قرأت أخيراً كتاباً صغيراً للشاعر محمد بوجبيري، غير أنه ممتع حقاً، وهو بعنوان « سيد العشيرة.. نصوص سردية» حيث حاول بو جبيري في هذه النصوص، كتابة سير أشخاص ينتمون إلى المحيط القروي الذي ولد ونشأ وعاش في رحابه، مكاناً وانتماءً. والذين تناول سيرهم، عاشوا، كما يقول، في الهامش مكتفين بما تجود به الأرض والسماء، ففي زمن الخصب يفرحون ويقيمون الأعراس ويسري بينهم إحساس مفرط بالحياة، وفي ظل جائحة القحط ينكمشون، ويداهمهم الخوف على أنفسهم وعلى ما يملكون من الدواب، التي كثيراً ماتموت بالهزال التدريجي، إلى أن تموت في صمت وتنفق في الخلاء. ويقول الكاتب :» هذه النصوص، تطمح أن تكون قبلة وفاء لأناس سمعت عنهم أو عايشتهم، فهم ليسوا من ورق، بل حيوات ومصائر، منهم مَن عبر إلى الهناك الغامض الملتبس، ومنهم من ينعم إلى حد الآن بإشراق الشمس وتعاقب الفصول» وفي عتبة كتابه ، يفصح بوجبيري عمّا واجه من إشكالية تجنيس نصوصه هذه، هل هي بورتريهات؟ أم محكيات؟ أم قصص قصيرة؟ أم سرد يجنح إلى الرواية،إذا أخذنا بعين الاعتبار، ذاك الخيط الرابط بين الشخوص والأحداث؟ إن تساؤله بشأن تجنيس هذه النصوص إبداعياً، وضعني في مواجهة سؤال أساسي، ليس بشأن تجنيسها إبداعياً حسب، وإنما في مجمل ما يطلق عليها من تسميات، وعلى سبيل المثال أستشهد بكتاب الروائي عبد الرحمن مجيد الربعي» وجوه مرَّت.. بورتريهات عراقية» وقد سبق لي أن كتبت عنه في الرأي الثقافي، وقد ضمّ سيَّرَ عدد من الأشخاص العراقيين، معظمهم من الهامش الإجتماعي، ورغم ان الربيعي وصف النصوص التي تناول فيها أشخاصاً عرفهم وتعايش معهم بالبورتريه. إن البورتريه وصف انتقل إلى الكتابة من الرسم، حيث يعني تحديداً رسم صورة شخصية، إلاّ أن غير واحد من الذين كتبوا عن « وجوه مرّت.. بورتريهات عراقية» توقفوا عند قضية تجنيس نصوصه إبداعياً، وكأنهم يفصحون عن إحساس بعدم تطابق هذا التجنيس وطبيعة النص، ومنهم د. جليلة الطريطر في كتابها « أدب البورتريه.. النظرية والإبداع» الذي تناولت فيه تجربة عبد الرحمن مجيد الربيعي، في ما أطلق عليه البورتريه، حيث رأت إن هذه النصوص تنتسب إلى « كتابات الذات» وتشمل السيرة الذاتية ومحكي الطفولة والمذكرات واليوميات والرسائل الخاصة والبورتريه. ورغم أن د. الطريطر وجدت كتابات الذات، ومنها البورتريه، قريبة من حيث نظام إحالتها المرجعي من الملفوظ التاريخي، لكنها ، تُعامل بوجه عام معاملة النصوص الأدبية. ومما يلفت النظر، إنها إشكالية قديمة في أدبنا العربي، فقد كان علم الرجال الذي خص به في بداياته ،المحدثون، وكان التأكيد فيه على التثبت والتجريح والتدقيق في شخصية المحدِّث ، ثم شمل في ما بعد سواهم من الأشخاص، كما في وفيات الأعيان لإبن خلكان ومعجم الأدباء لياقوت الحموي، وغيرها من المؤلفات التي نحت هذا المنحى، لكن لم تجد لها تجنيساً أدبياً، بل أن نصوصاً يالغة التميز مثل البخلاء للجاحظ وبعض كتابات التوحيدي وبخاصة مثالب الوزيرين، هي الأخرى لم تجنَّس أدبياً، لافي الماضي ولا في الحاضر، بحدود اطلاعي. ومما أود قوله إن مثل هذه النصوص على امتداد القرن الماضي ظلت تحتفظ في الكتابة الادبية العربية، بوصف» صورة قلمية» ويبدو لي إن هذا الوصف أكثر دقة من « بورتريه» لأن الأخير أقرب إلى الصورة الشخصية في الرسم او الفوتغراف، كما أن الصورة القلمية تشير ضمناً إلى التناول الإبداعي في الكتابة عن الأشخاص،حيث يمكن أن نضع بموازاته نصّاً آخر يكاد يكون أقرب إلى التوثيق، كما في مشروع الشاعر هشام عودة» موسوعة الشخصيات الأردنية» أو مشروع سعيد جودة السحار» موسوعة أعلام الفكر العربي» وغيرهما ممن نهج نهجهما، حيث يكون النص أقرب إلى الكتابة التاريخية. أما الصورة القلمية أو الرسم بالكلمات، على حد تعبير د. جليلة الطريطر، فهو عمل أدبي إبداعي، له ما للعمل الأدبي الأبداعي من أهمية وعليه ما للعمل الأدبي الإبداعي، من فعل المخيلة، حتى وإن كان يعتمد أساساً على الذاكرة والتجربة الحياتية المباشرة والواقعية، وهي ترى إن توفر فنِّيات القص حين تلتحم بالأحداث التاريخية المستدعاة في المحكي الذاتي، تمنحه قوته الإجناسية، ويكون في مستوى قرائي يتجاوز سطحه الإخباري، كما في نصوص» وجوه مرَّت» للربيعي، وبالإمكان استعارة قراءتها هذه، حين الحديث عن نصوص « سيد العشيرة.. نصوص سردية» لمحمد بوجبيري. وهكذا يكون فعل الإبداع لدى المتلقي، متجاوزا حدود التجنيس، فالنص الإبداعي الحقيقي، يحقق فعله في القراءة، خارج مدى التجنيس.