هل ما زال للسؤال عن الحياة معنى؟ أليست حالة هذه الأخيرة مثل حال «إلكترون حر» يترنح كل حين ويتغير باستمرار دون استقرار؟ كيف نعيد للحياة معناها وبالتالي نعيد للسؤال عنها مشروعيته في الوقت الذي تشهد فيه مجالاتها الأخلاقية والعاطفية والاجتماعية والفكرية.. تحولات دائمة وانقلابات جذرية خاصة بعد اكتساح الثقافة التقنية جميع ميادينها؟ ألم يتجذر الفكر التقني في حياتنا الإنسانية المعاصرة لدرجة أضحت معها هذه الأخيرة دائمة التحول والتغير بدوام واستمرارية الانقلابات التي يعرفها مسار العلم والفكر التقنيين ممّا أفقد الإنسان المعاصر أية إمكانية لامتلاك تصور مكتمل عن حياة مستقرة وذات معنى؟ هل ما زال التفكير في الحياة المعاصرة ممكنا بعيدا عن مقولات «الأزمنة التقنية» وقوالبها؟ وأخيرا، هل من سبيل لإنقاذ حياتنا المعاصرة من زوبعة اللاستقرار، أو بحسب تعبير زيكمانت بومان (Zygmunt Bauman) -أحد أكثر السوسيولوجيين المعاصرين نفوذا-(1) من زوبعة «السيولة» الناتجة عن سيادة وهيمنة الفكر التقني؟ يصف بومان الحياة المعاصرة بخاصية السيولة (une vie moderne liquide)(2)، إنها السمة الأكثر وضوحا لتمييز نوع التعايش الإنساني؛ ويرجع هذا الوصف إلى حالة اللاستقرار التي تعرفها العلاقات الإنسانية، حيث أن الارتباطات بين الأفراد في المجتمعات المعاصرة تتسم بالهشاشة والمرونة، فلم يعد بالإمكان توقع شيء في عالم اليوم منفلت من التغير الدائم ومن أن لا يكون متحولا باستمرار وعابرا وزائلا وغير مستقر؛ ذلك أن فكرة الالتزام تبعا لتعاقدات ثابتة ومتينة تخيف الإنسان لكونها قد تقيد من حريته المستقبلية في الاختيار، ومن هنا حرصه الشديد وحساسيته المفرطة تجاه العلاقات الدائمة والالتزامات الطويلة الأمد التي يصعب حلها. لقد أفرزت حداثة الأزمنة التقنية «إنسان بدون علاقات» ( (l?homme sans liens، يعيش حالة «شبه-ارتباطات»، إذ ما ينسجه الأفراد فيما بينهم من روابط سرعان ما يعملون على حلها ليعيدوا الكرة تلو الأخرى دون توقف. إن تفاعلاتهم وعلاقاتهم لم تعد تخضع، يؤكد بومان، «ل»البنيات» (structures) الثابتة ولقواعد واضحة وملزمة، وإنما حلّت محلها «شبكات» (réseaux)تصلح لإقامة تفاعلات إنسانية مؤقتة وعابرة يسهل حلها ويحتفظ بحرية إيقافها عند كل لحظة وبإمكانية إلغائها حسب الطلب»(3). انتهى زمن الالتزامات الدائمة وتم تعويضها بالعلاقات المرنة والمؤقتة والقابلة للتغير والتحول الدائمين. أصبحت المجتمعات المعاصرة في حالة عدم استقرار، فجميع أفرادها يفضلون الارتباط المرن والعابر والزائل والمؤقت وغير المستقر.. إذ لا أحد يجرؤ على امتلاك تصور مشروع «حياة كاملة» مستقرة يطبعها الالتزام الثابت والتعاقد المتين. لقد أضحى الوجود العلائقي للأفراد في حالة تغير مستمر وتحول سريع وغير متوقع؛ لذلك حرص بومان في تحليلاته السوسيولوجية على أن يسلط الضوء على طبيعة العلاقات التي يقيمها الأفراد فيما بينهم اليوم وعلى تجاربهم الإنسانية المشتركة؛ فمفهوم «العلاقة» الإنسانية (la » relation « humaine) هو الأساس الذي تتمحور حوله كتابات بومان، بل إن هذا الأخير يلح على أن استيعاب الرهانات الكبرى للحياة المعاصرة يتوقف على تحليل هذا المفهوم. ففي نظره، عرفت العلاقات الإنسانية انقلابا جذريا في طبيعتها، فأصبحت الارتباطات بين الأفراد من نوع «العلاقات الافتراضية»(» relations virtuelles «) والتي تختلف جوهريا عن طبيعة الالتزامات التي كانت في عالم الأمس. فإذا كانت هذه الأخيرة، تتخذ شكل «علاقات واقعية» (» relations réelles «) لكونها تقوم على أساس الالتزام الطويل الأمد والتعاقد المستمر داخل مؤسسات مستقرة وصلبة، فإن ما تتميز به العلاقات الإنسانية في عالم اليوم هو التمرد عن فكرة الالتزام والتعاقد الدائم، إنها مجرد روابط توافقية هشة ومؤقتة(4). بيد أن الرؤية السوسيولوجية لبومان لم تتوقف عند هذا الحد, بمعنى أن بومان لم يكتف فقط بإرجاع طابع سيولة الحياة إلى ظرفية وهشاشة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات المعاصرة؛ وإنما سعى لإثبات أن مأتى وضعية اللاستقرار للوجود التفاعلي للإنسان المعاصر يكمن في طبيعة القيم التي تذيعها إعلاميا المنظومة الأخلاقية المصطنعة ) L?éthique préfabriquée vendue par tous les publicitaires ) والتي ترى في الالتزام الطويل الأجل وفي التعاقد المؤسس على قواعد واضحة وثابتة إمكانية للحد من حرية الإنسان, إنها منظومة أخلاقية تطالب الأفراد أن يكونوا أحرارا في تفاعلاتهم, وتعرض عليهم اللا-ارتباط (dé-liaison) كتحرر, وتلزمهم على التمرد ورفض كل التزام أو تعاقد غير مؤقت أو غير قابل للإلغاء. هذا ما جعل الإنسان المعاصر- كما يؤكد بومان- يعيش «تشظي الحياة»(5)؛ إذ هو على استعداد دائم للتأقلم والتغير والتحول, إنه يتطلع باستمرار للآتي حتى قبل أن يعي الحاضر, ينخرط في سيرورة الحياة ويستسلم لسيولتها, ويقبل أن يعيش حياة مجتزأة, يحيا من أجل ذاته ولمصالحه الخاصة والعابرة, دون أن يسعى لتبني فكرة تامة أو تصور مكتمل واضح عن حياته, فبالأحرى أن يمتلك - ما سمّاه سارتر من قبل- «مشروع حياة كاملة» تنشد الاستقرار والثبات. في نظر بومان، نجد داخل مجتمعاتنا الفردانية المعاصرة تسويقا لوهم الفرد الحر و»الفاعل الذي يختار» (Homo eligens) في استقلالية تامة عن الآخرين, بدعوى تمتعه بجميع المؤهلات التي تجعل منه «فردا بالفعل في الواقع» (Individu de facto)، فرد قادر على تجاوز معاناته ومآسيه وأزماته المعيشية, وعلى إيجاد حلول فردية خاصة به إذا ما تمركز حول ذاته الفردية وانشغل بقضاياه الخاصة واعتمد على قدراته ومؤهلاته الشخصية، أو بعبارة جامعة، إذا ما اعتقد أنه يعيش من أجل ذاته لا من أجل الغير، وأنه يحيا من أجل المصلحة والمنفعة الذاتية والتي لا مفر له منها. لكن بومان لم يتردد في جميع مؤلفاته عن إحصاء الخسائر الناتجة عن بناء المجتمعات الفردانية؛ ذلك أن إعلاءها من شأن الاستقلالية الذاتية ودفاعها عن الحرية الفردية اللامشروطة قد أقحم الإنسان المعاصر في وضعية البحث عن حلول فردية لمشاكل تقتضي حلولا جماعية، حيث نجده أكثر حرصا «على اقتناء مستحضر للتجميل يكون جيدا وذلك لحفظ جسمه من تلوث الهواء». لقد شكّك بومان في وجود حلول فردية لمشاكل معيشية ناتجة عن الحياة الاجتماعية المشتركة، يقول: « ليس من المؤكد تماما أن ثمة حلول فردية واقعية لمشاكل تشكلت اجتماعيا. وكما ردد ذلك بلا ملل كل من بيير بورديو (Pierre Bourdieu) وكورنيليوس كاستورياديس (Cornelius Castoriadis), فإذا وجدت إمكانية ما لحل مشاكل تولدت اجتماعيا, فإن هذا الحل لن يكون إلا جماعيا.»(6) إن إرادة إنقاذ الحياة من زوبعة السيولة والتمكن من خلق وضع وجودي تفاعلي يسمح للإنسان المعاصر من عيش حياة مستقرة وذات معنى أمر مكلف بالضرورة، إنه «ليس نظير وصفة خاصة لحياة سهلة ودون همّ كما قد يذاع إعلاميا من خلال الترويج لمنافع الاستهلاك»(7)، وإنما يقتضي الأمر، حسب بومان، منظومة أخلاقية أصيلة كفيلة بتخليص الإنسان المعاصر من وهم فردانيته، ومن الانفلات من تمركزه حول ذاته، ومن تقويض الدوكسا العامية التي توحي له أنه مؤهل وقادر على بلوغ حلول فردية لمشاكله المجتمعية دون تعاقد أو التزام مع الآخرين. إن بومان يقترح رؤية فريدة للحياة المعاصرة، رؤية تحكمها قيم أخلاقية أصيلة؛ ورغم كونها قيم مكلفة، إلا أنها سبيل إنقاذ حياتنا. فما هو أخلاقي أصيل مكلف، لأنه يدل على «الوجود من أجل الغير..(ويطالب الإنسان) بالتضحية بالذات من أجل كائن إنساني آخر.. فلا يمكن مثلا أن يمتنع عن التضحية بالذات ويتوقع في نفس الوقت أن يعيش «حب حقيقي» وهو ما نحلم أن نعيشه جميعا.»(8) إنه لا ينبغي أن نلج عالم القيم من باب الخوف على منافعنا الذاتية ومصالحنا الفردية وإنما من باب الحب والعشق لما هو أخلاقي في ذاته(9). فأن نعيش مع الحياة علاقة حب عميق ودائم ومستقر يعني أن نمضي في البحث عن الطيبوبة بدل المنفعة؛ فهذه الأخيرة «تسمح بتبرير أي عمل فظيع باسمها، بخلاف الطيبوبة التي تعني الإنصات للغير» (10). تدفع الطيبوبة الأفراد للحوار ولبناء تعاقدات متينة والتزامات دائمة، بينما المنفعة تجعلهم في حالة صراع، في حالة تأهب لإلغاء كل اتفاق ولإيقاف كل علاقة. يصر بومان إذن على أن إدراك معنى الحياة الإنسانية رهين بالبحث والعمل على تحصيل الطيبوبة، وبالسعي لتعلم العيش في خضم الاختلاف، وبالحرص على إبدال مشاعر «الخوف من الاختلاط والتفاعل»(mixophobie) بمشاعر «حب الاختلاط والتفاعل (mixophilie) (11) . أن نفهم الوجود كوجود من أجل الغير لا من أجل الذات، وأن نحل الطيبوبة محل المنفعة، وأن نوقف الصراع ونقيم بدله الحوار، وأن نمتلك مشاعر التفاعل مع الغير المختلف لنسج تعاقدات والتزامات أخلاقية مسؤولة معه ولربط علاقات الود والحب الدائم والعميق في أفق بناء وحدة ثقافية إنسانية منسجمة، فذلك ما يسعفنا، حسب بومان، لإعادة المعنى للحياة المعاصرة، ويسمح لنا بأن نحياها بكيفية أخلاقية أصيلة بعيدا عن الثقافة التقنية التي ألحقت بحياتنا اليوم طابع السيولة، فخلفت العديد من المصائب في مجتمعاتنا الفردانية، وجعلت من اللاستقرار خاصية للوجود العلائقي للإنسان المعاصر. المراجع: (1) ولد زيكمانت بومان سنة 1925 ببولونيا، درس بجامعة (Varsovie)إلى حدود سنة 1968. استقر بعد ذلك بالمملكة المتحدة حيث أصبح أستاذا بجامعة (Leeds)، عرف بنقده المنهجي لما سماه «الحداثة الأولى» في مؤلفه »Modernité et Holocauste « (1986)، وتابع نقده ل»الحداثة الثانية» أو حسب تعبيره Modernité « » liquide في العديد من مؤلفاته، نذكر منها: »Le Coût humain de la mondialisation, Pluriel, 2009. « » Le présent liquide, Peurs sociales et obsession sécuritaire, Seuil, 2007 « » Vies perdues. La modernité et ses exclus, Payot, 2006. « » La Société assiégée, Pluriel, 2005. « (2) Bauman (Zygmunt), » La Vie liquide «, Ed. Chambon, 2006. (3) ---, » Vivre dans la «modernité liquide» «, Entretien. Voir, Sciences Humaines, N? 168, Novembre, 2005, p.34. (4) ---, » L?amour liquide : de la fragilité des liens entre les hommes «, tr. Christophe Rosson, Ed. Pluriel, 2010, p. 8. (5) ---, » La vie en miettes. Expérience postmoderne et moralité «, tr. Christophe Rosson, Ed. Pluriel, 2010. (6) ---, » Vivre dans la modernité liquide « op. Cit. p.36. (7) Ibid. p.35 (8) Ibid. (9) ---, » La vie en miettes. Expérience postmoderne et moralité «,op. Cit. p.32 (10)---, » Vivre dans la modernité liquide « op. Cit. p.35 (11) Ibid. p.36. على أساس أطروحة الفراغ إذن، بذل مجهود ليس بالهيّن من لدن وريثي التقليد الفلسفي الأفلاطوني سعيا منهم لجعلنا ننسى أنّ لنا أجسادا: فالفلسفة المثالية، الروحانية والأفلاطونية، قامت دوما ضدّ الفلسفة المادية، الشهوانية والأبيقورية؛ فالتقليد الفلسفي السائد على طول الشريط التاريخي، تقليد ما فتئ ينتصر للمثال الأعلى الزهدي، مقلصا بذلك من قدر الفلسفة المتعية باعتبارها لا فلسفة، بل هي عامية وغوغائية حتى. لنتذكر بالمناسبة التوصيف الرواقي للفلسفة الأبيقورية: فهي بنظرهم فلسفة خنازير لا غير. وهو التعبير نفسه الذي وظفه «هوراس» تبخيسا بالطبع للأبيقورية وحطّا من قدرها كفلسفة جسد ليس إلا. لكن والحالة هاته، ماذا لو وقفنا عند الدلالة الفلسفية لهذا الحيوان بالذات؟ لماذا الخنزير لا غيره من الحيوانات؟ ردّا على هذا السؤال، علينا استحضار التقليد الفيتاغوري وكذا الأفلاطوني بحيث «أنّ الروح بنظرهم تعود بعد الموت لتتقمّص جسدا فاضلا على نحوٍ ما نكون قد عشنا حياة فاضلة، لكنها قد تتقمص جسد خنزير إذا كنا قد عشنا حياة قدرة ابتغيناها، تسودها الملذات والرغبات، النزوات والأهواء. ذلك أن روح الفاسق تنفصل عن جسده عندما يموت لتتقمص جسم حيوان يرمز للدناءة والحقارة الملموسة في سلوكه»(2). لكن لماذا الخنزير بخاصة؟ لأنّ بنيته الفزيولوجية تحول دونما التفاته تجاه مصدر الفكر: السماء المرصعة بالنجوم العزيزة على قلب كانط. فهذه البنية هي ما يجبر الحيوان بالتالي على التنقيب في الأرض بفنطيسته، وقدره إنما هو المحايثة ليس إلا. فالخنزير حيوان أرضي بامتياز، يحيى وأقدامه لا تبرح الأرض بله وفي عمق الطين ذاته. فهو إذن ما يجسّد البعد المادّي للحياة حتى أنّ كل امرئ يسلك سلوكا مادّيا سرعان ما ينعت بأقبح النعوت، من قبيل وصفه بلغتنا الدارجة «بالحلُّوف». فأن يكون المرء ماديا إهانة. فالمادي إنسان إذ لا يؤمن بالروح ولا بعالم المثل يتشبّث أيما تشبّث بكيانه الذي ما بعده كيان، أي بجسده لا غير. هذا الجسد الذي أسيء تقديره على مر العصور، فطاله لا النسيان والإهمال فحسب، لكن التبخيس والتجديف أيضا. يكفي على سبيل الذكر أن نستحضر الرؤية السائدة طيلة تاريخ الفلسفة الرسمية بدءا من أفلاطون حتى هيغل (الذي ظل يكنّ حقدا جاما للمادية أنظر»دروسه حول تاريخ الفلسفة» )مرورا بترسانة من المفكرين اللاهوت حيث لم يكن الجسد يتمثّل إلا كعدوّ، سواء عند أفلاطون الذي يكره الجسد لأنه يتغذّى مقيما المفاضلة لأجل روح سامية تروم التوحّد بالواحد الخيٍّر، أو عند كانط الذي انتهى عبر نظامه التراتبي للحواس إلى إيلاء حاستي النظر والسمع أولوية لا تضاهى، مادامتا بحسبه أساس إدراك الحقيقة في شموليتها، مما تولَّد عنه اعتبار الرسم والموسيقى فنّين عظيمين، بيد أنّ الحواسّ الأكثر بعدا ماديا كاللمس والذوق والشمّ، تأتي في المراتب الأخيرة بله كل ما يرتبط بها كالطبخ وصناعة الخمر والعطور لا ترقى إلى أن تكون فنّا. على منحى هذا النهج الأفلاطوني-اللاهوتي إذن، لاشيء مرغوب فيه عدا الموت «فحلم أفلاطون هو فصل الروح عن الجسد المدنّس، والفيلسوف الأصيل في اعتباره هو من يكتنفه نزوع حقيقي للموت حيث بذلك فحسب يتميّز عن باقي البشر»(3). على هذا النهج، ألا يكون المذهب الأفلاطوني هو الذي شيّد منذ خمسة قرون برنامجا لتبرير مذهب الصلب الذي هو مذهب المسيح، وبالتالي باقي مذاهب التعديم التي لا نزال نعاني ثقلها اليوم؟ كيف إذن يمكننا فهم حضارة تقوم على تمجيد كلّيّ للعدم والموت؛ اللهم إلا إذا أتبتنا طابعها الظلامي أي المعادي للحياة. فالظلام إن كان يدلّ على شيء فإنما يدلّ على منحى الاستعباد والامتلاك، الهيمنة وحبّ التملُّك. الظلام إذ ينتصر لغريزة الموت فلأنه لا يقوم إلا ضد ما هو شمسي، مادام الشمسي على حد تعبير ميشال أونفراي يفيد كل ما هو تحرُّري ويعيد ارتباطنا بالحياة. ذلك أن هذا الطابع الظلامي الذي لايزال يمتثل كجوهر حضارتنا اليوم هو من أسس قواعد نظام شبقيّ ليليّ بدل نظام شبقيّ شمسيّ. وشتّان مابين النظامين. إذ بقدر ما يروم الأوّل تكبيل قدرات الجسد وتقليص مساحات الرغبة بقدر ما يروم الثاني خلق إمكانات جديدة لتحقيق الرغبة وتحرير الجسد. فالنظام الشبقي الليلي يقيم الجماعة ضدّ الفرد ويحتكم منطقا الكمّ ضدّ الكيف. إنه أساس الترسيمات السائدة المعدّة سلفا للقطيع والدهماء الغوغاء والأجلاف. فحيثما تزعم الحضارة أنها تكوِّن أجيالا حرة وواعدة، فهي لا تعمل بفضل هذا النظام، في واقع الأمر إلا على صنع أناس طيّعين وأجساد خاضعة سياسيا ومجدية اقتصاديا. فرق شاسع إذن بين تصوّر شمسي للرغبة محرِّر وتصور ليلي قاتل. فالتصور الأول لا يقوم ضد الثاني إلا لأنه يروم صنع أناس أكثر تحررا في علاقتهم بذاتها. ذلك أن الإنسان الحرّ عكس العبد تماما، هو من يحيى بلا أحكام قبلية، بلا أستاذ ولا وصيّ جبّار، بلا خوف ولا رعب مادام لا شيء يحكمه وله أن يخضع لمنطقه. الحرّ يروم توسيع قنوات توليد الرغبة خارج كل الطابوهات، ويسعى إلى بناء جنسانية هي غاية ذاتها لا تروم غير متعة الإغواء والإنفاق، داركا أن باستطاعته استهلاك طاقته الجنسية واستنفاد قدراته الجسمية على نحو متعوي خالص. والحال أن هذا كله طريقة في العيش على نحو فنّ الغندرة المنبوذ من لدن العبد مادام بحسبه مجرد تكبر وتعالٍ. فالغندور إذ يدعونا إلى التعاطي مع الأخلاق كنشاط فني، أي كمجال للمزيد من التأنق والتبختر سعيا وراء بناء ذات متفردة، هوسها الكيف قبل الكمّ، والجمالية لا الدناءة، فليس إلا لأنه من يدرك الحياة كلحظة تستوجب حسن الاستثمار خلافا للعبد الذي يعانيها كعبء. وبقدر ما يختار الغندور نهج المتعية أسلوبا يستشعر فيه الحياة من حيث هي ما يستوجب أن تعاش قبل فوات الأوان وحلول الموت، يركن العبد مستسلما للسكون، منتظرا لا الموت فحسب بل ما بعد الموت في رعب كئيب. الغندور إذن نموذج النظام الشبقي الشمسي بينما العبد نموذج النظام الليلي. الأوّل يحبّذ هيراقليطس ونهره الانسيابي، بينما الثاني مشدود لدائرة بارمنيدس الثابتة. ومادام الغندور يدرك أيما إدراك أننا لا نسبح في النهر مرتين، فحكمته في الحياة هي الاستثمار الجيد للوقت، بله والتحرر من كل العراقيل التي تحول دونما بناء المرء لذاته واللوذ بحياة سعيدة؛ فهو من ثمة من لا يضع شيئا يعلو عرشه الذي هو عرش الحرية على اعتبار أن»الإنسان الذي يعجز عن تخصيص ثلثي وقته لنفسه، ليس بإنسان حرّ»(4).وهي بنظري مدة تكفي لاستعادة المرء لذاته مخاصمتها ومصالحتها إذكاء للحواس ضدّ ما يطالها من بلادة جراء انغماسها في الخيوط العنكبوتية للترسيمات المهيمنة. وبالمناسبة، إذا كان قياس الزمان اكتشافا، يعود الفضل فيه لأهل الدين والتجار، فليس إلا سعيا منهم وراء إخضاع كل إرادة حرة: الأوائل من أجل الصلاة والآخرون من أجل العمل والإنتاجية (5) ، فليس من السهل أن يستفرد الشخص مع هؤلاء لا بوقته ولا بجسده: كيف والاستيقاظ وكذا النوم، يتوقفان على الآذان لا بل ومسار اليوم كله، لأن كل شيء يجب تأجيله أمام مواقيت الصلاة. فهل بوسع الجسد أن يكون مع سيادة منطق الصف والتراتبية، حيث لا نساء فضلا عن قانون المسنين الذي بموجبه يحتل الكبار سنا الصفوف الأمامية؟.»فالسجود مثلا يستوجب الانبطاح الكلي للجسد، بحيث العظام السبعة ينبغي لها أن تبقى في تماس مع الأرض: الجبهة والكفّان والركبتان والأطراف الأخيرة للرجلين «(6). النتائج الحتمية بعد هذا كله إذا ما أضفنا له كدّ العمل، هو فظاظة الشهوانية واخشوشان أعضاء الجسد، لا بل كذلك إصابة الأعضاء التناسلية بالعيّ، تركا لبقية الجسد حرا طليقا لغاية استخدامه كأداة للإنتاجية والعمل لا غير. ثمّة إذن ترسانة من الطقوس تعمل ضمنيا من أجل التطويع الكلي للكائن قد نورد منها فضلا عما سلف الختان، بحيث أنه بالرغم من عدم وروده في القرآن أقحم بالقوة كسنّة وغدا معيارا حاسما في الانتساب للأمة، وهو الشأن نفسه عند اليهود بينما الختان عند المسيحيين يتجاوز مجرد ترك بتر على الجسد، ليضحي مسألة خصاء عقلي. مع المسيحية لم يعد الختان شأنا ذا صلة بالواقع أكثر مما عاد وهو المهم مسألة طهارة القلب. وهي طهارة تستوجب تخليص الجسد من كل خطايا المتعة. من ثمة كان التعميد، لكن وكذلك التزهد اليومي اقتفاء لأثر حياة المسيح وآلامه .»فمع القديس «بول دي تارس»يحافظ المؤمن بقضيبه، هذا ما لا شكّ فيه، لكنه يفقد جسده كليا»(7).على هكذا منوال تسود غريزة الموت العالم بأسره ويكتمل فيزيقا وأد الجسد. فماذا يتبقى من هذا الذي ندعوه جسدا، حالما استحضرنا هذا التاريخ الطويل من إكراهات الصلب المتواترة منذ قصة الخلق؟ حيث الرغبة ظلت دوما قرينة بالمسّ الشيطاني وحيث الجنس مكث مظلما، لا نحياه إلا كلعنة وعبء. ماذا سيتبقى لنا كذوات حالما بقينا نعتبر المتعة واجبا اجتماعيا، بله وفي أفضل الأحوال عيدا لا نستطيع الاحتفاء به إلا بموجب صدور مرسوم إداري؟ لاشيء غير الفراغ، الذي استشعر خطورته آرطو. من ثمة ضرورة استحضار الفلسفة لا كنهج لبناء القضايا وطرح السؤال فحسب، بل أيضا كمنهج لإيجاد الحلول. حلول نحن أحوج ما نكون إليها، خلقا لإمكانات حياة جديدة، يغدو فيها نوع من «التعاقد المتعوي» ضروريا، حتى تضحى المتعة القاسم المشترك ما بين الناس على نحو قاعدة «الإمتاع والاستمتاع»تفاديا للكآبة والألم المجسد للشر المطلق بله للسلبية ذاتها. فأن لا يحيى المرء حياته على نحو أفضل جرم هو وحده المسؤول عنه . الهوامش: (1)Michel onfray,Le désir d?être un volcan,journal hédoniste1,éd.grasset,1996.p.396. (2) ما معنى أن تكون أبيقوريا اليوم؟حوار مع ميشال أونفراي .ترجمة حسن أوزال.موقع الأوان . (3)Platon,Apologie de socrate phedon (64b),trad.et notes par E.chambry Ed.garnier Flammarion (4) Michel onfray,Le désir d?être un volcan,journal hédoniste1,éd.grasset,1996.p.76-77 . (5)idem.p .398. (6)Onfray Traité d?atheologie,physique de la metaphysique,éd.grasset 2005.p.114. (7)idem.p.153-154.