ذات سنة غبراء من سنوات الرصاص أو الرهاب، سوف تسقط نجمة قريبة في براري سماوات بعيدة معلنة بزوغ فجر أغاني فتية مجموعة: جيل جيلالة، إلى ذلك الحين كانت الأغنية العصرية، قد استنفدت وظيفتها، تحللت وتفسخت في ما يشبه الموت، وتحولت بالتالي إلى غلة في الأذن والوجدان، كانت الأغنية المغربية «الحقيقية» مطمورة في الإقصاء المذموغ بالسياسة «الرشيدة» لواقع الحال، تحتاج إلى: درس في التخريب: من القدرة على استنهاضها وإعلاء شأنها في العالمين. ولم يكن هذا الدرس في التخريب المرتجى، غير إعلان حركي عملي يروم الانتباه للكينونة وتدبير شأن المصالحة مع الذات ومختلف مكوناتها الحسية من غيرها، ولم يكن في دنيانا الممهورة بصولة الاستبداد آنذاك، غير المجموعة الرائدة ناس الغيوان، وقد نصبوا خيمتهم/ خيمتنا الضاجة في العلاء على مشارف الاعتقالات/ التعذيب/ السجون والاختطافات.. ولم تكن هذه الخيمة/ خيمتنا تحتاج لغير تكريسها وترسيخها، وفق منطق التطور التاريخي، فكانت بروز نجمة فتية/ مجموعة: جيل جيلالة، والحقيقة أن الأمر يبدو كما لو تم وفق قدر محتوم. فتية من البها كما لو منذورين في مسألة أبدية/ لا تحتمل التأجيل: يترجلون من لوحهم المحفوظ ويهلون على دارة الدنيا ليخلبوا الألباب بتراتيل غنائهم وإنشادهم: أقول ذلك على خلفية استقلاليتهم وانتمائهم لغير مؤثثات أرواح الجغرافيا المغرب الذاهب الى أين؟ والحقيقة أن جيل جيلالة والغيوان، على الخصوص، لم يهلوا ليخترقه مجال أسماعنا بالغناء البهيج المذموغ في عمقه بتجسير الهوة بين ذواتنا/ على مستوى الوعي والإدراك، ومحيطنا وما يعتمل بداخله فحسب، بل إن رسالتهم الفنية الجمالية، كانت مشغولة بشكل خفي ألى جانب «الغناء الجديد»، بمشارط الجراحة وعمليات الترميم والمصالحة، وهو أمر يتجاوز الغناء العادي، كلما تعلق الأمر بأذن تعاني من انحطاط مديد لأغنية عصرية من غير عصرية هابطة حد الرذالة. تذكروا أن عمليات الترميم و الجراحة هاته، كانت تتم في سياق تداول أغانيهم، مناقشتها، تفكيك دلالاتها ورموزها. تذكروا أن كل هذا كان يشبه التطهير، والتخلص من أدران أغنية عاثت فينا فساداً، وهو الأمر الذي أدى نسبياً لمصالحتنا مع وجداناتنا، مصالحتنا مع القيم النبيلة: الحب/ الوفاء، الإخلاص للمغرب الذاهب إلى أين؟ على بساط غلاف الكتاب: عندما غنى المغرب. وفي الصورة: مولاي الطاهر الأصبهاني، وهو الجناح الخافق من سمو طيران جيل جيلالة الشاهق حد الأرض، حد مباهج نخيل، مراكش التي في البال أغنية، ومولاي الطاهر، محور هذا الكتاب الذي ألامسه أمامكم، ممثل شامل: غنى وأضحك وأبكى. ولعل الصديق الذي لابد منه، والصحفي: العربي رياض، مشكوراً عرف بدربته ومهنيته العالية، كيف يقبض على المسار المُلولب لفنان من عيار ثقيل ظل أبداً في خلفية الصورة، وإذا كان لي أن أتحدث على هامش الكتاب السفر الجميل عن الأصبهاني: فسوف أقول، إنه بصم الأغنية المغربية، بما يشبه خفته صوت الروح. لاحظوا أن الرجل لا يغني، لا يرفع عقيرته أبداً، بل يشتغل على متواليات أوجاع التنهيدة، شأن هوية الحرير الذي لا يعلن عن أصيله ولا فصيله، شأن «العسل الذي لا يحتاج إلى برهان». والغريب أن الفنان بامتياز الأصبهاني، طالما نفض عنه صفة: المغني أو المطرب، والحقيقة أنني وحدي المتعدد، التقط هذه الإشارة الغمزة التي تتطابق وبنية نظام تفكيري، كلما تعلق الأمر بزحمة مغنين نواحين ومطربين حين لا طرب غير مآثم البهجة. دعوا قليلا أخبار القتلة في سوريا وغيرها، واركبوا قليلا مجرى نهر ما يشبه السيرة الملتهبة للأصبهاني، المتفرعة عن جداول تليق بنا وتشد أزر ذاكرتنا الفنية العاطفية الماضية، المنظورة اليوم في حاضرنا، وستدركون أن هؤلاء الفتية جيل جيلالة، كانوا وسيظلون سباقين لإعلان شأن هوية المغرب عندما غنى، ومروا سلاماً على المقدمة القصيرة كالعمر القصير، لرجل إطلاق سراح اللغة: ادريس أبو زيد حين لا مجال لأي تعليق.