سألني الإخوان والرفاق والأصدقاء، عن سر دموعي بين يدي الأخ نوبير الأموي، و التي فضحتها الصورة المنشورة بالإتحاد الاشتراكي غداة مسيرة الكرامة . و أصدق القول للجميع، أن في تلك الثواني التي أمتزج فيها العناق بالدموع، تعطل الفكر، و توقف الإدراك...لم أكن أعلم سر الانفعال، كنت فقط أعيش حالة وجدانية تستعصي على الفهم و الوصف. وبعد نشر الصورة، و انتهاء حالة الإنفعال و نجاح مسيرة الكرامة ، رجعت إلى ذاتي أسائلها كما سألني كل الأوفياء و المتعاطفين عن سر دموعي في تلك اللحظة . و أدركت حينها أن تلك الثواني من اللقاء مع الأموي، و الذي لم يحصل لما يقارب عشر سنوات، اختزلت عمرا بأكمله من الانتصارات و الانكسارات . كانت الثواني القليلة من العناق و الدموع حبلى بالذكريات، منذ المؤتمر الاستثنائي لحزب القوات الشعبية (1975) و ثاني لجنة مركزية ببني ملال (أبريل 1976) و التي دققت برنامج مسلسل النضال الديمقراطي واجتماعات اللجنة العمالية الوطنية التي ترأس أولاها الشهيد عمر بنجلون قبل أن تنال منه يد الغدر، حيث استمرت أشغالها بهديه لتصنع قرار تأسيس البديل النقابي الذي تحقق يوم 26 نونبر 1978 ، و المعارك النضالية لشهر أبريل 1979، و الهجوم الهمجي بالاعتقال و الطرد و التشريد الذي تعرض له مناضلو الصحة و التعليم، و كان لي شرف الطرد مثل المئات من المناضلين...ثم الإضراب العام سنة 1981 الذي فضح الآلة الهمجية و الوحشية للحاكمين آنذاك و التي وصلت حد القتل إلى جانب المئات من المعتقلين و على رأسهم نوبير الأموي و إغلاق المقرات النقابية و الحزبية و توقيف جريدة المحرر، ليتوج المسلسل باعتقال قادة الاتحاد الاشتراكي و في مقدمتهم القائد عبد الرحيم بوعبيد.......و يمتد الشريط و يطول بتراكم أحداثه التي كان يصنعها القرار النضالي المستقل عن دوائر التوجيه و التحكم المخزنية ، و المشبع بالعنفوان و الكبرياء و الكرامة.... و كان عنوان الشريط « وحدة العائلة» حقا كانت العائلة متراصة البنيان. يوحدها صدق الوجدان، ووضوح الرؤيا، وحصانة أخلاقية عالية الكيان . و ترافقها الانتصارات رغم عنف الضربات و جسامة التضحيات . و كان أفراد العائلة من المناضلين و المناضلات، كل من موقعه، في القواعد كما في القيادة، على نبض واحد، بقلب واحد، و عقل مجتهد، و ممارسة في الأرض، و رأس مرفوعة إلى عنان السماء ترقب الأمل....وكانت العيون تدمع فرحا بالصمود و الإصرار، و تغالب دموع الحزن أمام بوابات السجون و زيارة عائلات الضحايا و فقدان الأحباب. ذرفت دموعي مستحضرا تاريخ الدمع النضالي الاتحادي و اليساري عموما، و الذي لا يمكن اختزاله...كثيرة هي المحطات و الأحداث التي لم يستشرنا فيها الدمع، و هطل بغزارة، فرحا أو حزنا... ولكنه في كل الحالات كان دمعا صادقا نابعا من صدق الوجدان. في لحظة ما... يمكر التاريخ بنا ، حين لم نستوعبه بقدر كاف، فتعددت الرؤى بمنطق الحسابات، و تحولت الأسرة الممتدة في الزمان و المكان، إلى أسر « نووية» بلغة السوسيولوجيين . و تعدد أرباب الأسر، و تحول الحلم الجماعي إلى أحلام « جماعية» بصيغة المفرد، و أحلام فردية بلغة «الجماعة» و اهتز الوجدان و تاه العقل و تكلست القيم.... و كان من الضروري أن تتجمد الدموع في المآقي و العيون . الدموع في كل الحالات، غيث يسقي الأرض. و أرض النضال في حاجة دوما إلى مطر الدموع، فرحا أو حزنا، كي تخضر و تينع و تزهر...و عندما يغيب الدمع تتصحر الأرض و يغزوها التيبس و التشقق و اليباب. لم تكن دموعي في مسيرة الكرامة هي الوحيدة... فلقد رأيت عيونا تذرف غيثها لدى الكثير من الأخوات و الإخوان و الرفيقات و الرفاق.... رأيت دموعا ترفض كل التسميات و الأوصاف . هطلت فقط لتسقي الأرض كي تخضر و تينع و تزهر من جديد....كانت الدموع في يوم الكرامة بدون إسم ولكنها كانت تدعونا إلى تسميتها عندما تستعيد الأرض نضارتها.... سنسميها دموع الأمل و الفرح عندما نترجم يوم الكرامة، ترجمة تجعلنا جميعا نقرأ تاريخنا النضالي قراءة نقدية « عالمة» تفرض علينا جميعا إعلان « التوبة النصوح» و التي لا تعني أكثر من « الاعتراف بالأخطاء» و «الإقلاع عن إعادة إنتاجها» و أخطاؤنا جزء من حركية التاريخ و تحولات المجتمع ، و الإقرار بها فضيلة العقلاء، كما أن الإقلاع عنها من شيم ذوي النفوس الكبيرة و النبيلة. سنسمي دموعنا ، دموع الفرح و الأمل ، عندما نفكر جماعيا ، باختلافاتنا و اجتهاداتنا ، في استثمار مسيرة الكرامة التي استطاعت في لحظة واحدة تجميع كل أطراف اليسار و المتنورين و الحداثيين و الديمقراطيين...و هذا الاستثمار لن يتم إلا بالعمل المتواصل و المتواضع من أجل إعادة الاعتبار للامتدادين الكفيلين بإعادة النبل للعمل السياسي كخدمة عمومية. و هذان الامتدادان هما : - الامتداد الزماني الذي يربط التاريخ النضالي لشعبنا الذي يراد محوه من الذاكرة..حتى تتمكن الأجيال الجديدة، و لا سيما شباب حركة 20 فبراير كحركة اجتماعية ، من الأدوات النظرية و العملية للتوجه نحو المستقبل بوضوح و ثبات و إصرار و أمل . - الامتداد البشري في المكان بإعادة الانغراس وسط جماهير الشعب من مختلف الشرائح الاجتماعية و على رأسها الطبقة العاملة و مجموع المأجورين و المعطلين الذين توحدهم نفس المطالب . و السير بهذا الانغراس في أفق توحيد الإطارات و المرجعيات, الشيء الذي عكست بدايته المبادرة الوحدوية لمسيرة الكرامة بين الكونفدرالية و الفدرالية . - سنسمي دموعنا دموع الفرح و الأمل، عندما نلتقط جميعا لحظة يوم الكرامة التقاطا عقليا ، بتجديد رؤانا للأشياء. فمغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس. و معرفة اليوم و أدوات التحليل و آليات الاشتغال و الفعل ، ليست هي ما عهدناه في زمن سابق . و هذا يفترض فينا جميعا التقاط اللحظة وجدانيا مما يعيد لعواطفنا الحرارة بحب هذا الوطن و حبنا لبعضنا البعض... الشيء الذي يتطلب منا إعادة النظر في منظومتنا القيمية و الأخلاقية و تحصينها من كل ما يعرضها للتردي و الانحدار..و ذلك بجعل القيم الأخلاقية في صلب تشريعاتنا القانونية الداخلية نحتكم إليها بعيدا عن النزوعات و النزوات.. لكل ذلك و أكثر فالخيار الوحيد الذي أمام الجميع ممن حضروا و ثمنوا مسيرة الكرامة هو وحدة الصف اليساري و خيار العمل على إنجازه و تحقيقه. و آنذاك ستصبح دموعنا فرحة مستبشرة تصنع الأمل في المغرب الممكن و تعمل على تحقيقه... و ما عدا ذلك ، فلن تكون الدموع سوى دموع تماسيح.... وعلى التماسيح أن تستعد للرحيل قسرا ، عن طريق حركة الجماهير، أو قضاء و قدرا عن طريق عزرائيل