كان هناك. كما ظل دائما. جالسا فوق كرسي بوقار. في مشرحة إصلاح العدالة. داخل قسم إنعاش القضاء. الجولة الأخيرة مع فساد القضاء كانت صباح أول أمس الثلاثاء. الحلبة قاعة اجتماع للجنة العليا من أجل إصلاح القضاء. سقط أخيرا.. أرضا بجسده الذي أبى الإنهاك سنوات.. سقط.. رافعا شارة النصر.. أول لقبه الناصري؟ أليس الموت بساحة الحرب شهادة؟ محمد الطيب الناصري، هكذا توسط وصفه اسمه إلى الأبد. طيب، هي شهادة من عرفوه. من عاشوا معه أيام البداية، بالنواصر، بقلب الشاوية، ضاحية الدارالبيضاء. هناك ازداد محمد الطيب الناصري سنة 1939. بين «النوايل» و»الحطات» و»الناس القدام» وأهل البادية شب ونشأ. من هذه الأرض حمل اسمه: الناصري. كان الشيب لم يدب بعد إلى شعره. هامته كانت طويلة دوما. ذكي بشكل يثير الانتباه. ذكاؤه قاده إلى متابعة دراسته في زمن كان أرفع ما يمكن أن يصل إليه أهل الشاوية فلاحين وتجار حبوب. لكنه درس وحصل على الإجازة في الآداب والحقوق. إثر ذلك انطلقت معركته داخل قلعة القضاء، من بوابة المحاماة التي مارسها وبرع فيها منذ التحاقه سنة 1964 بهيئة المحامين بالدارالبيضاء. سيعلو شأنه سريعا بين المحامين، إلى درجة أنه في ظرف سنوات قليلة، وبالتحديد في سنة 1980، سيصبح نقيبا لهيئة المحامين بالدارالبيضاء، ويفتح مقرا بمرس السلطان، بقلب الدارالبيضاء، ليتحول هذا المكتب إلى أكبر وأشهر مكتب محاماة بالمغرب. قبل ذلك، وطيلة السبعينيات، بدت على محمد الطيب الناصري ميول اشتراكية، في وقت كان قدر اليسار يغلي في المغرب. قرب الناصري من الاتحاديين، عاطفيا، زكاه انضمامه لهيئة الدفاع عن عمر بنجلون سنة 1975 في القضية التي توبع فيها قياديو الشبيبة الإسلامية بتهمة اغتيال الزعيم الاتحادي. ظل الناصري يجمع النصر ويراكم النجاح، حتى صار قريبا أكثر من القصر. وفي سنة 1985 سيمنح الملك الراحل، الحسن الثاني، هذا المحامي الساطع نجمه وسام العرش من درجة فارس. وفضلا عن الوسام، صار محامي القصر.. منذ ذلك الحين وحتى الآن. الفترة التي قضاها الناصري محاميا للملك الحسن الثاني ستفتح عليه أبواب الشهرة، رغم أن الرجل كان دائم التواضع، مبتعدا عن الأضواء قدر ما استطاع. عبر الكتابة الخاصة للملك كان الاتصال به دائما. رافع عن قضايا عدة كان أحد أطرافها القصر. مكانه الذي حازه باحتداد ذكائه وتطور مكتب محاماته الذي ضم طاقما من خبراء القانون، إلى مستوى لم يصله أي محام قبله قط. وضع الناصري يده مرارا وسط النار وأخرجها سالمة دون أذى. قضايا ساخنة تمكن الناصري من كسبها لصالح القصر. ضمنها قضايا رفعها عائدون من نيران سنوات الرصاص، ضمنهم الإخوة بوريقات، وعائلة أوفقير. كانت للناصري حكمة متقدة. لم يكن له قط اندفاع المحامين ولهاثه وراء ربح القضايا بشتى الطرق. ينتظر هو.. يصمت مفكرا دون كلام.. تشي عيناه المتسمرتان خلف نظارته الطبية العريضة عن بعد نظر. هكذا تمكن من حل قضايا بلعبه دور وسيط خير. وهكذا حل أزمة عائلة أوفقير بسهولة، مسلما، بنفسه، لأفراد العائلة جوازات سفرهم، سنة 1996، طاويا أحد الملفات التي جلبت صهد الانتقاد للبلاط. هكذا كان للناصري دور صامت في مسلسل الإنصاف والمصالحة. الدفاع عن القصر أتاح له القرب من السلطة. قربا حذرا. فقد تمت الاستعانة بخبرته على الدوام لتولي مهام غاية في التعقيد. تدرج الناصري في مناصب المسؤولية، بدأ من رئاسة هيئة المحامين بالبيضاء، وعضوية مجالسها، قبل أن يصير عضوا بالغرفة الدستورية التابعة للمجلس الأعلى والمجلس الدستوري ما بين 1994 و1999. المحامي الأول، هكذا أضحى الناصري يلقب. لقب قاده إلى عضوية مجلس حكماء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، واختياره محاميا عن مؤسسات عمومية كبرى. الوضع لم يتغير بعد اعتلاء الملك محمد السادس العرش. ظل الناصري محاميا للقصر. وفي أولى معارك الملك الشاب مع وحش فساد القضاء تمت الاستعانة بمحامي البلاط، الناصري، ليصير وزيرا للعدل في حكومة عباس الفاسي. في هذه المرحلة سيظهر الناصري في الصفوف الأمامية، محاربا لصقور فساد القضاء. مباشرة بعد تنصيبه وزيرا سيزور الناصري هيئة محامي البيضاء، كما جرت عادة محامي هذه الهيئة الذين يتم استوزارهم. بدا متأثرا، صادقا في حديثه، كما كان دوما. مقربوه يعرفون أنه يجهش بالبكاء من فرط تأثره. يطلق العنان لدموعه، ويزيل نظارتيه لمسح عينيه، يأخذ نفسا عميقا ثم يستأنف. بدأ الحرب بمعارك عدة. حركة انتقالية غيرت خارطة القضاة، ضمنهم المستفيدون من حماية صقور. بعض الصقور تمت تنحيتهم. أحدث تغييرا في طريقة تدبير المحاكم، وأقر مؤسسة الوسيط وقضاء القرب. لكن طريقه لم يكن كله مفروشا بالورود، فمنذ أيامه الأولى بدأ في تلقي الضربات وشن عليه هجوم مضاد، وحُركت الإضرابات، وصارت المحاكم أراضي جرداء خالية من الموظفين والمتقاضين. كان الناصري، في هذه اللحظة، قد خلع الرداء الأسود والياقة الخضراء، وسلم مفاتيح مكتبه لابنه هشام الناصري، الذي تابع، بإيعاز من والده، دراسته بفرنسا حيث حاز على دبلوم في مجال الاتفاقيات الصناعية والتجارية، ثم ماجيستير في محاماة مجال الأعمال من كلية الحقوق بجامعة مونبوليي الفرنسية. الناصري الابن ورث عن والده كل شيء، فصار محامي القصر وأذرعه المالية ومدير مكتب المحاماة الضخم الذي أسسه والده بشراكة مع الشبكة الفرنسية لمحامي الأعمال «جيد لويريت نوويل». هكذا تتكرر الحكاية.. تبدأ من جديد بعدما انتهت ذات ثلاثاء.