ذهب زمن عباقرة الغناء، صوتا وأداء، فلم نكن نجد صعوبة في تذوق عيون الشعر وما جادت به قريحة الملحنين العظام من آيات الجمال لأسلس الحناجر التي تمتعنا برنينها. لم يكن المغنون في ذلك الزمن في وضعية تسمح لهم بالانسلال إلى خشبة المسرح ليزعجوا السميعة بصراخهم وهرجهم. إنما كان يملأ القاعات المفكرون والأدباء الكبار، إلى جانب الصحفيين المختصين في شؤون الموسيقى. فكان وجودهم بالمرصاد لمن لا رصيد له في الموهبة والخبرة. ينزلون كل الأصوات المبتذلة ويمنعونها من الغناء. وهذا ما جعل الفاشلين يتساقطون كأوراق الخريف. إن جمهور أحمد شوقي وطه حسين والعقاد والمازني وأحمد رامي وبيرم التونسي ومحمد التابعي ومصطفى أمين وغيرهم من الأعلام كانت لهم الكلمة الأولى في رفع المستوى الجمالي في الساحة الغنائية. فكان له تأثير على كل معنى. ولا يستطيع هذا الأخير أن يواجهه إذا لم يكن مسلحا بالعلم والموهبة الصوتية الحقيقية. في هذا الجو الثقافي تكون أولائك المبدعون وتركوا بصماتهم تشع إلى الآن. فلولا شوقي هل كان عبد الوهاب يمتلك ذلك الذوق المرهف ويختار حرية التعابير في الإشراق الفني. ونفس التأثير استقاه من ثلة السياسيين والأدباء المرافقين لشوقي في جلساتهم الأدبية والفكرية. فأين ذلك النبل والسمو في صوت محمد عبد الوهاب وهو يشدو بروائع هذه المقطوعات: «ياشراعا وراء دجلة»، «جفنه علم العزل»، «الجندول... «الكرنك».. »حياتي إنت»، وما إلى هذه الباقة التي يصعب عدها في هذا المقام. حتى الأغاني الوطنية التي صدح بها لم تتسم بالصدفة أو المناسبة التي كثيرا ما تتصف بالنفاق عند البعض، فمن ينصت إلى: قصيدة «فلسطين»و«دمشق» و«دعاء الشرق»، يشعر بالجلال والصدق في جريان موسيقاها وبالإحساس القوي في نبراتها الصوتية . أما أم كلثوم فكان لها شأن عظيم في الساحة الغنائية. إذ رفعت ذوق الناس من حضيض الكلمات إلى الشعر الرفيع، وتزيده جمالا بموهبتها الصوتية الخلاقة لتصدح بها إلى العلياء في أداء لا أثر فيه للتصنع. وكل الآذان خاشعة لسحر مبين. ومن لا تتحرك أوصاله وهو يستمع إلى المقطوعات الآتية بعيدا عما يوقر السمع؟ «وحقك أنت المنى»، «الحب تفضحه عيونه»، «رق الحبيب»، «أذكريني»، «سلو قلبي» و«رباعيات الخيام»، «هلت ليالي القمر»، «سلو كؤوس الطلا».. وغيرها قطرة من بحر لا نستطيع تفضيل بعضها على بعض. فكلها في جدة، و حتى في الأغاني الوطنية تأخذنا إلى العزة والافتخار. فهل تبقى جامد الإحساس وأنت ترخي سمعك إلى: «وقف الخلق ينظرون جميعا» ثم «مصر التي في خاطري» و«الله زمن ياسلاحي». وهذا الأخير كان له وقع عظيم حين كان نشيد مصر منذ تأميم قناة السويس، لكنه غيب أيام السادات بنشيد الأطفال: «بلادي بلادي» طمعا في سلام مستحيل. وعن فلتة الزمان «اسمهان» التي رحلت في ريعان الشباب وكانت وحيدة صوتها الرنان، ولم تفلح مقلداتها أن يحاكينها في حنجرتها. إذ بقيت على الشط. فمن الصعب أن يتقن مثل هذه الأغاني التي حار فيها المستمعون فهاموا مع أصدائها: «امتى حا تعرف»، «ياطيور»، «يالعينيك»، «أسقنيها بأبي وأمي» والمحاورة الرائعة مع محمد عبد الوهاب في أوبريت «مجنون ليلى». وعلى ذكر اسمهان يخطر ببالنا أخوها فريد الأطرش الذي عرف بالتراث الشامي وأدخله الى مصر من خلال «الميجانا» ورقصة الدبكة، ومواويل الريف، ووضع كل ذلك في قالب جميل محبوب، دون أن ننسى طابع الأغاني الأخرى في أغاني: «يا زهرة في خيالي»، «الربيع»، «ختم الصبر بعدنا» «يا حبيبي طال غيابك»، وما إلى غير هذه الباقة التي حاول فيها إدخال الطابع السمفوني في بعض أغانيه. في هذه الفترة وما قبلها ظهرت «ليلى مراد» بأغانيها الخفيفة وجاذبيتها والتي لحنها محمد عبد الوهاب بأسلوب أخاذ ودشنها في فيلم «يحيا الحب» وأنت على التوالي: «الشمس عند راسي» ثم محاورتان مشتركتان، الأولى «طال انتظاري لوحدي» والثانية «ياذي النعيم» على هذا النمط من الرشاقة كانت مسيرتها دون أن تجهد نفسها. وخلال الخمسينيات تتالى هذا النوع من الأغاني الخفيفة التي لم تخرج عن الأصول الغنائية وكسبت شعبيتها ويمثلها: صباح، شادية، محمد فوزي، وديع الصافي، ناظم الغزالي فتى دمشق، صباح فخري، وأخيرا وليس أخيرا فيروزو بعظمة صوتها المتلألئ في الفضاء اللانهائي. إطلالة على هذا الجو الخلاق للغناء العربي في عز مجده أردنا منها أن تستفزنا وتحيي فينا الحنين إلى هذا النبع المتدفق. ونجدد اللقاء بعد الفراق الطويل مع هويتنا الفنية. إن الفهم الخاطئ للانفتاح على الموسيقى الغربية هو الذي هوى بنا إلى القاع، وحاد بنا عن التمثل الصحيح لهما، فجاءت الأغاني الجديدة في لباس موشوه، الكلمات عربية، والموسيقى غربية.. وكل منهما في واد ولا ربطة بينهما. وما كان ينقص التعامل هو الاقتباس الذي لم نحس وضعه في مكانه الصحيح كما فعل محمد عبد الوهاب في عملية التجديد. إذ استقى من النغمات الغربية ما أنظفها عربيا وجعلها طوع يده في تلاحينه الخالدة. فمن يستمع إلى أغنية لست أدري كنموذج «لا يظن» إلا أنها من صميم الموسيقى العربية بعد أن صيغت تعابيرها بشكل علمي. وهذا لا يتأتى إلا لكبار الموسيقيين ولديهم لمسة عبقرية كالقصبجي ورياض السنباطي وزكرياء أحمد. لا مزيد بعد هذه الجولة من كلام إلا العودة إلى هذه المختارات والاستماع إليها عن قرب. ففيها يجد من عجز أن يكون مغنيا ناجحا الطريق الصحيح لاستلهام ما غاب عنه.