانت أوضاعي المالية قد استقرت نسبيا ، إذ كنت أتقاضى راتبا شهريا مقداره ( 524 ) درهما ، وأعطي أربع ساعات إضافية تدرّ عليّ مبلغا ماليا لا بأس به ، ورغم أنني كنت أحوّل شهريا لوالدي مبلغ مائة وسبعين درهما ، فإن ما يتوفر لي سمح لي بأن أتفق مع أخ فلسطيني كان زميلي في الجامعة واسمه سمير ، على أن نستأجر شقة من غرفتين ونؤثثها في حي أكدال بإيجار شهري قدره مئتان وأربعون درهما . أصبحت هذه الشقة بمثابة ناد للطلبة الفلسطينيين والمشارقة عموما ، ولا أنسى أنه ذات ليلة بعد يوم صاخب من المظاهرات الطلابية هاجمت الشرطة الحي الجامعي واعتدت على الطلبة بالضرب واعتقلت بعضا منهم ، فهرب الطلبة وجاء الفلسطينيون منهم الى الشقة وباتوا ليلتين عندنا مع أن عددهم فاق الستة عشر. وفي هذه الشقة تم إختياري لرئاسة اللجنة التحضيرية التي كلفها عضوا اللجنة التنفيذية للاتحاد العام لطلبة فلسطين سعيد كمال ومسعود غندور بمناسبة حضورهما المؤتمر العام للاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي انعقد بالمدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط ، بتشكيل فرع للاتحاد بالمغرب إذا استطعنا إكمال النصاب بخمسة وعشرين طالبا على الأقل . وقد تدبرنا لاحقا الأمر بتنسيب كل المسجّلين في الكلية بمن فيهم المدرسين غير المتفرّغين ، وتم انتخاب هيئة إدارية للفرع ، فشلت شخصيا في أن أكون أحد أعضائها . وتحولت الشقة أيضا إلى مكان نلتقي فيه طلابا وطالبات ، خاصة وأنه لم يكن بعيدا عن كلية الحقوق التي يدرس غالبيتنا فيها . كان زملاؤنا وزميلاتنا المغاربة حريصين على أن يعرفوا دقائق وتفاصيل القضية الفلسطينية وأسباب ضياع فلسطين عام 1948 وكيفية عيش اللاجئين الفلسطينيين . ولكن هؤلاء الزملاء والزميلات كانوا يتلقّون معلومات متضاربة كان من الطبيعي أن تتضارب أقوالي وأقوال زميلي سمير . فسمير من أسرة غنية جدا ، ووالده وزير في الحكومة الأردنية مع ما تعنيه الوزارة من غنى وامتيازات ، وكانت عائلته تسكن فيلا مجهزة بكل المستلزمات ، وكان عندهم سيارة . وعلى ذلك فانه كان يحدّث زوارنا عن الحياة السعيدة التي يعيشها . أما أنا ، فانطلاقا من كوني لاجئا لازال أهلي يعيشون في مخيم الفارعة للاجئين بلا ماء ولا كهرباء ، وكل ما عندهم زفت إلا الشوارع الموحلة المحفّرة ، ويعيشون على ما تقدمه لهم الاونروا من تموين وعلى الأجور التي يحصل عليها الرجال من عملهم المضني الطويل . من هنا كانت أحاديثي لزوّارنا تنطلق من هذا الواقع التعيس ، وتكتسي مرارة واضحة ، وفيها الكثير من الغضب والنقمة على كل من اعتبرهم السبب في هذه الحالة . وكان الزملاء والزميلات مندهشين مما يسمعون ويتساءلون عن حقيقة عيش الفلسطينيين هل يعيشون كما يحكي سمير أم كما يحكي واصف .ولما كانوا في غالبيتهم من أوساط فقيرة ومتوسطة ، فكانوا في دواخلهم أقرب إلى تصديق روايتي . ذات يوم جاءني الأخ سمير وطلب أن نضع النقاط على الحروف. فهو كما قال يستحي من كلامي عن الفقر والجوع والعري في المخيم ، وعلى ذلك فإنه يطلب مني أن أتوقف عن سرد هذه الحكايات التي سمّاها ( خزعبلات ) ، وإلا فإنه سيترك الشقة ويرحل . ولما أخبرته بأنني أحكي عن المخيم بفخر واعتزاز ، لأنه في رأيي أنتج تلاميذ أذكياء يشكلون غالبية الطلبة المتفوقين في كل الإختبارات ، ولم يمنعهم فقرهم وسوء أحوالهم من أن ينبغوا في كل المجالات ، وبالتالي فإنني سأستمر في سرد ما أراه الواقع والحقيقة التي لا يجب أن نخجل منها . عندها قرر أخذ سريره وحقيبة ملابسه واتفقنا على مبلغ معين يأخذه لقاء تنازله عن حصته في الأثاث وأدوات المطبخ . واجهتني مشكلة تسديد أجرة الشقة وتسديد فواتير الماء والكهرباء ، ذلك أن الشركة قطعتهما عن الشقة ، وهددني صاحب الشقة بالإفراغ إذا لم أتدبر مبلغ الكراء الذي لم أؤده ثلاثة أشهر . أخير ا اتفقت مع أحد الإخوة الطلبة الفلسطينيين اسمه عصام أبو دقة ( أصبح فيما بعد مسؤولا عن تنظيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالمغرب ) أن يسكن معي ويقاسمني كراء ومصاريف الشقة . وفي العام الموالي استأجرت وحدي شقة عبارة عن غرفة واحدة ومنافعها ، وبعد أن أدّيت أجرة شهرين ( واحد منها للسمسار ) لم يتبق معي فلوس لدفع تكاليف إدخال عدّادي الماء والكهرباء. وللقارئ أن يتصور الحياة في شقة بالطابق الثالث ليس فيها ماء ولا كهرباء ، كنت أقضي الليل رفقة الأخ صالح أبو جزرعلى ضوء الشموع ، وننزل خلسة بعد أن يحلّ الظلام إلى ورشة بناء مجاورة لنأخذ منها سطلين من الماء. كم أحزنني وحزّ في نفسي أنني وأنا أعتبر نفسي يساريا اشتراكيا من المدافعين عن البروليتاريا ، أجد أحد هؤلاء البروليتاريين يمنعني في اليوم الثالث من أخذ حاجتي من الماء من ورشة لأحد المقاولين الذين كنت اعتبرهم في ذلك الوقت رأسماليين مصّاصي دم وعرق البروليتاريا . وقد ذكّرني ذلك بما كان يقوله لي والدي وهوالمناضل النقابي واليساري : تستحق البروليتاريا أن تناضل من أجلها ، ولكن إيّاك أن تجعلها هي التي تقودك . بعد تأسيس فرع المغرب للاتحاد العام لطلبة فلسطين ، كان من البديهي أن أبدأ بممارسة نشاط سياسي في إطار الجامعة . وكانت تعليمات قيادة إتحادنا في القاهرة أن نتعامل مع الإتحاد الوطني لطلبة المغرب , الذي كان يتكون في الأساس من طلبة حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية والطلبة الشيوعيين ، مع العلم أنه كان هناك الإتحاد العام لطلبة المغرب المتكوّن كليّة من الطلبة المنتمين لحزب الإستقلال . ولم نكن نتقيّد بحرفية التعليمات ، بحكم أن حزب الإستقلال كانت له مواقف ثابتة ومتميزة في القضية الفلسطينية ، بل أنني سئلت عام 1966 من قبل الأخ العربي المساري ( رئيس تحرير جريدة العلم الناطقة بلسان حزب الإستقلال ) عن حركة فتح فقلت له بأنني لم أسمع بها من قبل . ولما استفسرته عن سبب سؤاله قال لي بأن الزعيم علال الفاسي قال في مهرجان بمدينة فاس يوم 26 يونيه / حزيران 1966 في الذكرى العشرين لعودته من المنفى في الغابون ( ومن واجبنا نحو فلسطين أن نسعى أولا في تجميع أجزائها وتوحيد أبنائها ، وهم لن يكافحوا وحدهم ما دامت الأراضي العربية لا تريد أن تكون قاعدة لإنطلاقهم ولا تقوى على ذلك ، وما دامت قوى طليعية كحركة فتح لا تجد غير الصعوبات من كل الدول العربية المجاورة لإسرائيل من غير إستثناء ) . تعوّد التنظيم النقابي العمالي الرئيسي في المغرب ( الإتحاد المغربي للشغل) أن يخرج بمسيرات حاشدة في الأول من أيار / مايو من كل سنة تجوب مختلف المدن المغربية تطالب بحقوق العمال . ورغم أننا شاركنا أو شاهدنا بعض هذه المسيرات في سنوات 1965 و 1966 ، إلا أن ما حدث في عام 1967 كان له طعم آخر . فقد خرجنا ونحن منظّمون نقابيا وطلبنا من الإخوة في الإتحاد الوطني لطلبة المغرب أن يخصّصوا لنا حيّزا خاصا ضمن مسيرتهم التي كانت تسير ضمن مسيرة الإتحاد المغربي للشغل. يومها حملني الطلبة الفلسطينيون على أكتافهم ، وبدأت بترديد مجموعة من الشعارات التي أعددت بعضها من قبل وألّفت البعض الآخر أثناء المسيرة ، وقد أخذت المسيرة كلها تردد شعاراتي ، الأمر الذي جعل الأستاذ الهاشمي بناني ( الذي أصبح بعد حوالي عشر سنين أمينا عاما لمنظمة العمل العربي ) والذي كان يقود المسيرة في الرباط ، أن يرسل لي الميكروفون المحمول المخصص له لأستعمله . بعد أن جابت المسيرة أهم شوارع مدينة الرباط ووصلنا أمام محطة القطار ، قرر الطلبة الفلسطينيون الإكتفاء بهذا القدر والإنصراف عبر الزنقة المحاذية للمحطة . وما أن انفصلنا عن المسيرة ودخلنا الزنقة حتى وجدنا مجموعة كبيرة من رجال الأمن بلباس الشرطة وبعضهم باللباس المدني يطوّقوننا ويضعون الأصفاد في أيدينا ويدفعوننا داخل سيارات الشرطة ، ويذهبون بنا إلى مقر الأمن الإقليمي ( الخاص بالرباط ). كان يقود مجموعة الأمن ضابطان صغيران في ذلك الوقت هما إدريس البصري الذي أًصبح فيما بعد أشهر وزير داخلية في تاريخ المغرب ، وحفيظ بن هاشم الذي أصبح فيما بعد مديرا عاما للأمن الوطني ثم مديرا للمديرية العامة للسجون .وفي مقرالأمن تم التحقيق معنا جميعا وتصويرنا وأخذ بصماتنا ، ولكن دون أي إهانات أو معاملة سيئة . وبقينا هناك أكثر من أربع عشرة ساعة ، ثم أطلقوا سراحنا بعد أن تأكدوا من أننا لا صلات لنا بأية تنظيمات معادية للدولة ، وأن غايتنا الرئيسية والوحيدة هي خدمة قضيتنا الفلسطينية والتعريف بها . بعد ذلك باسبوعين إستدعاني الأخ المحجوب بن صديق الأمين العام للإتحاد المغربي للشغل وأحد قادة الإتحاد الوطني للقوات الشعبية ، واستفسرني عما حدث معنا في مقر الأمن الإقليمي . وعندما أخبرته بتفاصيل ما حدث ، قال لي : هذا درس مهم يجب أن لا تنساه ، فما دمتم لا تخدمون سوى قضيتكم الوطنية فلن يؤذيكم أو يعترضكم أحد . بعد عدة سنوات انعقد بالمغرب اجتماع وزراء الداخلية العرب ، وكلّفني الإخوة في بيروت بتمثيل فلسطين في الإجتماعات التمهيدية للمؤتمر . ذهبت إلى فندق حسّان حيث سينعقد الإجتماع ، فالتقيت في الباب بالسيد حفيظ بن هاشم فسألني أين أنت ذاهب ؟ فقلت له : لأفعل ما تفعله أنت ، فقال لي : يعني أنك مندوب وزير الداخلية ؟ فلما قلت له نعم قال لي مازحا ( حتى لو أصبحت مكان الرئيس ياسر عرفات ، ستبقى في سجلاتنا واصف منصور الطالب الفلسطيني اليساري المشاغب ) . والغريب في أمر هذه الحادثة أنه وبعد أكثر من عشرين سنة من حدوثها ، كنت ضمن الوفد الفلسطيني لإجتماعات لجنة القدس بمدينة مراكش ، وبينما كنا نعبر الحديقة الداخلية للقصر الملكي متوجّهين إلى قاعة الإجتماعات ، سمعت صوتا يناديني باسمي ، فالتفتّ وإذا بالسيد حفيظ بن هاشم يقف مع واحد من كبارالجنرالات في أحد الأركان . توجهت نحوهما ، وبعد السلام بالأحضان حكى السيد حفيظ للجنرال تفاصيل هذه الحكاية كما سردتها وكأنها حدثت بالأمس ، وختمها بالقول : كنت منذ ذلك اليوم لا أسيء الظن بك لثقتي بنواياك وانشغالك بالقضية الفلسطينية فقط ، رغم أن كثيرا من كتبة التقاريرالأمنية كانوا يحاولون تغيير هذا الظن . التفتّ صوب الجنرال وقلت له ممازحا ( عندك يعملها ثانية ) ، فرد الجنرال ضاحكا : أضمن لك أننا نحن ( العروبية ) أبناء البادية لن نفعلها ، ولكني لا أضمن اللي جاي من مكناس ( قلوب النحاس ) في إشارة إلى أن السيد بن هاشم من مكناس . بعد حادثة فاتح ماي بأسابيع تطورت الأمور بشكل دراماتيكي ، فبينما نحن ذاهبون إلى الكلية لتقديم إمتحاناتنا في سنتنا الجامعية الأخيرة ، في الساعة السابعة صباحا وصلتنا أخبار حرب يونيه / حزيران 1967 ، فبدأ الطلبة بالتجمع والتشاور ماذا يفعلون ، وكان قرارهم عدم تقديم الإمتحانات والخروج بمسيرة حاشدة غاضبة تطالب بفتح أبواب التطوع للمشاركة في المعركة مع أن بعض الطلبة دخلوا قاعات الإمتحانات . انطلقت المسيرة من أمام كلية الحقوق واتجهت نحو شارع النصر ومنها إلى شارع الحسن الثاني ، وكاد جهل بعض من كانوا يتقدمون المسيرة أن يوقعنا في موقف ليس في صالح قضيتنا ، حيث أرادوا التوجه إلى حي ( الملاّح ) الذي هو في الأصل حي اليهود ، مع أنه لم يعد يسكنه أحد منهم ، لولا أنني مع رئيس الإتحاد الوطني لطلبة المغرب وقتها الأخ فتح الله ولعلو وآخرين حلنا دون ذهاب المسيرة إلى الملاّح ، وبالطبع إلى جانب وجود أعداد كبيرة من قوات الأمن التي كانت تسد الطريق إليه . ولا أنسى حادثة لها دلالات مميزة وقعت أثناء تلك المسيرة ، ذلك أن أحد زملائي من دولة تشاد وقع بيني وبينه شنآن بخصوص فهمه الخاطيء بأن العرب هم أول من سنّ سنّة العبودية ، كان ذلك ونحن في السنة الأولى فلم يكلّمني طيلة السنوات اللاحقة ، وفوجئت به ونحن في خضمّ المسيرة يتقدم نحوي ويعانقني ويضع يده في يدي ونحن نواجه عصي القوات المساعدة/ حفظ النظام التي حاولت أن تمنع مسيرتنا من التقدم ، ولكنها فشلت أمام عزيمة وإصرار الطلبة ، رغم أنني والأخ فتح الله والكثيرين أخذنا نصيبا من الضرب . ولكن ما أعاد شيئا من الأمل إلى نفوس الجماهير هو استئناف قوات المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة فتح عملياتها البطولية التي ابتدأتها في الفاتح من يناير / كانون الثاني عام 1965، وإثباتها وجودها في الميدان بداية من معركة الكرامة في الواحد والعشرين من مارس / آذار 1968 ، حيث بدأت جموع المساندين والمشاركين من مختلف الأقطار العربية تتوافد على قواعد الثورة الفلسطينية . واضطرت الأنظمة العربية إلى القبول ولو مؤقتا بالوضع الجديد ، لتبتديء مرحلة جديدة من حياة أمتنا .. أما بالنسبة لي ، فقد تقدمت لإمتحانات الدورة الثا نية وحصلت على الإجازة ( ليسانس ) في العلوم السياسية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الجامعة المغربية كانت لا تزال فتيّة ، معظم الأساتذة المغاربة في القسم العربي لم يكونوا قد حصلوا على درجة الدكتوراة بعد ، خلافا للقسم الفرنسي . وعليه فإنني طيلة مدة دراستي لم أتّتلمذ إلا على استاذين مغربيين ، فقد درست على ثلاثة أساتذة سوريين وثلاثة أساتذة عراقيين وأستاذين مصريين وأستاذين لبنانيين . ومن ذكريات الدراسة أن أستاذ مادة المالية العامة الدكتور مجيد عزت ( عراقي ) كان يعرف طلبته بأسمائهم لقلّة عددهم ويعرف المجتهد والمواظب منهم ، وعلى ذلك فإنه كان عندما يمتحن الطلبة في الإمتحانات الشفوية ، كان يخاطب المجتهد منهم : هل تقبل بعشرة نقاط من عشرين أم تريدني أن أسألك ؟ وعندها تصبح النقاط العشرة قابلة للزيادة والنقصان .أما عميد الكلية الأستاذ عبدالرحمن بن عبد النبي ( مغربي ) ، فعندما دخلت عليه ليمتحنني شفويا في مادة الحريات العامة في سبتمبر / ايلول 1967 ، قال لي : كنت أبحث عنك لتحكي لي تفاصيل ما حدث في الحرب من منطلق كونك معنيّ مباشرة بما حصل . وبعد أن حكيت ما لديّ ، قال لي هذا الكلام ليس له علاقة بالإمتحان ، والآن سأسالك في المادة . بعد حصولي على شهادة الإجازة في العلوم السياسية كان من المفروض أن أغيّر مسار حياتي ، وأن أترك مهنة التعليم لأبتديء مسارا آخر . ولكن الأقدار جعلت الأمور تأخذ مسارا آخر ، حيث بدأنا نسمع عن وجود تنظيم فلسطيني يمارس الكفاح المسلح لتحرير فلسطين يسمى حركة النحرير الوطني الفلسطيني ( فتح ) ، لم نكن نعرف أن لها أي تنظيم أو أعضاء في المغرب ، وعلمت أن لها مكتبا في الجزائر ومكتبا آخر في ليبيا . ولما كان الأستاذ فهمي الشنطي له صديق يعمل محاميا في ليبيا إسمه أنيس القاسم ، أخذت إليه رسالة من الأستاذ فهمي وسافرت إلى ليبيا للعمل هناك ، كان هذا هو الهدف الظاهر أما الهدف الحقيقي فقد كان التعرف بواسطته على مكتب فتح بليبيا ليقودني للإلتحاق بحركة فتح والإنخراط مع الفدائيين الذين كانوا ينطلقون في حينها من الأراضي الأردنية .