كنت نائما تحت نافذة المنزه ، أحاول أن أعوض ساعات الليل التي أرقني فيها صهد يوليوز ، حين جاءت أمي لتوقظني. فتحت عيني على بطاقة بريدية لامعة. قالت لي أمي إن آمنة بنت الجيران هي التي تسلمتها من ساعي البريد. نهضت على مضض واستويت في جلوسي، ثم أخذت أتأمل الصورة : شاطئ نظيف وأجساد فارهة وعمارات تمتد على طول الشاطئ. قلبت الصورة وصرت أقرأ ما كتب على ظهرها : « صديقي العزيز، ها أنا الآن في هذه المدينة التي تحلو فيها الحياة، هل أنا في حلم أم في حقيقة ؟ هنا يعيش الناس في نعيم يومي ، كل شيء جميل وباهر ، إنها جنة على الأرض. تعال لتستمتع بالحياة الحقيقية. لاتنس أن تجلب معك قليلا من النگعة ،،، صديقك وأخوك بوجمعة « . عدت إلى الصورة كي أعثر فيها على مضمون الكلمات وأنا أمعن النظر في أدق التفاصيل فبدت لي أجواؤها شبيهة إلى حد كبير بما كنا نراه من عوالم براقة في أفلام جيمس بوند . وضعت البطاقة البريدية جانبا وتوزعت بين العودة إلى النوم أوالاستيقاظ الحاسم والاستعداد للسفر إلى هذا الحلم . ولم ينقذني من حيرتي إلا عودة أمي وعيناها تشعان بالفضول . - من أين جاءتك هذه الرسالة ؟ كانت كلما وصلتني رسالة من الخارج يعاودها نفس الخوف من أن أذهب ولا أعود ، وكلما جئتها بزائرة أجنبية تقول لي : إياك أن تفعلها وتتزوج بإحداهن ، فهن فاسدات وخانزات لأنهن يأكلن لحم الخنزير ، ولاخير يرجى منهن . قلت لها وعيناي على الصورة : - من إسبانيا . - وأين تقع هذه الإسبانيا ؟ - قرب طنجة . قلت ذلك وأنا أعرف أن أمي لاتعرف أين تقع طنجة نفسها ، فهي لاتعرف أكثر من سيدي حرازم ومولاي يعقوب وسيدي علي بوسرغين وسيدي علي بن حمدوش ومولاي إدريس زرهون . كانت مدمنة أضرحة ومواسم بشكل غريب ، لكنها في نفس الوقت كانت متسامحة إلى حد بعيد ، ولذلك كنت أقول في سري لعلها كانت تبحث في ارتياد هذه المواسم عما يعوضها عن سوء الحظ وصدمة الزواج في سن مبكرة . أمسكت أمي بالبطاقة البريدية وشرعت تحدق في الصورة وقد كسا محياها بريق حلم مستحيل ، وكنت أنظر إليها بما لايخلو من رأفة وحنان . صحيح أني لم أكن قد وضعت قدمي بعد خارج الحدود ، غير أني بحكم ميولات غربية لم أجد لها تفسيرا حتى الآن ، كنت أعيش هنا بجسدي فقط ، أما عقلي فقد كان دائما يحلق في سماوات أخرى ، انطلاقا من تلك الصور المغرية التي كنا نراها في السينما أو في المجلات ، ومن خلال تلك الروائح الزكية التي كنت أتنسمها في أجساد السواح الذين كنت أرافقهم ، ومن ذلك الانشراح الطلق الذي كان يتبدى في طريقة مشيهم وأكلهم وضحكهم و صمتهم حتى . أعادت أمي البطاقة البريدية إلى موضعها ومضت وهي تغمغم بكلمات لم أتبينها. وظللت أنا أفكر في ما قاله لي بوجمعة في هذه البطاقة السحرية. ثم نهضت وغسلت وجهي وتناولت فطوري بخفة وطلاقة . كان يراودني إحساس غريب بأني لم أعد سجين هذه الجاذبية التي خلقت فيها على سبيل الخطأ الموجع. في أسفل الدرجات وجدت آمنة واقفة عند الباب، ولما رأتني احمر وجهها وقالت بتحسر أنثوي فائق : - هل ستغادرنا هذه المرة؟ لم أقو على النظر إلى وجهها الشريف، وتابعت سيري فأضافت بنفس الحسرة: - قرأت ما في الرسالة ، ليس لديك ما تخفي. التفت نحوها، لكن الكلمات تعثرت على طرف لساني واكتفيت لها بالابتسام، فازداد وجهها توردا وصفاء. وظللنا واقفين في صمت ، نتبادل نظرات توأمين لم يولدا من نفس الرحم. وحين خرجت إلى الشارع بدا لي الناس جامدين في أماكنهم والخمول يسكن وجوههم، عيونهم شبه مغمضة وكأنهم على مشارف العمى. كان بي شعور متضارب ، لاهو بالفرح الكامل ولا بالأسى التام. وكان من واجبي أن افرح ، فأنا مقبل على السفر ، سأرتاح قليلا أو كثيرا من هذه الإقامة القسرية بين قوم لاهم أحياء ولاهم أموات . لكن من أين سآتي بالنگعة ؟ هذا البوجمعة يثقل كاهلي بالطلبات . صحيح أننا تحدثنا في الموضوع قبل سفره، إلا أننا لم نحسم في التفاصيل. وقفت أمام سوق «الرصيف» أبحث عن قرار صائب، ثم سرت باتجاه «باب الجديد». غير أني سمعت صوتا يهتف باسمي ، وحين التفت وجدت « البيتنيك « الذي يعمل في متجر الزرابي . يا إلهي ، أحيانا تفتح أبواب السماء في اللحظة المناسبة . كنا نجالس بعضنا في بعض لحظات الأنس في منزه أمي أو في غرفته الواطئة في منزل أخته ( كنا معا يتيمين) ندخن النگعة ونستمع إلى موسيقى «كوين « Queen أو «جادرو تول « Jethro Tüll أو نيل يونع ومجموعته ، ونحلم بالرحيل إلى العالم الذي يستحقنا، عالم الشرفاء كما كان يسميه البيتنيك وهو يلثم يده . صافحته بمنتهى الود الذي كان يجمعنا ، كان شابا لطيف المعشر وصموتا على عادة الأيتام الذين لايريدون أن يسيئوا إلى أحد حتى لايقال إنهم لقطاء وسيئو التربية ، وفكرت في أن أفاتحه في الموضوع ، غير أن سمات الحزن البادية على وجهه جعلتني أؤجل الحديث إلى وقت لاحق ، وسألته عن أحوال السياحة فأخبرني بأنه لم يعد يعمل لدى صاحب الزرابي ، ثم اتكأ على حائط مدخل «المخفية» وعيناه شاردتان ، فودعته ومضيت في اتجاه محطة «باب الجديد» ، وبدا لي أني سمعته يقول : - سأذهب إلى أگدير . في حانة «المركز» وجدت زمرة المخبرين تقف في نفس الركن الذي يطيب لصاحب الحانة أن يتناول فيه جعة الزوال . سلمت على البارميطة فاطمة « الأشياء « التي لم يكن يحلو لنا الشراب إلا من يدها. كانت على غير عادة بارميطات الخمارات الأخرى طيبة الكلام وثغرها لا تبارحه بسمة امرأة وجدت نفسها تعمل في عمل لايليق بالفاسيات . وكنا نتدافع للوقوف على كونتوارها كي نستعذب احتساء الجعة بانحناءاتها التي تكشف عن مؤخرة كريمة وردفين يسعان كل الرغبات . وحين يجيء « السرغيني « عشيرها نغير المكان وقد نغير الحانة أصلا ، ولذلك لقبناها ب «الأشياء» إذ كانت تغير تعاملها معنا بمجرد أن يحضر ، وكنا نتحول إلى أشياء حقيقية ومجرد زبناء عابرين. كنت أشرب ولا أتوقف عن تشغيل الجوك بوكس ، متنقلا من أسطوانة إلى أخرى ، وكنت أتعمد اختيارالأغاني التي تستفز المخبرين : من جاك بريل إلى ميشيل بولناريف إلى بوب ديلان ، مرورا بناس الغيوان وجيل جيلالة . وكانوا من حين لآخر يباغتونني ويشغلون أسطوانة لمحمد عبد الوهاب أو لرابح درياسة أو لعبد الله المگانة ومجموعة القصاصبية ، ثم يقرعون كؤوسهم وهم يصوبون نحوي نظراتهم العدوانية ، وكان صاحب الحانة يبتسم لي وكأنه يقول لي : «لا تبال بهؤلاء الطفيليين الذين يبتزونني ويتوعدونك» ، ثم ينادي على « الأشياء» ويأمرها بأن تمنحني جعة خارج الحساب. وكلما كان في طريقه إلى بيت الحاجة يربت على كتفي وهو يردد: - تبارك الله على الأستاذ ديالنا. بعد آذان الظهر جاء « بونيفاص» ومعه «باهادي» والغلام البدين . فشعرت بأني صرت الآن محميا . لقد جاءت زمرتي أنا أيضا ، ولدى دخوله صوب باهادي عينيه باتجاه زاوية المخبرين وغمزني وهو يضحك تلك الضحكة المتخمة التي ورثها عن معاشرته أهل الطرب والملحون . وحين أتته «الأشياء» بجعته ملأ الكأس حتى فاضت ولعق جوانبها وهو ينظر إلى «الأشياء» نظرة شهوانية ، ثم احتسى الكأس دفعة واحدة وأشار لها بأخرى وقال وهو يتلمظ : - ما ألذ البيرة يوم الجمعة ! نظر إلي بونيفاص نظرته الماكرة وعقب على قول باهادي : - دعنا من حديث الصنايعية ، وآتنا بما عندك . أعاد باهادي الكأس إلى الكونتوار ومرر أصابعه على حنجرته وقال : - علي أولا أن أبلل جوفي كي ينطلق صوتي. سارع بونيفاص إلى طلب جعتين ، وملأ كأس باهادي وقرعه بكأسه ، فانطلق باهادي ينشد قصيدة مظفر النواب الشهيرة « أولاد الق،،، أنتم « ، وحينها انتعظت آذان المخبرين وتقلصت قسمات وجوههم الصماء وسرى بينهم همس متوثب . أما صاحب الحانة فقد ودع الجميع وغادر، وبقي المخبرون كالأيتام ينظرون إلى بعضهم في مذلة قبل أن يضطروا للمغادرة. اقتربت منا «الأشياء» وقالت وهي تنظر إلي : - أنتم شياطين . وبذهاب زمرة المخبرين طاب لنا الشرب وسماع قصائد محمود درويش حتى المساء. ولدى وصولي إلى البيت وجدت بوجمعة ينتظرني عند الباب . - متى عدت من «الجنة» ؟ - تعال . - إلى أين ؟ - اتبعني . هذه هي حاله ، كلما أراد شيئا بلغه ، لايهمه الآخرون في شيء : أن يكونوا جاهزين أو لا يكونوا على الإطلاق ، كانت أناه تعلو فوق الجميع . سرنا معا وهو يحدثني عن تلك المدينة السياحية التي سنصبح فيها غنيين بسرعة ، ولربما كتب لنا فيها العيش فنرتاح من هذا التعليم البائس. وفي مجرى حديثه وجدتني أعرف هذه المدينة ركنا بركن وأرتاد مطاعمها وحاناتها ومراقصها كأي سائح ميسور ، وأعاشر زائراتها المستباحات الوافدات من السويد وألمانيا وإيرلندة وفينلنده والنرويج والدانمارك ( أين تقع هذه البلدان ؟) إلا الإسبانيات فهن متزمتات ويعانين من عقدة اللغة الأجنبية ، لأن فرانكو كما حكى لي بوجمعة سجن الإسبان في بلادهم ومنع عليهم التحدث بغير الإسبانية. وصلنا إلى منزل مرتكن في حي شعبي فاستقبلنا رجل في منتصف العمر، له هيئة معلم في قرية نائية ،وأدخلنا إلى غرفة أثاثها مجموع، لعله يستعد للسفر أو للرحيل. ثم أتانا بكؤوس الشاي وأشعل غليون الكيف وناولني إياه وهو يسألني : - كم مقاس حذائك ؟ أجبته وقد باغتني السؤال : - اثنان وأربعون. حشا الغليون بالكيف وأشعله وسلمه لبوجمعة ، ثم نهض وغادر الغرفة ، فاقتربت من بوجمعة وهمست له : - ومادخل حذائي ؟ ابتسم بوجمعة ابتسامته المحشوة بالمكر وقال لي - لا تتسرع ، انتظر وسترى . وبعد لحظات عاد الرجل وفي يده حذاء مستورد شبيه بأحذية رعاة البقر. وطلب مني أن أقيسه. - هذا حذاء كندي . كان الحذاء على مقاسي وكأنه صنع لي ، ففرح بوجمعة ، وجلس الرجل يدخن وهو يتفحصني بنظرات لم أدرك ماوراءها . كان شراب النهار قد تبدد وشعرت بأني أدخل الآن عالما لاعهد لي به ، عالما يكتنفه الغموض والإشارات الخفية. وبدا لي أن أعدل عن مشروع السفر وأكتفي بالذهاب إلى طنجة ، سأقضي النهار في العوم والتفرج على البواخر وهي تغادر الميناء ، وفي المساء أقوم بجولتي المعهودة عبر حانات المدينة ، وقد يجود الله علي بسائحة هيبية تقاسمني عزلتي وأقاسمها تسكعها. كانت الغرفة مغمورة بالدخان وصمت مريب يسود جلستنا ، حين سمعنا طرقا على الباب ، فانتفض بوجمعة مذعورا ( كان مصابا بجبن مزمن ) ونهض الرجل وغادر الغرفة. كان بوجمعة ينظر إلي محاولا إخفاء ذعره بابتسامة مجهضة . وأخيرا سمعنا حديثا متناثرا لمجموعة من الزوار، ومن خلال باب الغرفة بدا لي وجه ذلك الإداري الصموت الذي كان يعمل في ثانوية «القرويين» أيام كنا ندرس فيها. ازدادت الأمور غموضا في ذهني وقلت لعلني الآن أرى ما يمليه علي الكيف. لكن بوجمعة همس لي قائلا : - هؤلاء أعضاء النقابة . هل رأيت صاحبنا الإداري ؟ إنه مناضل عتيد في حزب الاستقلال. وبعودة الرجل أحسست بارتياح مستعاد ووقفت في الحال. ثم خرجنا بعد أن اتفقنا على العودة بعد يومين.