هذا الروبورتاج واحد من عدة روبورتاجات أنجزها بوريس مابيار, الصحفي المصور السويسري الذي دخل سرا إلى سوريا عبر تركيا في جبل أكرد, وهي منطقة جبلية في شمال غرب سوريا التي تمردت قبل شهرين على نظام الأسد، قضى 17 يوما مع سكان القرى ومع مقاتلي الجيش السوري الحر الذين سمحوا له بمرافقتهم في تحركاتهم وعملياتهم ولقاء قادتهم العسكريين، ورصد أحساسيس وهواجس الثوار... فجأة حالة طوارئ قصوى, تم رصد عناصر الشبيحة (ملشيات بشار الأسد) في المنطقة, أم تجمع بعض الأغطية تمنعها ابنتها »»يكفي غطاءان, ليس لدينا الوقت«« في الأزقة الهلع سيد الموقف, لم يبق في البلدة سوى الاطفال والنساء والشيوخ, أما الرجال القادرون على حمل السلاح فقد التحقوا بصفوف الجيش السوري الحر، عربة مجرورة بجرار مهترئ تحمل عشرات النساء مع أبنائهم، القرية أفرغت من سكانها خلال دقائق, الخوف يستبد بالمتأخرين, الكل مقتنع بأن الجيش السوري الحر لن يصمد طويلا أمام قوات الجيش المتفوق عددا وبالأخص عدة. في شمال غرب سوريا، أصبح جبل الأكراد تحت سيطرة المعارضين قبل شهرين, وبلدة »آكو« التي كان يقطنها 600 شخص قبل الثورة، فرضت نفسها كعاصمة للتمرد. ممثلو النظام السوري فروا من المنطقة التي تعيش في عزلة عن باقي البلد. الانتظار طويل في الغابة التي لجأ إليها القرويون, بعضهم في عداد المتغيبين. »أين فادي؟« المدرس في المدرسة الابتدائية لبلدة قنابي المجاورة, منذ أن اغلقت المدرسة قبل شهرين يجزي وقت الفراغ, »لقد رحل من ضمن الأوائل, يرافق نور الدين لمساعدته على التحرك«, نور الدين جندي فر من الجيش مصاب, يعرف جيدا أنه إذا عثر عليه سيكون مصيره القتل والتعذيب، مخابئ أخرى بين الأشجار في تجاويف الجبال تستقبل باقي القرويين, رجال مسنون أخرجوا بنادقهم القديمة, في آخر مرة خلال أبريل قصفت المروحيات عشوائيا الغابة. هذه المرة سيكون الفرار دون جدوى: فالقوات السورية عادت أدراجها على مشارف الجبل. في اليوم التالي، إنذار جديد, تتحرك قافلة من المصفحات الخفيفة نحو قرية مجاورة, الهلع يتصاعد, لكن بعض الشبان الذين يتنقلون على الدراجات النارية بين مركز القرية ومواقع عناصر الجيش السوري الحر على بعد 3 كلم يأتون بمعلومات جديدة مطمئنة لهم في قرية آكو: الجنود حولوا وجهتهم نحو بلدتين أخريين في المنطقة لا تتوفر لديها أدنى معلومات, المسؤول العسكري في وحدة الجيش السوري الحر قرر إرسال كشافين، استقل عشرة مقاتلين من آكو السيارة الوحيدة التي يتوفر عليها المتمردون في نقطة المراقبة الصديقة يتلقون آخر المعلومات: لم يروا أي شيء, فقط سمعوا انفجارات يتوجب مواصلة السير بحذر حتى لا يسقطوا وجها لوجه مع قوات بشار الاسد. دراجة نارية تفتح الطريق في كنيد. يسود الغموض الكلي, ابو بكر سائق السيارة يسأل غاضبا: »هل مازال الجنود في القرية؟ عادوا للتو، هم على بعد حوالي 4 كلم في قرية تادرين, حيث سقط قتلى هنا ,سرقوا سيارة وضربوا قرويا واقتادوا أسرى. وسط جمع صغير من القرويين يعرض رجل وهو يبكي يديه المتورمتين وهو يعتصر ألما, يحتاج طبيبا لكنه غير موجود. ظهر جنود، رآهم يقتادون جاره الذي كان يعمل في حقله. ذنبه أنه سألهم لماذا يقتادون قرويا لا ذنب له «رموا بي ارضا, اخذ احدهم هذه العصا الضخمة، وبدأوا يضربون على يدي ويضحكون» احد ابنائه( 12 سنة) يسقيه الشاي في فمه وعيناه تدمعان. اعمال الانتقام التي يرتكبها الجيش تغذي الرعب، لكنها في نفس الوقت تقوي عزيمة الثوار. يؤيد القرويون الثوار. لا يحلمون سوى بسقوط الطاغية والانتقام من الجلادين. «كل شيء تغير في ابريل, يقول فادي ,رسمت الحملات العقابية للجيش في ابريل ضد قرية آكو وقرية كباني المجاورة مصير قرانا» تصل فتاتان تطلبان الماء. تحملان وعاءين بلاستيكيين فقط. منذ اسبوع جفت الصنابير, يقبل فادي أن يعطيهما الماء. فمنزله يتوفر على حاوية ماء بها اكثر مما يفي بحاجة عائلته. لكن والده غاضب: »القرية بأكملها تأتي إلينا، قريبا، لن تتبقى لدينا قطرة ماء,« قرية اكو تتزود بالماء من محطة ضخ بجبل احمر، وهي قرية تبعد حوالي 10 كلم موالية للنظام سكانها علويون ومن بينهم يوجد شبيحة، وهم من قطعوا الماء« لكن ليس الماء وحده الذي شح, فانقطاع الكهرباء ايضا اصبح متكررا ولفترات طويلة. الغاز اصبح نادرا، واسعاره ارتفعت كثيرا. منذ عدة اشهر، اصبحنا مجبرين على استعمال الخشب للطهي، قبل ثلاثة اشهر، كانت هنا أشجار شاهقة, يقول فادي, وهو يشير الى منحدرات عارية في الجبل. لماذا لا يلتحق فادي بالجيش السوري الحر؟ «انا لا أتوفر على روح المقاتل، لست مثل اخوتي، لا أملك نفس قوتهم ولا شجاعتهم, عندما يتكلم الشقيق الاصغر المقاتل في صفوف الجيش السوري الحر، ينصت فادي باحترام. الثورة قلبت كل التراتبيات لفائدة الشباب المقاتل, الثورة قضية شباب. هم يقاتلون ضد النظام القائم الذي يتعايش معه آباؤهم. هذا الصباح، وصل أخوه الاكبر محمد من اللاذقية صحبة زوجته وبناته الثلاث . لا فرحة في هذا اللقاء. محمد يخشى على حياته وحياة اسرته بسبب انخراط اخوته الى جانب الثوار, «ابو وليد هارب من الجيش وهو ضابط في الجيش السوري الحر، وابو أسامة التحق بالجيش السوري الحر ايضا. والسلطات ستعلم بذلك عاجلا ام آجلا. و انا من سيحاسب على ذلك» يعرف انه لن يقنع اخوته بالتخلي عن الكفاح، ولا يرى حلا سوى الفرار و»»التخلي عن كل ما املك وعن عملي وألجأ الى تركيا» فادي يتقاسم نفس الخوف» قبل ان يتحول الجبل الى جانب الثورة منذ شهرين. لم يكن الثوار يأتون الا لماما. و منذ ذلك الوقت اصبح مركز قيادتهم هنا واخشى أن يجر علينا ذلك الويلات» التوجس والقلق يستبد به «عاجلا ام اجلا ستشن الدبابات هجوما واسعا ,سنقدم شهداء مثل شهداء حي بابا عمرو بحمص لكنني لن ارحل» والده كان له خيار آخر «هذا الانتظار لا يحتمل، سأرحل الى تركيا. على الاقل هناك بامكاني ان انام»,» ومن سيهتم باشجار التفاح، يا أبي». ذاك الوقت ولى، ستمضي عشر سنوات على الاقل قبل ان يعود السلام. لن أراها تزهر مرة أخرى»