المستر وين ، بريطاني كلف بمراكش ، وبسمائها العفيفة المعتنقة للضياء . له في فندق » المامونية « جناح فسيح ، فخم على طراز حقبة » أمبير « ، سوف يحمل اسمه في ما بعد . كل صباح ، بمجرد شروق الشمس ، يفتح مصراعي الشرفة ، ويضع قبالتها حامل لوحته القماشية غير المكتملة . هو على هذا الدأب منذ ما يناهز الشهرين ، يكابد لاحتجاز شيء من حيوات هذه المدينة المسحورة ، التي قيل في بطون الكتب بأنها كانت منذ غابر الأزمان تسير ، غير أنها غفت بغتة وسط الصحراء ، ونسيت نفسها هناك . على امتداد ساعات طويلة يمكن قياسها بعدد الدوائر المنطبعة على » الباليت « ، يحاول بعصبية ظاهرة أن يسحب إلى ألوانه الزيتية المخلوطة ، ذلك الصفاء الذي يقترحه الأفق ؛ خضرة البساتين المتقدة شدوا ؛ الصمت الراقد بين العين وسعفان النخيل ؛ والظلال التي تضرب أطنابها في الأقواس والجادات ، لكن الإلهام قفل صدئ لا ينفتح ، والفرشاة تأبى أن تشق طريقها صوب نأمة شكل . المستر وين كان يغيب في الجزء الشاغر من لوحته . لعله ينسى نفسه . لعله يقيم خارج ذاته. لعله يمضي طويلا وبعيدا كالسراب كالصدى، كما لو أن المكان خسف به على حين غرة. ومتى عاد من أصقاعه وأفاق من انخطافه ، يصبح موقنا بلا جدوى تكرار المحاولة أو تمريغ الروح في الخيبة ، لأن أمنية إتمام اللوحة قد ذبلت . إذن، فليغالب الحسرة التي تعض قلبه. ليزح رماد السيجار من المنفضة. لينزع القبعة والمعطف . ليعلق المظلة والشال . فقد حان أوان جولته المسائية المعتادة على الأقدام ، مباشرة بعد أن تطبق التلال الخفيضة على الحمرة الجهمة للغروب . وقبل مبارحة الفندق ، لا يفوته على محمل التنكر ارتداء البرنس ، وإحكام اللثام دفعا لشبهة الشهرة . احتراز ضروري ، حتى يصير المستر وين لا أحد . كالناس كالآخرين، ويندس وسط الحرفيين الذين يرتادون في أوقات فراغهم مقهى » المصرف «، الذي يقع بمحاذاة الطريق المؤدية إلى » باب الجديد «. يتلهى بمراقبة الجماعات المتحلقة على لعبتي » الضامة « و» الكارطة « ، أو الهامات المتمايلة على قصائد الملحون والأغاني المشرقية القديمة . وبعد حلول » البهلول « ، واستعراض ما بجعبته من نكات ومقالب ، وما بقفته من أغراض و أعاجيب هي مزيج جهنمي من المأكولات وأدوات رفو الثياب وتصاوير أبطال السير وقصاصات الجرائد ونتف من أحاديث البخاري ومسلم ، ينصرف . ينصرف.. وقد خيّل له أن مقطعا من لوحته الشاغرة قد امتلأ . تصل الخطوات بالمستر وين إلى باحة » جامع الكتبية « ليجزي بعض الوقت مصغيا إلى الحاج عمارة ، يروي بلسان ذرب على طريقته الخاصة حد فصول » السيرة الهلالية«. وقبل أن يختتم الشيخ الوقور ، الذي تسكن داخل حنجرته الحكايات ، بعبارة : » وهذا ما انتهى إلينا من الحديث والحمد لله وحده وصلواته على خير خلقه سيدنا محمد و?له وصحبه وسلم « ، وتكر في أعقابها التصفيقات كالأرقام ، ينصرف . ينصرف .. وقد خيّل له أن مقطعا إضافيا من لوحته الشاغرة قد امتلأ . يجد المستر وين نفسه في وسط ساحة » جامع الفناء « ، كما لو نادته أشواق غامضة ، وأنغام بعيدة تسقي بدفقات صغيرة جرحا سريا يزهر في الأعماق . منقادا ، مبهورا ، بلاوعي ، يدنو . ويختلس النظر مع الأبدان المنجذبة إلى » الحلقة « . تعلو خفيفة آهات الكمنجة و » لوتار« ، وينبري لها طبل جهير تخفره الصناجات. تنقدح الأصوات النائحة صعودا ونزولا على المقام كأنها سكينة ماء المطر كأنها غربة وتد مقلوع من تربة بعيدة ، فيسفر الإيقاع المرتجل عن مارج من نار . عن رجل يضمر في كبده نمرا واقعا في الأسر . ذلك كان الرحالي . القوام يخلب الألباب ، فارع ورشيق . الوجه مشرق ، لا عمر له تقريبا . الشعر مسدل والأطراف برق . العين غائبة والشفاه تمتمة . تزمجر الموسيقى ، فيرفع الرحالي الحرج عن ضيمه وحواسه وجسده . يتطوح ، يترنح ، يجأر ، يشهق ، ينهج ، يلهث ، تنتابه ذروة » الحال «، ثم تلتئم روحه في لحظة مع روح زائر آخر لا يعرفه . يشتد عزم الموسيقى مثل قلب نيئ يطهى يفور يغلي في إناء ، فيفعل الرحالي العجب . يتجرع الماء الكاوي من » المقراج «. ينط برجل واحدة حافية على الزجاج المكسر . يمشي دون أن تبدر منه كسرة ألم واحدة على الجمر المشتعل. وفي متم عرضه ، يسحب من حزام سرواله القندريسي سكينا طويلة ، ويمعن على نحو هستيري في تمزيق لحمه . ولمّا ينهار الرحالي مضّرجا بالدماء ويخرج الزبد من فمه ، يهب إليه أحد أعضاء الفرقة ليغطيه بإزار أبيض ، ثم يحمله بعيدا عن الأنظار . عندها ينصرف المستر وين عائدا إلى الفندق . ينصرف .. وقد خيّل له أن لوحته الشاغرة قد امتلأت هذه المرة عن آخرها . في صباح اليوم التالي ، انطلقت الفرشاة من عقالها طلية عذبة ، وخاضت على رسلها الألوان والأشكال بحنكة لا نظير لها . وعند الظهيرة ، كانت اللوحة قد اكتملت ، وفي أسفلها توقيع صاحبها مثل ندبة مّا يحتفظ بها في الوجه على سبيل التذكار . لكن في المساء ، وحينما أراد المستر وين أن يضع رأسه لينام ، خيّل له أن حركة وموسيقى تدبان في الجناح . حركة هي الرقص ، وموسيقى هي الذكر . ينهض مضطربا ويقف أمام الحامل قبالة مصراعي الشرفة المفتوحة على النجوم ، فيرى » الحلقة « على أشدّها والناس على رؤوسهم الطير. تلتقي نظرته داخل اللوحة بنظرته خارجها . وتعطيه النظرة داخل اللوحة الإيحاء بأنها لم تعرفه. يقترب أكثر، فتزداد النظرة إمعانا في الإنكار . يعود إلى فراشه ،عاريا ، حافيا ، وقد نبت العرق فوق جسمه كله كأنه كان يرقص الليل بأجمعه . يغط في نوم عميق مثل من ذهب إلى عالم لا مرئي لا ضفاف له ، وفي حلمه كان مغطى بإزار ?حمر! . *)) ---- فلذات من هذه الحكاية الثالثة مستوحاة من إقامة الرسام و رئيس الوزراء البريطاني السابق وينستون تشرشل (1874-1965) بفندق « المامونية « ، حيث ترك بجناحه الخاص لوحة غير مكتملة ، كما سبق له أن رسم هناك سنة 1951 لوحته الشهيرة « مراكش « ، وأهداها إلى مارغريت ابنة الرئيس الأمريكي السابق هاري ترومان . ?نظر بالانجليزية : بول جونسون ، تشرشل : وجوه ومحطات ، مجموعة بنجوين ، 2009،الصفحات 18، 19، 125.