عادة الكبار أن يرحلوا في صمت، مثلما عاشوا في صمت وإباء، حتى وأعمالهم تكون كبيرة ووازنة وجليلة. وكذلك كان الأمر مع الأستاذ الراحل محمد الطيب الناصري، وزير العدل السابق، ابن الزاوية الناصرية بأولاد صالح بالنواصر، بضواحي الدارالبيضاء، الذي تمتلك عائلته شجرة النسب إلى سلالة النبي محمد. ولم يكن زعيم الزاوية البوتشيشية بمداغ، الشيخ حمزة، يقبل أن يجلس الأستاذ الراحل على الأرض، بل كان يخصه بكرسي تقديرا لأصله الطيب. ولأن الإنسان عادة إما أن يكون مصدر طاقة إيجابية أو مصدر طاقة سلبية، فقد ظل الراحل مصدرا لطاقة إيجابية في كل مسارب الحياة التي عبرها، وكان له إحساس مرهف جدا بالأحداث والأشخاص والعلائق، وكان ابنا وفيا لتربية الزاوية التي كبر فيها، ولسلالة والده الحاج الطيب رحمهما الله جميعا. كانت كفاءتهالعلمية القانونية هي التي بوأته أن يكون مرجعا قانونيا وحقوقيا لا يعلى عليه، مما أهله لأن يصبح محامي الدولة المغربية في كل قضاياها الدولية وأمام مختلف محاكم العالم. ولعل الكثيرين يتذكرون القضايا التي رافع فيها أمام محاكم باريس من أجل قضايا تخص الملك الراحل الحسن الثاني، لأنه أولا وأخيرا حجة علمية قانونية. مثلما يذكر الجميع دفاعه عن حقوق المغرب أمام المحاكم الدولية ذات الصلة في ما يرتبط بكارثة السفينة الإيرانية «خرج 5» التي تسرب نفطها بعرض سواحل آسفي منذ سنوات بما تسببت فيه من كارثة بيئية، مثلما أن مكانته بين زملائه المحامين هي التي أهلته لأن يكون نقيبا لهم، قبل أن يلج مسؤولية وزارة العدل في حكومة عباس الفاسي، وينجح في إحداث تغييرات جذرية ببنية الوزارة، بل ونجح في تغيير وجوه عمرت طويلا في مفاصل الوزارة وكانت دوما حاجزا أمام أي إصلاح حقيقي في الوزارة. مثلما اكتشف فيه نواب الأمة بالبرلمان في العديد من مناقشات لجنة العدل والتشريع، وفي لحظات أزمة اجتماعية لإضرابات قطاع العدل، رجل الأخلاق العالية ورجل المبدأ، الذي لا يجد أحيانا ما يدافع به عن شرفه وعزة نفسه غير الدمع أمام بعض الكلام الجارح في شخصه. فالرجل كان من النوع الصموت جدا، الذي صعب أن تفوز منه بكلمات عابرة، حتى أنه كثيرا ما كان يمتص ألم الكلمات ويطويها بإغماضة عين. وهو ذات الصمت الذي حرص عليه بصرامة في كل أعمال الخير التي أنجزها بمنطقة أجداده، بناء مدراس ودور للرعاية وثانويات إعدادية (آخرها مؤسسة الطيب الخمال رفيقه في المحاماة وأحد ضحايا تفجيرات الدارالبيضاء ليوم 16 ماي 2003). فقد كان يحرص على المساعدة في تعميم أسباب التعليم واكتساب المعرفة، في نكران نبيل للذات وبدون بهرجة. الراحل محمد الطيب الناصري، لم يكن الذي كانه سوى بتراكم لمواقف نبل حاسمة في حياته المهنية والإنسانية منذ بداية الستينات، حين انخرط في الحركة الاتحادية وترشح باسمها ونجح في انتخابات 1963. وحين ترافع ضد قتلة الشهيد عمر بنجلون الذي كان صديقه، وحين ترشح مستقلا في انتخابات 1976 الجماعية ونجح كمستشار في جماعة عين الذئاب التي كان يترأسها الراحل مصطفى القرشاوي، وكان سندا هائلا له وللتجربة الجماعية تلك، التي ما تكررت قط بذات الألق في التسيير الجماعي للدار البيضاء، وكان عملها عملا تأسيسيا لمعنى ممارسة المسؤولية الجماعية بشرف وبنتائج ملموسة في الواقع الملموس، وكان دوما يصوت لصالح مشاريع الجماعة ويدعمها عاليا. ثم حين رفض الترافع بأمر من الراحل ادريس البصري وزير الدولة في الداخلية الأسبق، ضد الكاتب العام للمركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل وأسندت المهمة للمحامي زيان. وكان قبل ذلك من المحامين المغاربة الذين ترافعوا إلى جوار الراحل عبد الرحيم بوعبيد في محاكمات مراكش السياسية الشهيرة في نهاية الستينات وبداية السبعينات. وحتى حين انهالت عليه كتابات نقد في قضايا تخص العائلة الملكية ضمن أمور تجري وقائعها أمام المحاكم المغربية، امتلك شجاعة أن يصدر بيانا توضيحيا أخرس الكل بحجيته القانونية وأخلاق أسلوبه العالية. وفي كل هذه الطريق الطويلة من الفعل في مفاصل حامية من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، كان يفعل بعيدا عن الأضواء، مكتفيا بقوة كفاءته العلمية وبالنجاح الذي صاحبها في مكتبه الضخم للمحاماة بشارع مولاي يوسف بالدارالبيضاء، الذي نجح في أن يجعل ابنه المحامي هشام الناصري وريث حجيته العلمية ووريث سلوكه الأخلاقي الرفيع. بل وأن ينجح الابن في ربط علاقات دولية وازنة مع إحدى أكبر مؤسسات المحاماة الإنجليزية، التي تمكن من جلبها إلى المغرب في خطوة ذات بعد دولي وازنة، تفيد البلد واقتصاده ومرجعيته القانونية في كل الجوار المغاربي والشمال إفريقي. بذلك نجح الراحل في أن يكون مربيا لجيل من المحامين المغاربة ولجيل من الحقوقيين المغاربة ولجيل من أطر وزارة العدل المغربية، من خلال أسلوبه في السلوك وأسلوبه في معالجة القضايا الشائكة (والرجل هو الأسلوب)، كما لو أنه سلحهم بالمعرفة التي لا تزول، ومنح المغرب أطرا كفؤة ستواصل ما رسخه فيها من علو كعب في الدربة القانونية، وأساسا من أخلاق عالية في السلوك.