للنقاش السياسي مستويان: مستوى تنظيري تدخل ضمنه كل المطارحات الفكرية التي تتناول المشاريع المجتمعية الكبرى والمفاهيم الأساسية المرتبطة بالممارسة السياسية وبالقضايا الأساسية ذات الصلة بمفهوم المواطنة وتجلياتها. ويمكن إجمال هذا المستوى في فلسفة السياسة وآليات اشتغالها وتدبير قضاياها... أما المستوى الثاني فيرتبط بالممارسة السياسية، حيث يكون إما خطابا حزبيا يتضمن المرجعيات الفكرية والإيديولوجية والبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الخ.، أو خطابا تحاوريا بين فعاليات سياسية يستهدف الارتقاء بالفعل السياسي أو تعديله والمحاججة على الاختيارات أو التوجهات السياسية... ويحضر هذا الخطاب في الانتخابات، وفي فضاء البرلمان، كما في الإعلام... وإذا كان النقاش السياسي التنظيري ينحصر في النخب الفكرية والسياسية، فإن النقاش السياسي المصاحب للممارسة السياسية يكون مفتوحا على كل فئات المجتمع، ويتميز بطابعه البراغماتي والمباشر، لأنه يستهدف المواطنين والخصوم في ذات الوقت. لا يمكن تصور أي فعل سياسي ديمقراطي دون أن يلازمه نقاش سياسي يشرعن قضاياه أو يدحضها، وهو أفق مفتوح دائما على المستجدات والاختلافات... يتطور الفعل السياسي ويرقى بمدى خضوعه لنقاش سياسي يساهم فيه الفرقاء والجهات، مستحضرين اختلافاتهم وبدائلهم المعروضة، ومدعمين قضاياهم المتبناة بحجج وأدلة تصمد أمام القضايا المغايرة وتتفاعل معها... والديمقراطية أساسا هي فعل ارتقاء لا يتوقف، لأنه لا يدرك الاكتمال ولا الكمال، وإذا عرف الجمود فقد ماهيته وحيويته معا. من أكبر المخاطر التي تهدد الحياة السياسية الجمودُ الناجم عن عدم تفاعل الأفكار والقضايا، وعن اكتفاء الفاعل السياسي باستظهار برنامجه دون أن يشعر بضرورة دعمه بحجج وبراهين تشهد على فاعليته وانسجامه مع حاجات الوطن والمجتمع والفرد والمستقبل، وضرورة طرحه للنقاش من أجل إغنائه وتطويره. وقد ينجم الجمود السياسي أيضا عن اصطدام المشاريع السياسية بمحظورات ثقافية أو مجتمعية تشل حركيتها وانفتاحها. كما قد يحدث الجمود نفسه حين يكون خطاب الفاعلين السياسيين خطابا شعبويا يستهدف فقط صناديق الاقتراع باعتبارها غاية في حد ذاتها وليست وسيلة لإنجاز برامج هادفة وبعيدة المدى تستضمر انتظارات الحاضر والمستقبل في آن. تعرف الساحة السياسية المغربية تغييبا كبيرا للنقاش السياسي، ما حال دون رقي الممارسة السياسية... وبصرف النظر عما يمكن أن يقال عن ظروف انتخاب «البرلمان المغربي» وطبيعته وصلاحياته، يبدو جليا أن ما يسمى ب «الأغلبية البرلمانية» قد بدأت ترفض مناقشة ما يقدم إليها من نصوص تشريعية وتكتفي فقط بالتصويت لصالحها. وهذا ما حوَّل «البرلمان» إلى مجرد غرفة للتسجيل تمر عبرها النصوص التشريعية من أجل المسطرة لا من أجل النقاش العمومي الذي يأخذ بعين الاعتبار كل حساسيات المجتمع ويرقى بالفعل السياسي ويعمق الممارسة الديمقراطية... إن البرلمان مستويان: «تعددية» فكرية وسياسية وثقافية... كما أنه مؤسسة تجسدٍ هذه التعددية. وبوصفه مؤسسة، فهو يقوم على مدى ديناميته انسجاما مع حركية هذه التعددية. أما عندما تصبح المؤسسة «كرسيا»، أو «امتيازا» باسم هذه التعددية الفكرية والسياسية، فإن ذلك يشكل دليلا على انهياره، وحينئذ تنعدم فعالية هذه المؤسسة ويصير وجودها كعدمه. عندما يتحول البرلمان إلى مجرد غرفة للتسجيل، فإنَّ آليات مراقبة السلطة وضبطها وكبح جماحها تتعطل، وهذا يفتح الباب أمام التسلط والاستبداد، إذ يصبح البرلمان خاضعا فقط لمنطق الأرقام، فيعمل بمنطق «الأغلبية» و«الأقلية» وليس بمفهوم الأغلبية والمعارضة. وإذا كانت المعارضة تضفي الصبغة الديمقراطية على النظام، فإن «البرلمان المغربي» الحالي يشتغل بطريقة تسلطية، حيث يتم تغييب المعارضة واعتبارها أقلية لا يؤخذ رأيها بعين الاعتبار. تنحدر كلمة برلمان Parlement من «التَكَلُّم»، أي الكلام، وتعني ممارسة الكلام «تَكَلَّم» Parler . وإذا غاب الكلام، أي النقاش والتحليل، فلن يعود البرلمان برلمانا. هناك فرق بين النقاش والتحليل والتصويت الأوتوماتيكي، إذ التصويت إجراء نهائي يأتي بعدهما. تبعا لذلك، وإضافة إلى ما ذكرناه أعلاه، يكون «البرلمان» المغربي قد فقد ملكة الكلام، وصار مجرد آلة للتصويت الذي يتم وفق التعليمات. وهذا منطق لا يمت إلى الديمقراطية بصلة. تقوم البنية الفكرية «للأغلبية البرلمانية» على إلغاء المعارض، إذ ترفض التساؤل والمساءلة لكونها بنية وثوقية، لا ترى في أي خطاب يختلف عن خطابها غير الخطأ والضلال، لأنها تخشى الحرية والفكر، ما جعلها تشتغل فكريا كشرطي لا يعرف ممارسة أخرى غير الرقابة والمنع والحذف... وهذا ما يجعلها تنظر إلى المختلف بكونه عدوا، ويفسر مناهضتها لتحرير الفكر والإنسان والمجتمع. لا تملك هذه «الأغلبية» ذاتا مستقلة عن السلطة، لأن ذاتها مجرد موضوع تشكِّله بعض الجهات في السلطة، ما يجعلها «أغلبية» لهذه الأخيرة. فلا يمكن لهذه «الأغلبية» أن ترى الأشياء بعقلها وبحرية، لأنَّ وعيها يقتصر على تفسير العالم والأشياء استنادا إلى الحقيقة أو الحقائق المعطاة لها سلفا من قِبَل السلطة. فهي تتقبلها، وتأخذها جاهزة ونهائية.. إنها تفضل الركون إلى اليقين، وترفض عذاب الأسئلة والشك والبناء... إذا كانت الحرية هي جوهر الكائن الإنساني، فإن رفضها يشكل حربا على الطبيعة البشرية ذاتها، مما أدَّى بهذه «الأغلبية» إلى أن تصير جزءا من آلة لطمس الحرية والذاتية. وبذلك تبدو هذه «الأغلبية» كأنها مجرَّد حرف في كتاب هو السلطة، أو مجرد جزء من آلة، أو اسم، أو شكل.. لكن كيف لمن تقتصر وظيفة وعيه على نقل نص السلطة أن يدعي أن له «أنا»، وأنه له «ذاتا» تفكر؟...، يقول الفارابي: «كل موجود في آلة، فذاته لغيره، وكل موجود في ذاته، فذاته له». نتيجة لذلك، لا تكون الممارسة السياسية مع هذه «الأغلبية» حقل بحث واستقصاء واستبصار ومعرفة، بل تصير، على العكس، كأنها مجرد حقل أوامر ونواه. إنها تلجأ إلى حجة السلطة لا إلى حجة الذات. وهذا ما جعلها تعيش في تناقض مع ذاتها بسبب انخراطها في آلة السلطة، إذ باتت منفية خارج ذاتها وأعماقها، وبالتالي صارت «موضوعا» لا «ذاتا». ونتيجة لتبعيتها للسلطة، فقد أصبحت لا تعترف بالآخر، بوصفه شريكا لها وللجهات الحقيقية التي تحركها، ولا تنظر إليه إلا بوصفه نقيضا وضالا... من لا لغة ولا فكر له لا ذات له، لاسيما أنَّ الإنسان لا يُعرَفُ حقا إلا من لغته. فكيف يكون البرلماني قادرا على التعبير باسم الشعب في وقت لا يملك فيه هو نفسه أي صوت؟ أو كيف يمكنه أن يكون قادرا على أن يحمل صوت المجتمع، وهو عاجز عن أن يحمل صوته وفكره نفسه؟ من لا حجة له على ما يقول لا صوت له، بل إنه لا يمتلك رؤية ولا مشروعا خاصين، ما يجعله عاجزا عن تمثيل الآخرين. تبعا لذلك، فتصويت هذه «الأغلبية» يظل سلبيا وكسولا، أصم وأبكم... ما يدلُّ على أنها بدون نخاع شوكي، ويؤكد فكرة أنَّ أغلبية النواب البرلمانيين قد استفادوا من الريع الانتخابي...