تتميز التجربة الزجلية المغربية المعاصرة بالتنوع الناتج عن تعدد مشارب الهوية الثقافية للزجالين، و غنى مخزونهم الإبداعي المتلوّن بألوان النماذج الزجلية الشعرية المتوارثة. هذا التنوع الذي حقّق طفرة نوعية في مستوى الرؤية، و استثمر الحداثة1 ليرتقي بها إلى الرؤيا2. وما حديثنا عن شعر الشباب في هذه الدراسة إلا وقفة لإبراز هذا التنوع الذي يلاحق هذه التجربة3 مستقبلا. ولكي نخرج من مأزق التسمية «شعر الشباب» الذي يجرّنا للاشتغال بالشعراء لا بأشعارهم4 سنحاول التوسّل بمنهج وجدناه مناسبا للكشف عن غنى وتنوع هذه التجربة بالاعتماد على الصورة ( أي صورة القصيدة من خلال بنائها و لغتها و إيقاعها).هذا المنهج الذي استلهمناه من الباحث أحمد الطريسي أعراب في كتابه الرؤية و الفن في الشعر العربي الحديث؛ حيث قسّم الصورة إلى ثلاثة أنواع5: - الصورة الوثيقة: و تعني الصيغة المألوفة التي تستند إلى الرؤية الساذجة للأشياء، و تقف عند حدود وصف الموجودات دون تجربة أو معاناة... - الصورة النموذج: و هي صيغة ذات طبيعة اقتفائية؛ حيث يتم الرجوع إلى نموذج سابق على أساس امتلاك تصوّر و اكتساب منوال... - الصورة الرؤيا: و هي صيغة ذات طبيعة كشفية، يتم من خلالها الكشف عن حقائق الأشياء وهي في علاقات جديدة و غريبة تشعر القارئ أنه أمام صيغة جديدة لا عهد للعالم بها... وبالنظر إلى طبيعة هذه الصور نجد أن أقربها إلى تجربة الشباب هي الصورة النموذج، لأن أغلب الشعراء استطاعوا تجاوز الوصف التسجيلي للموجودات، وفي نفس الوقت لم يستطيعوا التحقق من مغامرة الكشف. ومن هذا المنطلق سنحاول الاشتغال ببعض التجارب الشابة التي تستلهم النماذج الآتية: الشعر الملحون، كلام الغيوان، و تجربة ادريس مسناوي. الشعر الملحون: استطاع الشعر الملحون باعتباره من أقدم الفنون الزجلية بالمغرب، وأيضا باعتباره نموذجا يسعف على تفجير المواهب وتنمية ملكاتها الشعرية، أن يستأثر باهتمام الشباب وينفخ فيهم شغف تقليده و توظيفه. و نسوق هنا تجربة حميد تهنية من خلال ديوانه نوار الظلمة6؛ إذ نجد الشاعر يتفاعل مع النموذج الملحوني تفاعلا يأخذ منحيين: المنحى الأول هو منحى التقليد، و يتمثل في سعي الشاعر إلى تقليد معمار القصيدة الملحونة من خلال محاكاتها في الإعلان عن النهاية إعلانا صريحا كما في هذا المقطع7: هذ قصه نرويها ب غصّه مازال قلبي ما رسّى ف مراسي مازال جرحي ف لظاه يقاسي لابد يوم تعانق عيوني غزالة عذرا(ء) باهية نوارة أو إعلانا بالتوسّل كما في هذا المقطع8: حنا ف حماك يا ساكن لمناره ها لنفوس شاكية ل?نوس جاياك طالبه ليغاره أما المنحى الثاني فهو منحى التميّز؛ إذ نجد الشاعر يتفاعل مع النموذج الملحوني بوعي و تمكّن، ولا يقتصر فقط على ترصيف المعجم و محاكاة معمار القصيدة، بل يستثمره كمخزون إبداعي له من الإمكانات ما يخدم النص الجديد، ومثال ذلك ما جاء في نص شيخ لڤريحة الذي يشير عنوانه إلى المنشد عند أهل الملحون، لكننا نكتشف عند قراءة النص بأن المكنى بالشيخ ما هو إلا شاعر القضية محمود درويش، و نفاجأ أكثر عندما نقف عند هذا المقطع9: نْعوم ف بحور فايْن عمتِ فْ خلاڤك ريتْ صورتي ف مرايا ما رحلتِ ما ودّعتك انتيا همس انتيا شمس إلا نجوم الدّاج طلّه فهذه المرثية تكشف عن العلاقة الواعية التي ربطها الشاعر مع النموذج الملحوني؛ علاقة تستثمر رؤية شاعر الملحون لشيخه الموشح بأكاليل الاحترام، لكن تخضعها للمعاناة الشخصية وتصبغها بعناصر فنية تتمرّد على الشعر الملحون من خلال تنويع الوقفات العروضية و تجديد الصور الشعرية. و من ثمة يمكننا القول بأن حميد تهنية قد استطاع أن يمتلك تصورا ويكتسب منوالا بالاعتماد على النموذج الملحوني. كلام الغيوان: لا أحد يستطيع أن ينكر الدور الكبير الذي قامت به المجموعات الغنائية الغيوانية في بعث الزجل المغربي من جديد، وفي إخراج متونه للشباب في وقت كان محصورا في دائرة الملحون و العيطة والأغاني العصرية...، كما استطاعت أن تهيئ الجمهور لتلقي أزجالها الجديدة، والتفاعل مع مواضيعها التي مسّت الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع المغربي. ولعل أبرز ملامح هذا التفاعل نجدها عند الشعراء، وللتمثيل على هذا الأمر نسوق تجربة الشاعر حميد عسيلة في ديوانه كاس الغيوان10؛ حيث اقتفى آثار ناس الغيوان في نقد الواقع و التذمر من الوطن والبكاء على الماضي، ومنه نستشهد بما يلي: صاط ريح الطمع سمّم لنسام و سرى بين صفوف شياهنا لقسام كثار لبڤر وقلالت النيّة فهذا الانتقاد اللاذع للعلاقات الإنسانية التي أصابها الفتور و الفرقة نتيجة الطمع نجد له حضورا في قصيدة الحال: قلال قلال احنا واش فينا ما يتقسم عهدي ب لوزيعة ف لغنم سرنا فيها كاملين و إن كنا ربطنا هذا الحضور بالتفاعل فهذا لا يعني أن حميد عسيلة قد صبّ تجربته الشعرية في قالب الغيوان الثابت و المحدّد سلفا، بل خرج بنصّه من الاجترار الذي يعيد كتابة النص الغائب بشكل لا جدّة فيه إلى الامتصاص الذي يتمثل النص بوعي جديد دون أن ينفي أصله11،و الذي يؤكد هذا الطرح هو قوله في بوجميع12: الله يرحم لقبر و ما خلاّ خلاّ صوت يهز الشوڤ الراڤد خلاّ بحر م لكلام اللي ما دخله بلعاني تغطّيه لمعاني والذي يمتص اللازمة المأثورة لنص الصينية: وأنا راني مشيت و الهول الدّاني والدي و احبابي ما سخاو بيّ بحر الغيوان ما دخلته بلعاني. حيث استثمر الشاعر مخزون العامة من الأمثال الشعبية و تأملاته في الغير و إحساساته الصادقة ليبلور رؤيته الفنية الخاصة دون السقوط في فخ الاجترار من جهة، و ليؤكد على نبوغ تجربته من جهة أخرى. تجربة ادريس مسناوي: لا تحتاج تجربة ادريس أمغار مسناوي إلى تقديم فهي غنية عن التعريف، و تراكمها الكمي والكيفي13 أكبر دليل على شموخ هذه التجربة التي تحتفي بالحداثة وتسبر أغوار التراث الإنساني و تمتلك رؤيا للعالم. لهذا نجد من الطبيعي أن تصير نموذجا يقتدى به في الكتابة الزجلية من طرف التجارب الشابة. ومن أهم هذه التجارب تلك التي احتكت بالتجربة المسناوية احتكاكا مباشرا، و نمثل لها بتجربة عبد الحق بوشفر من خلال نصوصه المنشورة بمنتدى الزجل المغربي؛ حيث حاول هذا الأخير أن يقتفي أثر ادريس مسناوي في رؤياه الشعرية التي تتخذ من الحلم مطية في السفر إلى النور: ذوبوني تذواب ديروني نهاية شمعتكم عطيوني من ضوكم نشوف بكم الدنيا كيف تجيني (...) قطروني ف عيون التاريخ ديروني عقل نديركم ميزان عقلي نحطكم نقطة على كل حرف تايه14 فهذا المقطع يزخر بالمعجم الدال على النموذج ( ضوكم، نشوف بكم الدنيا، عيون التاريخ...)، والذي يتردد في غير ما نص من نصوص ادريس مسناوي، ونستدل عليه بهذا المقطع من قصيدة شهوة الحلمه15: سلطوني على الضو على الضو سلطوني سلطان نغزل الوقت نكون مولاه ب حسّ فنّان نسرّج التاريخ نحرّك ع الماضي طوفان نتبورد على خيل المستقبل علاّم هو بالفعل اجترار للمعجم الناتج عن سلطة التأثر التي فرضها ادريس الشاعر بأريحيته الشعرية ومشيخته الرمزية قبل أن يفرضها شعره، مما صعّب الأمر على الذات الشاعرة من التخلص من هذه السلطة. لكننا بالمقابل لا نجرّدها من معاناتها الشخصية «لأنه لا يمكن القول بوجود تشابه كامل بين تجربتين إنسانيتين، و من تمّ فإنه لا يمكن القول بالتشابه التام بين عملين شعريين»16، و لا أدل على ذلك هو هذا المقطع من قصيدة أرضي الواكلاني حي : أرضي الهازة رجليها للزمان حملات ..... تهزت جبال فوقك يا أرضي.. ها الياسمين الاسود ها الفل الزئبقي يهز عرشوا لنسيم النعمان إذ استطاعت الذات الشاعرة أن تراوغ سلطة النموذج و تتخلص من ملامحه، و تجد سبيلها إلى الرؤية الفنية؛ فأثر المعاناة واضح في النص و خصوصية التجربة ظاهرة للعيان، و لا يمكننا إلا أن نعترف بنجاح بوشفر في تحقيق تميّزه. وهكذا نجد أن التجارب الشابة تغترف من نماذج مختلفة تتنوع ما بين الشعر الملحون و كلام الغيوان و تجربة ادريس مسناوي، بالإضافة إلى نماذج أخرى لم نتوقف عندها كرباعيات عبد الرحمن المجذوب و السلامات و العيطة و بعض التجارب الحداثية و غيرها. لكن ما نسجله أن حضور الصورة النموذج في هذه التجارب يعيد إلينا ديداكتيك الكتابة الشعرية عند القدماء الذين اشترطوا لإحكام صناعة الشعر الحفظ من جنسه و الإكثار من النظم على منواله حتى تنشأ في النفس ملكة يُنسج على منوالها، ووصفوا الشعر الخالي من المحفوظ بالقصور و الرداءة و الخلو من الرونق و الحلاوة17.كما نسجّل أن الكثير من التجارب الشابة ومنها التجارب موضوع الدراسة و إن كانت تبنّت الصيغة الاقتفائية للنماذج السابقة في بعض القصائد فقد استطاعت في قصائد أخرى التخلص من سلطة هذه النماذج و امتلاك تصور و اكتساب منوال يُميّزانها. * مداخلة المهرجان الوطني الأول للزجالين الشباب بتيفلت2012. 1 - جون كوهن:» تتركز[ الحداثة ] في الخرق الأقصى لقانون اللغة المعتاد، أي خرق القواعدية و الانضباط». حوار مع ثلاثة نقاد فرنسيين: تودوروف، جينيت،كوهن، مجلة مواقف(للحرية و الإبداع و التغير)،ع41/42،ربيع/صيف 1981م،ص 2- يعرفها محيي الدين صبحي: «الرؤيا قد تكون صورة أو نظرة إلى العالم أو تبصّرا في مصير الإنسان أو تقييما للصراع بين الخير و الشّر، أو كل ما هو تعبير من الكاتب عن قسم من فلسفته للحياة في قصائد» الرؤيا بوصفها تعبيرا عن جدلية الإبداع و الواقع، مجلة الوحدة،س7،ع82/83، يوليوز/أغسطس1991، المجلس القومي للثقافة العربية،ص150. 3 - «و التجربة الشعرية تشتمل على حدث فكري نفسي، أي موقف معيّن للشاعر، عاشه أو عاش فيه من فاتحته إلى خاتمته لأول مرة؛ بحيث يبرزه عملا قائما بنفسه، عملا له كيانه و صفاته...»د.محمد عبد المنعم خفاجي، التجربة الشعرية، مجلة دعوة الحق،ع7،س15،ذو الحجة1392/يناير1973، وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية،ص97. 4 - يقوا نجيب العوفي:» ... النص الشعري لا يرتهن إلى عمر صاحبه، لا يعرف طفولة و لا شبابا و لا شيخوخة (...) و قد ينتج الشاعر الشاب نصوصا شعرية أرقى و أبقى من تلك التي ينتجها الشاعر المحنّك المسن» ظواهر نصية، عيون المقالات، البيضاء،ط1/1992،ص65. 5 - انظر الرؤية و الفن في الشعر العربي الحديث، المؤسسة الحديثة للنشر و التوزيع الدارالبيضاء و الدار العالمية للطباعة و النشر بيروت لبنان،من ص14 إلى ص23. 6 - مطبعة آنفو برانت، دون تاريخ. 7 - طير الله، الديوان،ص44. 8 - ليغاره، الديوان،ص49. 9 - نفسه،ص72. 10 - منشورات التنوخي للطباعة و النشر و التوزيع،ط1/2009. 11 - انظر ابراهيم رماني، النص الغائب في الشعر العربي الحديث، مجلة الوحدة،س5،ع49، اكتوبر1988م،ص54. 12 - الديوان،ص99. 13 - من دواوينه: الواو، قوس النص ، كناش المعاش، مقام الطير، ال جسد... 14 - عبد الحق بوشفر، قصيدة « السمفونية». 15 - من ديوان شهوة الضو، منشورات التنوحي للطباعة و النشر و التوزيع،ط1. 16 - د.محمود الربيعي، في نقد الشعر، ط4/1977م، دار المعارف بمصر،ص10. 17 - انظر مقدمة ابن خلدون، تحقيق و فهرسة سعيد محمود عقيّل،ط1، م2005/1426ه،دار الجيل للنشر و الطباعة و التوزيع،الفصل6من الكتاب الأول، ص ص 481-484.