بعد عدة نقاشات حول مستقبل المغرب، إما مع أصدقاء أو غرباء أو مع العائلة، أدركت أن هناك مشكلة كبيرة : وهي عدم الاعتراف شبه معمم بالآخر. من جهة، لدينا فئة «الأثرياء»، والتي غالبا ما تنظر إلى الشباب وغيرهم من المحتجين على اعتبار أنهم لا مسؤولون. «الأثرياء» لا يفهمون لماذا المتظاهرون لا يتحلون بالصبر، ولا يفهمون لماذا الشباب ليسوا أكثر عقلانية في انتظاراتهم. الأسوأ من ذلك أنهم يبررون موقفهم بذريعة أن المغاربة ليسوا جاهزين للديمقراطية، وغير متعلمين بما فيه الكفاية، (نسبة الأمية تصل إلى 38%)، وأنهم غير صادقين بما فيه الكفاية، وأنهم يشتكون من الفساد ولكن هم نفسهم لا يحترمون القوانين، وما إلى ذلك... ومن جهة أخرى نجد المتظاهرين، وهم عادة ينتمون إلى الطبقات الشعبية الصغرى والمتوسطة، أغلبهم صادقين، بالإضافة إلى بعض الديماغوجيين وغيرهم من المتعطشين للسلطة، وعادة ما يضعون كل «الأثرياء» في سلة واحدة، أي أنهم كلهم يستفيدون من اقتصاد الريع و كلهم مفسدون ... من المؤكد أنه إذا أعطت كل فئة صورة سوداء عن الفئة الأخرى لن نتقدم كثيرا ... والآن، إذا كنا نريد إعطاء أنفسنا فرصة لإنقاذ بلادنا من الفوضى والمساهمة في إنجاح تنمية متناغمة، ينبغي أن نعمل على محاربة أسباب هذه التشوهات، والسبب الأول هو الخوف. كيف نحارب الخوف؟ بالتفاهم. وأعتقد أن واجب التفاهم هو في المقام الأول على عاتق طبقة «الأثرياء». لماذا ؟ لأن لديهم الوسائل للقيام بذلك من جهة، و من جهة أخرى لأنهم ساهموا إلى حد كبير (كنشطاء بالنسبة للبعض وكمحايدين سلبيين بالنسبة للغالبية العظمى) في الوضع الذي آلت إليه بلادنا اليوم. «الأثرياء» ليس لهم فقط الحظ في الوصول إلى درجات عليا في التكوين، ولكن لهم أيضا من الراحة المادية التي تسمح لهم أخذ الوقت الكافي لفهم كيف وصلت بلادنا إلى هذا الوضع. وعلى الضفة الأخرى, نجد أن الغالبية العظمى من مواطنينا لا تحصل على تكوين وتأهيل بل هي منشغلة أساسا بمشاكل الغذاء والمعيشة (88 % من الأسر تكسب أقل من 6500 درهم في الشهر). لماذا «الأثرياء» هم المسؤولون ؟ أي إنسان نزيه سوف يعترف بأننا وصلنا إلى الوضع الذي نحن فيه بسبب التجاوزات المرتكبة على نطاق واسع. من هم الذين يوجدون في وضع يمَكنهم من هذه التجاوزات ؟ «الأثرياء». ومن هم الذين كانوا في وضع يمَكنهم من التمرد ضد هذه التجاوزات ؟ «الأثرياء». لذلك، وعلى أساس مبدأ «الصمت هو الموافقة»، يجب أن تقبل هذه الفئة نصيبها من المسؤولية. بالطبع ليسوا كلهم استغلوا النظام، ولا ظلوا جميعا مكتوفي الأيدي. هناك في الواقع جماعات قامت بعمل عظيم ويجب أن نكن لهم كل التقدير، وعلى أي حال، يجب عليهم أن لا ينسوا أن الثروة المادية والثقافية التي يتمتعون بها، إنما يرجع الفضل فيها لبلدهم ويجب أن يكنوا له كل الاحترام والتقدير، وبطبيعة الحال الفضل يرجع لعملهم ومثابرتهم كذلك. إن نزع فتيل هذا الخوف والخروج من دائرة انعدام الثقة المتبادل يكمن في بذل جهد إضافي من طرف «الأثرياء» من أجل تفاهم أكبر. لماذا انعدام الثقة ؟ هل نستطيع أن نلوم فئة المتظاهرين لأنها سئمت من هذا الوضع على ضوء الأوضاع العامة التي نعرفها ؟ نظام قضائي لا يعمل بشكل جيد، تعليم في غيبوبة منذ أربعة عقود على الأقل، نظام صحي غائب عمليا، نظام حكامة مبنية على الغموض، وبطبيعة الحال، فساد على نطاق واسع. كيف يمكن أن تكون لنا ثقة في هذه الأوضاع ؟ كيف يمكن أن نعطي الأمل و المصعد الاجتماعي للتعليم في حالة عطب ؟ هذه هي الحياة اليومية بالنسبة ل 95% من المغاربة. هل «الأثرياء» متضررون من هذا الفساد ؟ نعم بالطبع. هل هم متضررون من فشل النظام ؟ نعم، ولكن لديهم الوسائل المادية لكي يعتمدوا على أنفسهم لا على النظام. لو كنا جميعا مغاربة «متوسطين» بأكثر أو أقل من الحد الأدنى للأجور، بدون تعليم، ولا حماية اجتماعية، لماذا سننتظر من العدالة أن تقوم بعملها ؟ ماذا يمكن أن نتوقع من قوات الأمن ؟ ماذا نأمل لأطفالنا من مدرسة في حالة إفلاس، وللذين سينتقلون منهم -في أحسن الأحوال- إلى الجامعة التي هي أيضا في حالة إفلاس، ليتلقوا بالإضافة إلى ذلك الدروس بلغة أخرى غير تلك التي درسوا بها في الثانوية؟ «الأثرياء» يعيشون في بيئة حيث لا أحد يهتم بهم، فلماذا سيهتمون هم بالآخرين؟ إذا كانوا يتعرضون، هم كذلك، كل يوم لتعسفات وتجاوزات فمن الطبيعي أن يتعسفوا بدورهم على الآخرين ؟ إذا ولد أبناؤهم في هذه الحلقة المفرغة، سيعيشون بدورهم في ظل اليأس وفقدان الثقة. جيل الشباب الجديد ليس منقطعاً عن عالم الأثرياء. فهو يشاهد على الشبكة العنكبوثية وعبر القنوات الفضائية رخاء الدول الغربية والإسراف في التبذير الذي نجده أيضا في بلادنا. كم من «بورش» و»مازيراتي» و»بينتلي» و»فيراري» و»هامر» ... نراها تتجول في شوارعنا ؟ كم عشرات الآلاف من الدراهم تُلتهب في الليالي والسهرات بالمطاعم والنوادي الليلية ؟ هذا الخندق بين الطبقات الاجتماعية و الذي يتفاقم يوما بعد يوم يغذي جشع الشارع وغضبه. وهكذا يحرك «الأثرياء» السكين في الجرح بوعي أو بلا وعي. فهل يمكننا أن نلوم المتظاهرين على جعل «الأثرياء» كلهم في نفس السلة ونعتهم بالريعيين والفاسدين ؟ بالطبع معظم هذه الاتهامات غير صحيحة، ومن السهل أن نتهم الآخر بكل مآسينا. والشيء المؤسف هو أن «الآخر» هو الجزء الظاهر من جبل الجليد البحري (iceberg)، هو فئة «الأثرياء». الآن، إذا كانت فئة «الأثرياء» تريد أن يكون لها بعض الأمل في مستقبل أبنائها في بلدنا، يجب أن تعمل على تغيير هذا الاتجاه. يجب عليها أولا التوقف عن تشويه سمعة المتظاهرين، وتعترف بصحة تطلعاتهم وتقبل أنها وحدها يمكن أن تفعل شيئا لصالح هذه التطلعات والانتظارات. وسوف يقول البعض، لماذا سنحترم «حركة 20 فبراير» وهي تذهب في كل الاتجاهات بدون وضوح وبدون قيادة ؟ الجواب بسيط : إن «حركة 20 فبراير» فوضوية ولكنها تستمد واقعها من وضعنا. شباب غاضب له مطالب من دون معرفة ماذا يريد، والشباب الذي يحرم من كل شيء، من الطبيعي أن يطالب بأكثر من ما هو معقول. مع كل عيوبها إن «حركة 20 فبراير» لديها على الأقل ميزة واحدة، هي أنها تمثل الفوضى ومخاطر التطرف التي تواجه مجتمعنا اليوم. إذن، بدلا من نبذ هذه الفئة، واتهامها بالخيانة ونعتها بعيوب أخرى، يجب أن نستفيد منها في محاولة لفهم حالة الفوضى التي يمثلها الشباب. عندها ربما سنصل إلى خطاب يمكن أن يُسمع من قبل الأغلبية. ومع ذلك، لاستعادة الثقة واستعادة الأمل لا توجد أجوبة بسيطة. هناك شيء واحد مؤكد : ليس لدينا الحق في العجز. فعلى الجميع، من كل الفئات، العمل بكل ما في وسعه على إعادة تربية الآخر. علينا أن نصرح بمستخدمينا، حتى مستخدمي المنازل، ومنحهم ما لا يقل عن الحد الأدنى للأجور، علينا أن نرسخ في مقاولاتنا أو فرقنا المزيد من الشفافية والنزاهة، علينا أن نضع برامج محو الأمية والتدريب للعمال في مؤسساتنا، وعلينا أن نرسخ المساواة بين الجنسين في هياكلنا، و علينا أن نرفض الرشوة والفساد، وأن نتقبل دفع غرامات مالية من أجل أخطائنا، ونرفض الانصياع عندما نكون شاهدين على تعسف أو شطط في استعمال السلطة ونندد به، وأن نستخدم إمكانياتنا من أجل الصالح العام بدلا من المصلحة الذاتية، وأن نرفض شراء وبيع الصفقات، وأن ندين اللامبالاة، وعلينا أن نعاقب الأخطاء بقسوة ولكن بعدل، وما إلى ذلك... هناك أشياء كثيرة، يمكن أن نفعلها، وأخرى لا نفعلها، ستمكننا من استعادة المصداقية. من يستطيع أن يمنعنا من تحقيق العدالة ؟ مستقبل بلدنا ملك لنا. هذا المستقبل هو مسؤوليتنا. يمكن لكل واحد منا أن يتخلى عن الخوف، وأن يبدأ في العمل، كل في حدود إمكانياته، وأن يصبح سيد مصيره. * ملحوظة لأول مرة في التاريخ يُسجل 3 مغاربة ضمن لائحة «فوربس» لأكبر الأثرياء في العالم الثلاثة استفادوا بطريقة أو بأخرى من النظام، إما عن طريق السكن الاجتماعي أو خوصصة مؤسسات عمومية أو التساهل المالي.