يحتضن فضاء العرض التابع لمؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين ) شارع علال الفاسي، مدينة العرفان، حي الرياض - الرباط (، معرضا جديدا للفنان التشكيلي المغربي البشير أمال، وذلك في الفترة ما بين 12 و 30 أبريل الجاري. المعرض الذي افتتح يوم الخميس الأخير على الساعة الخامسة والنصف مساء يحمل عنوان « اللحظة العابرة «، ويعتبر لحظة أساسية وغير عابرة في مسار هذا الفنان الشغوف بالهش والزائل والمنتهي، بما هي مصائر تلحق كثير من الأشياء المؤثثة لحياتنا اليومية، ولعلاقاتنا الخاصة مع العالم ومع الكائنات. الكاتالوغ الذي أنجز بهذه المناسبة يتضمن نصين تقديميين قام بإنجازهما كل من الناقدة الفنية هاجر مصلي العلوي والشاعر والفنان التشكيلي عزيز أزغاي. عادة ما نستحضر، ونحن نتهيأ لقراءة أي عمل إبداعي أو تجربة فنية، تلك المناطق الحميمة أو الهالة التي يؤسسها المبدع - أي مبدع - حول ذاته الخاصة بحرص كبير وعناية فائقة، وهي المنطقة / المناطق التي ? من المؤكد - تكون ملفوفة بغير قليلة من الحذر الخلاق و الدماثة الحقيقية أحيانا، أو الصخب المفتعل والبهرجة الكاذبة في أحيان أخرى، لدى عينة ثانية أو ثالثة من « الفنانين « عديمي الموهبة. يحضرني نموذج هذه المنطقة النائية من حياة المبدع في عموميته وأنا أتمعن منذ مدة غير قصيرة مسار الفنان التشكيلي المغربي بشير أمال وكيف استطاع أن يملك ألوانه وأشكاله ومواضيع أعماله الفنية بتواضع كبير وصمت غير مفتعل، كما أستحضر، قبل ذلك، تجربته الصباغية متعددة التقنيات التي عايشت بعضا من ملامحها منذ ما يزيد عن عقدين ونصف من الزمن، حين كنت تلميذا بإعدادية علال الفاسي طيبة الذكر بمدينة الدارالبيضاء. أستعيد شريط ذكرياتي الخاصة، إذن، وأتذكر شابا في عقده الثاني كان قد تخرج لتوه أستاذا لمادة التربية الفنية. أتذكر ملامحه المنحوتة بدقة.. هندامه الأنيق.. ووزرته الطبية البيضاء.. كلها تفاصيل ? رغم طابعها الشكلي العام - جعلتنا، نحن تلاميذ أحد أكبر هوامش الدارالبيضاء فقرا ( منطقة بن امسيك ) ننجذب، منذ الوهلة الأولى، لحضور وكاريزما هذا الوافد الجديد المشبعة روحه بملوحة منطقة « العنق « الشاطئية. فقد كان وما يزال قليل الكلام ويتمتع بذكاء ملفت. هادئ لكونه ? ربما - فاته أن يتعلم افتعال الغضب والقسوة من تلامذته وأصدقائه في وقت مضى، وهي الصورة التي لم تخطئها حاسة وحساسية طفولتي الباكرة، بل تأكدت لي صحتها وأنا أعيد صلاتي بهذا المبدع بعد ذلك التاريخ بأزيد من عشرين سنة. لذلك، أعتقد أن حبي للفن عموما والتشكيل على وجه الخصوص بدأ في هذه المرحلة تحديدا، أي في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ولا سيما مع اسمين أساسيين أختزل لهما مكانة خاصة في ذاكرتي ووجداني معا وهما: قدور الخالدي (صاحب أشهر الملصقات النارية التي كان ينجزها للكونفدرالية الديمقراطية للشغل آنذاك) وبشير أمال، أنيق أساتذتنا على الإطلاق. يعرف الفيلسوف الجمالي الألماني هانز جورج غادامير (H. G Gadammer) اللعب بكونه عملية تحدث في « الما بين «، أي أن اللعب ليس عرضا من أجل متلق ما، كما أنه لا يحقق وجوده في موقف اللاعب، بل إن اللعب هو الذي يهيمن على اللاعب، ومن ثم، فإن اللاعب ينخرط في اللعب بوصفه واقعا يفوقه. وعلى هذا الأساس، تحول اللعب إلى فن عندما تشكل في بنية وحاز على وسط كلي، والمقصود بذلك أن اللعب يقبل التكرار، ومن خاصية التكرار هذه يستمد ديمومته. أستحضر مفهوم اللعب الغاداميري هذا وأنا أحاول قراءة منجز الفنان التشكيلي بشير أمال أو بعض ملامحه على الأقل بصوت مرتفع، من خلال استحضار تعاطيه مع اللون والمادة والأشكال والخط، وهوسه الطفولي ( اللعِبي ) بالمتلاشيات، بالهش وبالزائل، ذلك أن هذه العناصر مجتمعة تشكل عالم بشير الشقي، وإن بدرجات مختلفة، تبعا لسياقات مراحل تجربته، وأيضا بسبب ميولاته وذائقته النفسية والإبداعية ساعة إغلاق باب محترفه خلفه وانخراطه في ترويض مشقة البياض. إن المواكب المتمرس لتجربة أمال بشير الفنية يكاد لا يخطئ ممشى ذلك الخيط الرفيع الذي يشد مجمل أو كل أعماله واحدا تلو الآخر، بدءا من معرضه الفردي الأول في سنة 1988 وصولا إلى معرضه الأخير في سنة 2008، كل هذه المحطات، وقد وصلت إلى أزيد من ثلاثين معرضا، تؤثثها ملامح هذا التنويع الذي يدور حول فكرة محورية أساسية، وهي محاولة إيجاد معنى متحول ومتجدد لتقنية « الكولاج « بما يجعلها غير طاغية على سند اللوحة، أو بالأحرى غير مهيمنة على تشكيل العمل الفني في صيغته أو صباغته النهائية. وقد نفهم هذا الانحياز الفني لدى بشير أمال للهش وللزائل وللمتلاشي، من كونه فهِم - منذ فترة مراهقته الوجودية والفنية على حد سواء - « كرامات « السفر، بمعناه المعرفي كحالة اكتشاف متقدمة لكينونات ممكنة، تتيح للمرء استباق الأفكار والتجارب واختصار متع الأشياء. من هنا، ندرك ولعه بكل ما يمكن أن يصلح كأثر متوار في خلفية اللوحة، سواء تعلق الأمر بكتابات خاصة على ورق مهمل أو بصور إشهارية لسلع أو مواد مختلفة أو بقايا علب التلفيف وأظرفة قديمة أو ما شابه، والتي يحرص الفنان على تجميعها من مختلف جغرافيات سفرياته داخل المغرب وخارجه. لذلك، حين يتم التعامل مع هذه المقتنيات بنضج وبفنية وبحس جمالي أنيق، تصبح العملية في عمقها نوعا من « اللعب الخطير «، الذي يقع في منطقة « الما بين « حسب توصيف غادامير، ذلك اللعب الذي يعي المبدع خطورته في تأسيس ذوق الآخر، كشرط غير متفق بشأنه بشكل واع لتذوق الفن وطلب صحبته، ثم في الاستجابة لذائقة المبدع في ابتكار وجود آخر متحول للأشياء، يضفي عليه الفنان بعض روحه المتأملة، بما ينتج واقعا يتجاوزه ويتجاوز لحظته الراهنة. إن منطقا كهذا ليس سهلا ولا هو بسيطا كما قد يتوهم بعض الفهم الكسول، إنما الأمر يحتاج إلى حفر متواصل في الأشياء، وتطوير نشط للأدوات وطرق المعالجة وزوايا النظر والرؤية والرؤيا على حد سواء، وأكثر من ذلك، إقامة دائمة في منطقة « إحراق السفن «، منطقة اللاعودة. ومن ثم، نفهم إصرار بشير أمال على مصاحبة التجارب والأفكار الجديدة، وانحيازه الواعي الودود إلى صمته الخلاق وتأمله المتعلم. ولعل اختيار الإقامة في هذه المنطقة المحفوفة بالمحاذير هو ما يشجع بشير أمل على الاتكاء على جدران بيت طفولته البعيدة، حيث يصبح عنصر الغناء مصاحبا للعب و«اللامبالاة« الواعية بحدود العبث والعقل، اختيارا دقيقا لإنتاج عمل فني يطمح، بالدرجة الأولى، إلى إشباع فضول فنان لا يريد أن يغادر طفولته. من هنا يتحول العمل الفني، من منظور بشير أمال، إلى مناورة حقيقية للإمساك باللحظة الراهنة، الزائلة والمتلاشية، بما هي لحظة تجل للضوء المنفلت، الذي يترك خلفه أثرا فنيا يصعب أن نصادفه، كلما جلسنا نتصيد لحظة إبداع واثقة من منطقها الذي يهابه الإبداع وتنزعج منه الأرواح العاشقة. أليس الإبداع، في نهاية الأمر، لحظة تجل خارج سياقات المجاني والسهل والمعطى.