أصبح مهرجان الموسيقى العريقة ذاكرة حية يختزن طموحنا إلى تحقيق الرفعة والسمو، وعلينا أن نضيف إلى هذا البعد العاطفي، بُعْد التأمل والقدرة على الاقتراح التي يتغياها منتدى «إضفاء الروح على العولمة»، كوسيلة للتوفيق بين «القلب والعقل» بغية إنجاز المشاريع الصائبة، وهذا ما تسعى إليه مؤسسة «روح فاس»، يقول محمد القباج رئيس مهرجان فاس للموسيقى الروحية. في هذا الحوار الذي خص به فوزي الصقلي مدير عام المهرجان ملحق «إعلام وفنون» نتطرق إلى أهم أهداف هذه التظاهرة وارتباطها بالمحيط السياسي الجغرافي للمغرب، ودور ما هو روحي وعلاقته بالسياسي، كما يشرح للقراء لماذا اختيار الاحتفاء بعمر الخيام، هذا الشاعر الذي تفصلنا عنه 10 قرون، والذي تحفل الرباعيات بإشراقاته الشعرية بالعديد من المعاني المفيدة للعصر الذي نعيش فيه. { لماذا اخترتم هذه السنة، الدورة 18 لمهرجان فاس للموسيقى الروحية، الاحتفاء بعمر الخيام؟ لأن عمر الخيام له إشعاع، وله مكانة في الذاكرة الجمعية في العالم العربي والإسلامي، وأحد علماء الرياضيات و«الاسترفيزيك»، شاعر وصوفي..، المسألة الثالثة أن عصره كان شبيها بالعصر الذي نعيش فيه، فيما يخص الاصطدام والتدحرج في مفهوم السياسة الواقعية التي تفقد كل مرجعية أخلاقية في العالم الذي نعيش فيه. فيما يخص علاقة السياسة بالأخلاق، يقال إن السياسة لا أخلاق لها، ونوع من الإيديولوجيا المتطرفة المنسلخة عن الواقع، وهناك طريق ثالث في اعتقادي في هذه العلاقة، هو طريق الثقافة وطريق الفكر، والاعتراف بالواقع وتغييره. لا بد من المزج بين الجانب العاطفي - الفني والجانب الفكري، والمزج بين هذين البعدين، مفهوما وفكرة، تشبه الفكرة التي كان ينسجها عمر الخيام بنفسه. لهذاخصصنا أمسية لعمر الخيام، حول إبداع وشعر عمر الخيام بلغات متعددة بالنسبة ليلة الافتتاح، كل هذا يصب في الواقع في عدد من المواضيع حول الربيع العربي وما بعد هذا الربيع وأثار الأزمة المالية وغير ذلك. { ذكرت أثناء تدخلك بأحد قاعات مجلس الشيوخ الفرنسي بباريس، أن هذا المهرجان، أي مهرجان فاس للموسيقى الروحية، هو مشروع ثقافي، وليس مجرد مهرجانا لتنشيط المدينة الروحية للمغرب. ماذا تقصد بذلك؟ هذا المهرجان بحد ذاته هو نوع من العمل السياسي، من خلال الثقافة، الثقافة كمشروع اجتماعي، نوعية المجتمع الذي نريد، وكيف ندبر التنوع داخل المجتمع والمكاسب الإنسانية، كيف نحافظ على مجموعة من الملكات، الثقافة، أيضا، كمشروع سياسي ونوعية المجتمع الذي نريد بناءه، وكيف نحافظ على بعض المكاسب الانسانية مثل الجانب الثقافي والروحي والاجتماعي الطبيعي.. وهي أمور لابد من أن تأخذ بعين الاعتبار، بموازاة أشياء أخرى. وهذا يجعل أن الفكر هو متحرك يتجسد في منظومة، ويتجلى، أيضا، في أعمال ثقافية، كتابة وتأليفا ... والاختيار، هذا، ليس عبثيا، بل يتغيا تحقيق أهداف حددناها لهذا المهرجان. فهناك رؤية وراء ذلك حول الثقافة والمجتمع. { في كلمتك أمام جمعية الصداقة الفرنسية - المغربية بمجلس الشيوخ الفرنسي، التي تعتبر ثاني أكبر جمعية بهذه المؤسسة من حيث عدد النواب المنخرطين بعد جمعية الصداقة الصينية الفرنسية، قلت بضرورة إدخال جانب روحي على السياسة، وليس تسييس ما هو روحاني، هل تقصد بذلك التحولات التي يعرفها المغرب والعديد من البلدان العربية في علاقة كل ما هو سياسي بما هو ديني، وهذا الاحتكاك والتماس بين الحقل السياسي والحقل الديني؟ هذه العلاقة بين الدين والسياسة، هي جوهرية في مجتمعاتنا، ولابد من تخليق السياسة وإعطائها عمقا، لا بد من أن لا يكون الهدف هو السلطة من أجل السلطة، أو أن لا تكون المصلحة الذاتية هي المحرك في هذا الجانب.. لهذا ينبغي إضفاء مسحة أخلاقية على العمل السياسي، بدل البعد الأناني والمصلحي فقط. السياسة هي خدمة الغير، وهذا ما يسمى بالفتوة، أي الأخلاق التي تتجلى في العمل، والعمل بالإحسان نية عالية ومقصد عالي، وهذا هو الذي يخلق الحضارة، والتنشئةوالتنمية الاجتماعية في المستوى، وبدون هذه الروح لا نحصل على شيء، والعكس هو الخطير، أي استعمال خطاب مثالي وأخلاقي من أجل مصلحة خاصة ، وإلا فإن العكس هو الذي سوف يحصل، أي تسييس ما هو روحي وديني. لذلك يجب أن نفهم هذه العلاقة، لكي تكون إيجابية وبناءة.. والجانب الروحي في السياسة ليس هو استعمال السياسة في الدين، أو أن يلعب الدين دور السياسة، بل يجب أن تنعكس على الإنسان في سلوكه، وفي عمله، وفي حالة الخطأ يعترف بذلك ويقوم بنقد للذات، وأن لا يتشبث بالسياسة، كأنها منفعة شخصية، وفي حالة الخطأ يعترف... هذه ثقافة عالية لابد من إدخالها إلى الجانب السياسي. فإذا كانت السياسة منسلخة عن الأخلاق، ولا توظفها، فهذا غير سليم. الثقافة، بصفة عامة، تساعد على ذلك. { خلال الدورة الحالية والدورة السابقة لمهرجان فاس للموسيقى الروحية نلاحظ أن الربيع العربي فرض نفسه على فعاليات الدورة، ماذا أعددتم لذلك؟ نحن نتعامل دائما مع الواقع، وليس لنا فكرة مسبقة عنه، كان هناك غليان وحراك في الشارع، نحن نتعامل معه، اليوم نرى النتيجة التي تطرح الإشكاليات الجديدة للخريف بعد الربيع، وصعوبات لم نكن ننتظرها، ومن الضروري أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار. فإذا تمكنا من خلق فضاء يضم هذا الفكر وهذا الإبداع، وأعني بذلك المشروع الثقافي الذي تحدثت عنه في البداية، وفيه التعابير والنماذج الفنية والثقافية، سيجعلنا في اتجاه بوتقة حضارية لها حيوية، بمعني أننا لن نبقى على مستوى الخطاب، بل ذلك سيساعدنا إلى المرور إلى الواقع والتجسيد، في المدرسة والجامعة والتربية العاطفية لدى الطفل من خلال الفن والجانب الروحي، الحس الروحي والرقة.. وهي كلها أشياء تتربى في الإنسان على عدة مستويات. فعملنا هو نوع من المختبر الضيق، غير القادم من فراغ، بل من قيم أنتجها مجتمعنا، فقط يجب التنسيق فيما بينها وهذه هي «سياسة الحضارة». { من خلال تجربتكم، فيما يخص مهرجان الموسيقى الروحية، وكذلك مهرجان الثقافة الصوفية بمدينة فاس، لكم توجه واهتمام بما هو روحي وديني، هل هو من أجل خدمة مفهوم الديبلوماسية الدينية التي ترتكز على الروابط التاريخية للمغرب والدور الذي لعبته مدينة فاس في هذا الإطار؟ بالنسبة لنا، المضامين هي التي تتكلم، هناك مضامين، ولا ننطق عن الهوى، ليس التواصل من أجل التواصل، بل هناك مضامين ومحتوى. عندما كنا بمدينة برشلونة، كان هناك تجاوب وحضور كبير، وهو نفس الوضع نراه اليوم بباريس. فهناك دائما تجاوب عندما يكون هناك مضمون، وهي أكبر ديبلوماسية ثقافية. إذن يمكن أن نتكلم عن أشياء أخرى عبرالسياسة وقد لانحقق التواصل المطلوب، ولن نفهمه بشكل أكبر، الأمر الذي قد تحققه القوة الثقافية..، وبهذا لا يمكننا فقط التركيز على الجانب الاقتصادي والسياسي.. لكي نفهم ما لدى الآخر.. فلا بد لنا من خطاب قوي ثقافي للوصول الى التواصل المطلوب، وحينها سوف نفهم ما لدي الآخر بشكل أكثر. إننا نعيش اليوم نوعا من الإحباط، نتحدث عن السياسة بمعزل عن التاريخ.. ، وكأننا بدون جذور، وهكذا ينظر إلينا. وإذا كان لنا نسق فكري متجدد ليس جامدا، يتحرك، وإبداعي يتمتع بحيوية فكرية وثقافية وإبداعية روحية، من ثم سوف يكون خطابنا أعمق هنا، من الجانب الديبلوماسي. { مهرجان فاس الآن له 18 سنة، وأسس في فترة دقيقة من تاريخ العالم الذي نعيش فيه، حيث مفهوم صراع الحضارات التي دافع عنه المفكر الإمريكي هينيغتون. المهرجان استضاف، أحيانا، أنواعا ثقافية وموسيقية متناقضة، ومتصارعة، هل تعتقد أن مهرجان الموسيقى الروحية لعب دورا في نشر ثقافة التقارب بدل الصراع بين مختلف الحضارات ونشر فكر الحوار في عالم يطغى عليه الصدام والصراع المستمر، هل خلفية تقريب الحضارات فيما بينها كانت حاضرة لديكم منذ التأسيس؟ بدأنا العمل في هذا المهرجان قبل أن يبدأ الحديث عن صدام الحضارات. الفكرة الأولى لمهرجان الموسيقى الروحية كانت سنة 1991، في حين أن كتاب هينغنتون صدر سنة 1993 . فكرة مهرجان الموسيقى الروحية كانت سابقة في الوجود، نتيجة ملاحظات وتتبع للوضع بعد حرب الخليج والعراق، بما في ذلك الكلام الذي كان رائجا حول المسلمين وحول حضارتهم، وبعد ذلك ساد هذا الخطاب الجديد حول الصراع، ومن ثم، بدأ النقاش أن هناك هوة بين الثقافات، وكان علينا أن نجيب من خلال قدراتنا المحدودة. وكما نعرف، أنه رغم محدودية الثقافة على المستوى الكمي، فهي قوية التأثير من حيث الكيف، وهذا هو الفكر المتنامي. كما لها وقع من قبيل الإجابة عن فكرة صراع الحضارات، إذ لا يكفي أن نقول إن هذا الصراع غير موجود لكي يتوقف، بل علينا أن نعطي بديلا ونموذجا لهذا الحوار والتقارب. { فيما يخص التقارب بين الحضارات، أثار انتباهي خلال الانتخابات الفرنسية الرئاسية اأخيرة، أنه في بلد مثل فرنسا، الذي نحن قريبون منه لعدد من الاعتبارات التاريخية البشرية والثقافية..، تم استعمال حضارتنا وقيمنا بشكل جد سلبي خلال هذه الحملة، كيف تفسر ذلك؟ هذا أمر مفجع ويخلق إحباطا كبيرا، حيث يجد الإنسان نفسه كلعبة، يتم استعماله دون إمكانية القيام بأي شيء، وهو رهينة، وهذا انحطاط حضاري وسياسي كبير.. والحمد لله أن النتيجة في هذه الانتخابات بينت أنه لم تكن هي الغالبة بفرنسا. وتكاد هذه المجموعة، وما إليها من أسماء عابرة، أن يطويها الزمن فيما إذا بقيت مهملة ولم تجد الرعاية الكافية لإحياء هذا الغناء الكلاسيكي، كما تفعل أوربا في الحفاظ على الموسيقى الكلاسيكية وأصحابها المشهورين أمثال باخ وموزارت وبيتهوفن وتشايكوفسكي وغيرهم من العباقرة. لم يقتصر النسيان لأولئك الفطاحل، الذين كانوا جسرا لنبوغ محمد عبد الوهاب وصحبه. بل امتد الإهمال إلى العنصر النسوي ممن كان لهن دور في النهضة الغنائية، ومن بين الأسماء التي تغاضي عنهم الزمن: ساكنة والمظ واللواندية وهانم المصرية وأمينة القباني ونرجس المهدية وتوحيدة والسويسية ونعيمة المصرية وآخرهن منيرة المهدية التي انسحبت من الميدان عندما ظهر نجم أم كلثوم. إذا فارقنا القرن العشرين ورجعنا إلى القرن التاسع وربطنا الاتصال بثنائيين كان لهما دور في بداية النهضة الموسيقية وتطويرها. الأول الأول كان يجمع بين شهاب الدين وعبد الرحيم المسلوب وتوزع العمل الموسيقى في بداية هذا القرن حيث ألف شهاب الدين كتابه المشهور «سفينة الملك ونفيسة الفلك» جمع فيه المئات من الموشحات، فأخذ بعضها عبد الرحيم المسلوب ولحنها، مما جعل هواة الغناء يقبلون على هذا اللون ويتذوقونه. كما أنه اكتشف لونا جديدا من الغناء بالنسبة لعصره آنذاك وهو فن «الدور» الذي كان مجهولا. لكن الذي طوره هو الثنائي الموسيقى محمد عثمان وعبده الحامولي، فاقتسما العمل الموسيقي بعد العطب الذي أصاب الأول حلقه، مما جعله يتخصص في التلحين ويبرع فيه فتأتي الأغاني على فم الحامولي سلسبيلا، إذا علمنا صوته العذب والذي لا يضايه صوت آخر. وقد أطنب العديد من الأدباء الكبار في ذلك الزمن في مدح أدائه الصوتي وما يتمتع به من تناغم وتلاعب في انخفاضه وارتفاعه. إنها إطلالة سريعة إحياء لذكرى الفنانين المجهولين، ونريد منها أن تجمع شتات تلك العصارة الفنية التي جادت بها قريحتهم لتسير على هديها الأجيال الجديدة فيما إذا أحسنت التمعن وأدركت عمق هذا التاريخ الغنائي.