قدمت الحكومة مؤخرا قانون المالية بعد تأخير أعتبره عاديا نظرا للظروف التي تم فيها تشكيل الأغلبية الحالية و ما رافق ذلك من صعوبات لإعادة ترتيب التوافقات السياسية بين الفرقاء المكونين لها قبل الشروع في مناقشة القانون المالي. لست من دعاة التوقف عند إشكالية التأخير، فالمغرب عرف محطات كانت شبيهة بما وقع حاليا، ما يهمنا هو مناقشة العمق المتمثل في استقراء أرقام المشروع الحالي و ما سيترتب عليها من انعكاسات ستمس بشكل مباشر بنية الاقتصاد الوطني. أول ملاحظة تثير الانتباه هو عجز الميزانية الذي سيصل هذه السنة إلى 5% من الناتج الداخلي الخام أي ما بين 40 و 43 مليار درهم، للحفاظ على التوازنات في مواجهة العجز.الحكومة مضطرة إلى التوجه إلى السوق المالي الداخلي وكذلك الأسواق المالية الخارجية بمعنى مزيد من الاقتراض ومزيد من إثقال كاهل الدولة المغربية. مديونية المغرب بدأت في الوصول إلى خط التماس، فتكاليف استرجاع الديون الخارجية المقاربة الحالية لا تخرج عن المنهجية التقليدية المتبعة منذ سنوات و التي تقتضي الحفاظ على توازنات هشة عوض البحث عن بدائل قادرة على إحداث قطيعة مع اقتصاديات ينقصها الطموح و التحدي. تكاليف الأجور ستصل هذه السنة إلى 90 مليار درهم أي5 ،11% من الناتج الداخلي الخام، في حين أن النسبة المطلوبة هي 7% ، فأين الأهداف التي سطرتها حكومة جطو القاضية بتخفيضها إلى 6% ، كل الحكومات المتعاقبة تتعامل مع الإشكالية من منظور الحلول القريبة المدى عوض التفكير الجدي في إعادة النظر في مفهوم المرافق العمومية ومرد وديتها. إن إحداث 26 ألف منصب شغل ليس إلا حلا ترقيعيا مؤقتا وعابرا، فالمختصون يعرفون جيدا أن خلق مناصب شغل يقتضي نسبة نمو تفوق بكثير ما جاء في قانون المالية الحالي و الذي حصرها في 4،7% ;في حين أن الالتزام بالوعود الانتخابية والمتمثلة في خلق 250 ألف منصب شغل سنويا يقتضي نسبة نمو تتجاوز 7%. من بين الإشكالات الكبرى المطروحة على الاقتصاد المغربي إيجاد حلول عملية لإيقاف النزيف المالي الذي يسببه صندوق الموازنة لخزينة الدولة، لن نطلب من حكومة يقودها حزب حديث العهد بتدبير الملفات الإستراتيجية إيجاد تصور تحكمه السرعة دون مساس العمق، المسؤولية تقتضي التنزيل السياسي لمخطط إصلاحي متوافق عليه يمس جوهر مهام صندوق المقاصة، فلا حلول دون الجرأة في طرح الأسئلة المسكوت عنها منذ زمن طويل و التي راكم المستفيدون منها، أشخاص و قطاعات، أموالا باهظة على حساب المهمة الاجتماعية النبيلة التي تحكمت في فلسفة خلق صندوق المقاصة. الظاهر أن المعالجة التقنية حاضرة في القانون المالي الحالي بحيث أن الحكومة رصدت 14 مليار درهم لتصفية متأخرات الصندوق و 34 مليار درهم لمواجهة متطلبات 2012 و بذلك ولأول مرة في تاريخ صندوق المقاصة ستصل إلى 52 مليار درهم، إنه رقم مهول ومخيف في غياب إصلاح جدري و شجاع لهذه الإشكالية. قراءة سريعة في أرقام المداخيل، تؤشر على أن هامش التحرك ضيق و محدود عند الحكومة الحالية، فصادرات المغرب برسم سنة 2011 لم تتعدى 123 مليار درهم خارج الفوسفاط والسياحة، 93 مليار درهم مصدرها السوق الأوربية، هذه الأخيرة صدرت إلى المغرب 167 مليار درهم، إنه خلل واضح لن يتم تداركه بالخطابات السياسية المليئة بالوعود والعموميات، بل بتقييم حقيقي للشراكة الاقتصادية المغربية الأوربية. كيف يمكن أن تمر في صمت باستثناء اهتمام إعلامي محدود قضية تفعيل اتفاقية إزالة الحواجز الجمركية بين الاتحاد الأوربي والمغرب. هل سنستمر في ترك ملفات حساسة ومصيرية في يد خبراء، هدفهم تطبيق أجندة زمنية؟ ماذا حقق المغرب طيلة عشر سنوات؟ أرقام تؤكد أننا أمام قطاعات إنتاجية جزء منها انقرض والباقي يدبر صعوبات معقدة. هل غاب عن ذهن المسؤولين أن المغرب قد خسر مابين 2000 و2011 ما يزيد عن 51 مليار درهم كمدا خيل في شكل رسوم جمركية. الأطروحة التي تقول بأن المداخيل عن طريق الضريبة على القيمة المضافة قد ارتفعت من 22،7 مليار درهم سنة 2000 إلى 140،7 مليار درهم سنة 2011 خاطئة في قراءة عواقب هذا الارتفاع الذي يتم على حساب قطاعات صناعية مغربية و كمثال على ذلك الصناعات الكهربائية و الإلكترونية والتي خسرنا خلال عشر سنوات ما بين 7 إلى 10 من مقاولاتها. في أواسط أبريل ستنطلق المفاوضات مع الاتحاد الأوربي حول قطاعات حساسة ونقصد بذلك قطاع الخدمات، من هنا نتساءل أية إستراتيجية حضرت الحكومة لهذه الجولة الجديدة والتي ستمس قطاعات تعتبر ركيزة من ركائز الاقتصاد الوطني. كما أن الاتفاق الحر الذي وقعه المغرب مع الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى حدود هذه الفترة، المستفيد منه هو المنتج الأمريكي الذي استطاع سنة 2011 تصدير 2،86 مليار دولار إلى المغرب، وبذلك تحولنا في العالم العربي إلى رابع سوق للمنتجات الأمريكية مع العربية السعودية والإمارات و قطر. بضغط من صندوق النقد الدولي والبنك الأوربي، دخلت دول أوربية أساسية في خيارات تقشفية حماية لمستقبلها الاقتصادي، فإسبانيا قررت و لمدة سنوات متعددة خفض عجز الميزانية ب %10،5، وإيرلاندا ب 10%، والبرتغال ب 9،5% واليونان ب 17% ودول أخرى تستعد لذلك، الرأي العام الأوربي مهيأ نفسيا ومعبأ لمواجهة أزمة مالية دائمة وليست عابرة. في المغرب الحكومة ومعها صناع القرارات الإستراتيجية يتعاملون مع المرحلة من منظور ظرفي في غياب تام لأي نقاش وطني ومجتمعي، السائد حاليا هو خطاب الطمأنة، في ظل وضع مقلق وطنيا و جهويا.