(1) يوما بعد يوم، وأنا أجول في المدن، بعيدا عن أرض الجنوب، باحثا عن لذة أو مصيبة، أعرفُ أن الحزن مصيري. لأن ابن الجنوب لا عزاءَ له سوى التأمل؛ فإذا كان أهل المدينة قد كرهوا الحياة بسبب اللذة المفرطة، فإننا في الجنوب لم نَعُدْ نستطيع الاستمتاع بحياتنا بسبب الحزن المفرط والهروب من المادة، وبسبب القرون الطويلة التي قضاها أجدادنا يحتقرون المادة ويعيشون الكفاف.. أَعْتَرِفُ بأني أصبَحْتُ أميلُ كثيرا إلى خيانة الصوّر و اللغة و الإيقاع المعتاد.. رغم أن الانتقال من هوى إلى هوى يعصفُ بالخاطر و يُوَرّط في الاحتمالات..أصبحتُ لا أحبّ الثبات في منطق الأشياء الأولى، بل السعي إلى اكتشافها مزيدا دون ألم. لَمْ يعد يهوى جسدي المرور على الأمور بغير نضج كما نقرأ الكتابَ لمرة واحدة وننساه. أصبحَ المرور المتعجّل يؤلمني والتفاصيل الصغيرة الهاربة تطحنُ العضوية.. لكن يا جسدي، يا من حمَلني طويلا في الأنحاء وركض بي صغيرا في الحقول والفيافي وصعد الجبال بي، يا رفيقي في الظلام والنور والمرض والصّحة وفي «دَوَاوِيرِ» البلاد وعلى ظهور حميرها. يا جسدي الأثير، هل تَيَسّر لي أن أعبرَ المسافات؟ من هذا الجنوب إلى المدن والقرى والأنحاء؟ وإذا عبرتُها؛ هل أمسكتُ ما يكفي من صوّر كي أكتبَ عن صحرائيّ الأثيرة، وواحاتها ؟ التي بقدر ما تبدو صغيرة، تتناطحُ العوالم في جوفها؟ مكانٌ كانَ هو أول ما رأيتُ.. في داخلي صورتان ومسافتان. الأولى حقيقية والثانية مفترضة. لا شيء أستطيع تذكّره غير المسافة، شريط لا ينقطع من الصور، تتملّكني الدهشة وحدها، دهشة تفيض على أنسجة الروح، في طيرانِها كعصفور بين مكان وآخر..المدن أهواء وأمزجة، تعصرني حتى يفيض الحُلم فأغدو مشدوها للوجوه الكثيرة التي سطّرت الشمس ملامحها بعناية، للمباني التي تفَنَّنَ جدودي في صياغتها بدأب ويقين، للقصور الدّرعية التي تتوزّع على طول الطريق الضيقة، مهملة ولا من يهتم بها، تعبرُ أمامها شاحنات وسيارات غامِقٌ لونها دون حوادث، تسير باتجاه الأسواق الأسبوعية لتضع الخُضر والغاز وأحمالها من علف الماشية.الوادي الممتد الذي ارتبطت واحات «درعة» به لقرون ولا تزال وسُمّيت باسمه، (للوادي جلال.وجعلنا من الماء كل شيء حيّ)، النساء العائدات من الفدادين حاملات حُزم «الحشيش» أو الحطب على الرأس،عند الصباح. للأطفال يعبرون الطريق باتجاه المدارس الصغيرة الطينية، المعلقة بين أشجار النخيل وبقايا القصور القديمة. لجماعات من الشيوخ والكهول يَتَهيّؤون ليوم طويل من الكلام وإعمال النظر في المارّة والسيارات، والتعليق على كل شاذة وفادة. ثم تَسخن الشمس وئيدا بالمكان فتزيدُ الحركة وتخرجُ النساء لسَقي الماء من الآبار، وتفتَحُ الحوانيت المرصُوصة على الطريق أبوابها،وحينَ يحل المساء يعود الجميع إلى المنازل وتنطفئ دورة اليوم، وقتها لا يسمع السامع أدنى نأمة تنفّس، وحده جلال السكون ... المسافة سلطان شرير. أعبُرها ويتغيَّرُ المكان بي في الحافلة التي تصعَدُ جبال «أيت ساون» باتجاه «ورزازات». في كل مرة أغدو فيها باتجاه المدن العليا عابرا الجبال، من الجنوب. من»زاكورة»، إلى كل مكان، يستيقظ الكائن المتصوّف بي. أحزنُ في القِطارات والمطارات، و تختلط عند حواسي روائح العطور بروائح القهوة و دموع الأحبة، أحسُّ بأني كائن غريب ولا عزاء لي، كائن فائض عن الحاجة، تشتدُّ الهواجس فأقرأُ قصار السور وأردّد ما سمِعتُه في الطفولة على حصير المسيد من أدعية، ثم أضع سمّاعة الموسيقى وأنام بموسيقى «فيروز» أو «فرقة ابن عربي» أو «عمر خيرت» أو «ريما خشيش» فتَلِجُني الصوَّرُ ويهنأ البال، أنام طِوال الطّريق مُتقلّبا في كرسي الحافلة. أتنقّل عابرا «تيشكا» باتجاه «مراكش» أو في الطريق إلى «زاكورة». وفي «تيشكا» أُغمضُ عيني وأجدها بقربي تضحك لكن ضحكتها لا تفتح مجالا بل ترسم الحواجز،فظروفها صعبة، وأقول لنفسي تريّث..أحاول أن أُمسك يدها رغم ذلك لأن القلب سلطان،أنسى القيمة وأفكّر في اللحظة وأهمّ بها وتهمّ بي لكن جلبة «تِزْلْيَاظَةَ» توقظني. «تِزْلْيَاظَةَ» بلدة صغيرة محفورة في ذهن كل جنوبي، لأنها محطّة الاستراحة، مكانٌ هامشي لا يلتفِتُ إليه أحد، مهمّش، ولكنهُ موطن الذاكرة. آكلُ الشواء وأشربُ الماء الزّلال وأكتبُ حين يُطفئ السائق مصابيح «الحافلة» فيزول التّعب... أصبحتُ أعرف تماما قانون السفر: لا عواطف في السفر وإلا يتسرّب إليك ماء آسن. تجد نفسك وحيدا في المحطة والحياة ولا عزاء لروحك المشروخة في السفر.أقول عادة لا تودّعوني فأنا أتشاءم بالوداع. أخرجُ دون وداع مسرعا كمن سيعود بعد دقيقة ثم لن أرى الوجوه بعد ذلك (قد أراها في حيوات لاحقة). في السفر لا عواطف. فكّر في المتعة الخالصة، في اللقاءات السريعة العابرة، في برد المحطات حين تفاجئك أرواح تحتاج الدفء فيتسرّب الحديث وينتهي بعد ساعات بوداع ومجاملات أو بقهوة أو بليلة في فندق قريب ،لا يهم..في السفر تخطيء المحطة أنت وامرأة في ذات الوقت كأنّ القدر هناك فكن مستعدا وحمّ سلاحك جيدا كي تعبران إلى طريق آخر يرسُم ذكريات أخرى للكتابة، الدنيا هانئة والسماء صافية وربي كبير..ثم إني قد جرّبتُ الاحتمالات منذ وقت بعيد وعشت بها: احتمال النجاح واحتمال الفشل، احتمال الدراسة واحتمال الانقطاع عن الدراسة كفرد من قبيلة منسيّة في التخوم تعيش بالصدفة.احتمال الحياة في أنحاء العالم والنظرة اللطيفة والاهتمام، واحتمال الموت في عزّ الصيف من أمراض الجنوب التي تحصد الأطفال بداية كل موسم ومن عقارب النخيل وأفاعي الصحراء والحجارة السوداء. احتمال الحب وعدم تصديقه على الخصوص (ربما لأنك ترغب في عيشه وَهْماً فقط)، واحتمال العيش دون حب إلى يوم يلتقون وهذا أخطر ما يواجه الذي يعيش الاحتمالات. ربما الحب عزف جماعي وأنا عزفي منفرد يا سيدتي، وربما تعلّمتُ يوما كيف أعزف ضمن الجماعة..وكما قال «جمال الغيطاني» يوما:» يا خوفي أن أكون مغرما بالبعيد».. *- نص من كتاب يحمل العنوان نفسه صدر للكاتب مؤخرا، وننشره باتفاق معه