في نهاية مقدمة كتابه «ماضي وهم» واستباقا لسؤال حول مرحلة التزامه السياسي الحديدي والمغلق داخل صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي خلال الخمسينيات ، يجيب مؤرخ الثورة الفرنسية الشهير فرانسوا فوري « لقد اكتسبت بعد تلك المرحلة، نوعا من المناعة ضد الاستثمار شبه الديني في حقل العمل السياسي». وكان يقصد المناعة ضد التفكير بمنطق المفاضلة بين الحلال والحرام حينما يتعلق الأمر بالحسم في المشكلات أو في البدائل السياسية، كان يقصد المناعة المطلوبة ضد التفكير بالأبيض والأسود في الحقل السياسي. وفي معرض الجواب عن سؤال في نفس المعنى وفي سياق مختلف، حذر لاورنس وارت روائي ومؤلف كتاب عن هجمات الحادي عشر من شتنبر في استجواب مع هاري كرسلر من جامعة بير كلي، من الإغراء الذي مارسه نمط من التفكير الازدواجي التبسيطي في الأوساط الاستراتيجية الامريكية، والذي كان قد وصل ذروته لدى النيو كونز( المحافظون الجدد) في تلك العبارة الشهيرة « معنا أو ضدنا» والتحذير من نمط التفكير الازدواجي التبسيطي من طرف لاورنس الروائي، كان في منطوقه ومعناه تحذيرا من مخاطر التفكير بالأبيض والأسود في الحقل السياسي الاستراتيجي 0الكاتب أضاف أن التعقيد والصعوبة هو الأكثر التصاقا بالطبيعة الانسانية، فيما التبسيطية والازدواجية الاختزالية الإقصائية هي المستنبت الأول للأصوليات من كل نوع. وفي استجواب مطول للباحث والمفكر السياسي المعروف رالف داهن دورف عن مدرسة لندن للاقتصاد London school of economics يعبر فيه عن تأثره، خلال مساره الفكري الجامعي والسياسي بالزعيم كلادستون، يذكر كيف أن هذا الاخير لم يكن يمل ، في خطبه، ولقاءاته وندواته ،وقد كانت بالآلاف ، من الدفاع عن الطابع المعقد والمركب للأشياء، منبها أصدقاءه من داخل عائلته السياسية، الى أن أخطر ما يمكن أن يهدد الثقافة الديمقراطية هو ركون السياسيين أو ميلهم- بهاجس الكسب السريع- الى تبسيط ما هو معقد بطبيعته. إن تعميم درس التعقيد،والتنبيه الى أن العالم ليس بالبساطة التي يطرحها به السياسيون المبتذلون، المستعجلون على حصد التأييد و حشد الجموع كيفما اتفق ،كان ، بحسب رالف داهن دورف اهم إسهام يخلفه كلادستون للثقافة السياسية الديمقراطية ، التي لا مجال فيها للتفكير بالأبيض والأسود. والظاهر اليوم أننا نعيش وبشكل غير مسبوق في الكثافة والإيقاع في بلادنا، على مستوى الخطاب الحكومي ومشتقاته، عودة قوية الى تسييد التبسيط ومعاداة كل ما يمت بصلة الى ما هو مركب، صعب ،معقد، معاداة كل ما يستعصي على التفكير بثنائية الأبيض والأسود، بكل ما يرتبط بذلك ويستتبعه من عمليات ذهنية تدور في رأس متخذ القرار السياسي ،وفي مقدمتها بالطبع شيطنة الآخرين واعتبارهم مسؤولين عن كون الاشياء على الارض(لنقل للتوضيح الاختيارات الاقتصادية و الاجتماعية والسياسات القطاعية المؤسسة عليها)لم تجر بالشكل الذي خطط له أصحابه . وحينما يستقر هذا الميكانيزم الذهني الثنائي الدفع بالعقول، يصبح التبسيط المخرج الوحيد لإراحة البال والضمير إزاء صعوبات الواقع وأهواله . يسيطر التفكير بالأبيض والاسود وبشكل تقريبي، ففي ذهن السياسيين الذين يفكرون بالأبيض والأسود -وهم كثر هذه الايام في الحكومة-يجري التحليل الضابط للرؤية كما يلي: الواقع ظاهر بارز، المشكلات والمعضلات ظاهرة بارزة هي الأخرى تكاد تنطق بواقع الحال؛ ونحن لدينا تشخيصنا الصحيح والسليم والموثق بالكلام كما بالأرقام للواقع والمشكلات والمعضلات، ومع التشخيص الصحيح نملك اقتراحات الحلول الناجعة وقد ألقينا بالبعض منها في الميدان إذن ، والحالة هاته إذا جرت الاشياء في الواقع بما لا يتناسب مع تشخيصنا واقتراحات حلولنا،أو نطق الشارع أو تحركت النقابات أو تململ الرأي العام بما لا تشتهيه سفننا، فهي إذن المؤامرة تحاك من طرف الخصوم المتربصين!!هي ذي بالضبط البنية العميقة للتفكير بالأبيض والأسود وهل نذكر(بتشديد الكاف وكسرها) إبرازا لمخاطر هذا النوع من التفكير والتداعيات التي تحملها معها تلك البنية ان التاريخ يعلمنا في مختلف مناطق العالم وعبر مختلف الأزمنة الحديثة، أن الأصوليات والتوتاليتاريات - وبينهما، هل نذكر أيضاً ،خيط رفيع- لا تتحدد أو تعرف فقط بعدد وحجم العصي الغليظة التي قد تنزل على الرؤوس الغاضبة أو البنادق التي قد تصوب باتجاه صدور النفوس الثائرة ، مما ترجمته سينمائيا ببراعة أفلام كوستا كافراس ولكنها تعرف وتحدد ، بداية وفى المنطلق بالعمل الذي تمارسه ، على صعيد السيكولوجيا السياسية من أجل تسييد منطق التفكير بالأبيض و الاسود ومثل هذا المنطق ،حينما يتحكم ويستحكم وتكون له الغلبة(بلغة ابن خلدون) ،فإنه يخلق تلقائيا ،ومن ذاته، نقيض الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة الديمقراطية ،وفي مقدمتها قيمة ومشروعية الاختلاف وقيمة ومشروعية التعدد ،مضافا إليها الإقرار بالتعقد ،كمعطى أساسي في شؤون الحياة كما في قضايا السياسة ،تعقد لا يقبل منطق التفكير بالأبيض والاسود. وإذا كان التفكير بالأبيض والأسود ليس وليد اليوم ولا تبلور دفعة واحدة، وإذا كانت الحقيقة والموضوعية تقتضي الإقرار بأن هذا النمط من التفكير مارس ،بدرجات متفاوتة، وفي فترات مختلفة، تأثيرات على العقول على مستوى مختلف العائلات السياسية، فإنه يتعين، مع ذلك، وبجانب ذلك ،الإقرار بأن التفكير بالأبيض والأسود ازداد تغلغلا وتمكينا في أوساط المقررين السياسيين للمرحل. هكذا فإننا، بحساب المراحل ، قد نكون بصدد الانتقال من مرحلة كان فيها للإقرار بالتعقد مكان وقيمة في الحقل السياسي يدفع الى التفكير ويذكي إرادة المعرفة ، الى مرحلة يصير فيها الاستسلام للتبسيط والتفكير بالأبيض والأسود قيمة موجهة للحقل السياسي،برمته، مع انعكاسات ذلك على كل الأصعدة وفي مقدمتها فصل السياسة عن المعرفة بذريعة وتحت يافطة ربط السياسة بالأخلاق. هل نحتاج الى التأكيد بعد هذا بأن إعادة التوازن الى الحقل السياسي باتت تقتضي ،كضرورة استراتيجية النضال الهادئ ،المثابر والدؤوب ضد نمط التفكير بالأبيض والأسود.