استطاع الشعر، مرة أخرى، أن يفقد الاحتلال أعصابه ووقاره الديموقراطي، الذي سوقه جيدا وسد غابات الدكتاتورية العربية. كان نتانياهو يسوق صورته كسائح حضاري يتجول في واحته الديموقراطية وسط الصحراء العربية الممتدة من العقال إلى العقال. ولم يخرج من قيلولته الفسيحة إلا بعد أن أنشد الشاعر شعره الألماني، لقد أيقظه صوت غانتر غراس من سعادته الاستعمارية ليرمي في وجهه بقصيدة تقول له إنه لا يمكن أن يقتل شعبا فقط لأن قادته لا يحبونك. القصيدة، مرة أخرى، تهز أركان الاحتلال، لأن قائلها أديب رفيع، وصاحب موقف من الوجود، ومن العدم على حد سواء، ويتأرجح في غيبوباته الإبداعية بين الواقع وبين قراءة التاريخ البشري. كل الطبول التي دقها الروائي الألماني الشهير، لم توقظ الاحتلال من غروره. وحدها قصيدة نثرية صم صداها آذان اليميني المتطرف، الجالس على تل من الجماجم وأنهار من الدم، القاتل المتطرف، لا يستطيع أن ينام بالقرب من قصيدة يتدلى لسانها ساخرا منه. كذلك فعل الاحتلال مع قصيدة عابرون في كلام عابر، للراحل محمود درويش. فقد شن عليها الحرب، بكل وسائله، واعتبر بأنها تدعو إلى قذف الإسرائيليين في البحر وإلقائهم في اليم. غانتر غراس الروائي الألماني الشهير ترك بالقرب منه تلال الرواية، وامتشق نصا شعريا لكي يرهب إسرائيل... إسرائيل التي نراها وراء كل شىء في عالمنا العربي، والتي يخاف منها الطغاة وتستقبلهم في سريرها السري، خلف أروقة شعوبهم، إسرائيل هاته هزتها قصائد أديبين. وورث سليل غوته، سليل الزيتون الفلسطيني، في تعبيره عن الخوف. لهذا لا نفهم لماذا ينزعج كاتب مرموق مثل الطاهر بنجلون من الشاعر غانتر غراس. لهذا لا نفهم لماذا يكون في نفس صاحبنا، ما يعيبه على الحائز على جائزة نوبل للسلام. وعلى ذكر نوبل، لطالما كان المتشككون منا يرون أن يد اللوبي الصهيوني تصل إلى عاصمة الأدب العالمي، وتفعل ما تريد، وتقدم الذين يدافعون عن إسرائيل، عوض الذين يدافعون عن الإنسان برمته. ألم يكتب أحدهم يقول إن نجيب محفوظ حصل على الجائزة لأنه قبل بمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وبارك السادات؟ هو غانتر غراس، الحكيم ووارث سر الثقافة الألمانية في سموها الكبير، يقول بأنه لا يمكن أن يسكت وإسرائيل تعد الطبول الحربية لضربة عسكرية قد تفني شعب إيران. لم يقف الشاعر إلى جانب القنبلة، ولم يقف إلى جانب الجنرال ليبتسم في وجه الموت الطائر إلى أصفهان.. الشاعر استعار من الحمامة هديلها ليرفعه في وجه الدم والخراب والعنجهية والوحشية الاحتلالية. الشاعر لم يسكت... ولن ينسى الكتاب والمبدعون والشعراء موقف وزير الثقافة الألماني الذي رفض التعليق أو الدخول في سجالات مفتعلة، بل قال إن الأمر يتعلق بحرية التعبير. واستمع إلى صوته العميق عوض الابتذال السياسي الفج. لم يكن للشاعر أن يكون في قصيدته رائعا للغاية، كان عليه فقط أن يكون رائعا بها، رائعا بأحاسيسها وسورياليتها، والذين اعتبروا القصيدة تافهة أو دونية، نقول لهم بأنه لم يكن غانتر غراس يكتب مراثي دوينيو، ولا ملاحم ..لوتريامون. كان عليه فقط أن يحرر اللغة من سحر الجلاد..!