1 - في الحاجة إلى ثقافة النقد تحتمل العلاقة بين الذات والآخر أكثر من وجه. ولأن من الطبيعي أن تقوم كل علاقة على حوار، فإن الأخير ما يلبث أن يتسرب قبل أي شيء آخر. الموضوع إنساني بامتياز، لذلك لا نعدم أن يستعيذ الحوار بدفء الإنسان، ذلك القادر على أن يمنح للموضوع أكبر قدر من الاعتراف. الوجود، نفسه، اعتراف، وإلا فإن أمام المرء أكثر من فرصة ليقرر في مصير وجوده. الحوار يختزل حقيقة السلوك الاجتماعي، على أساس أن الحياة إرث إنساني يقرر مستقبلها الجميع، ولو بأقدار متفاوتة هنا وهناك. بمجرد الحديث عن الحوار، تكون الطريق سالكة لكل المعاني النبيلة: التقبُّل، الاحترام، التسامح. وإذا كان الحوار يستهدف البناء، فإن التقبل والاحترام والتسامح تستهدف تأثيث ذلك البناء، بحيث يصير قادرا على استيعاب قلق الإنسان، تفكيره في غربة الوجود لديه، مصير الحياة الذي يقض مضجعه بأكثر من سؤال. الحوار يصير نقدا أحيانا، حين يكون الهدف إخراج الآخر من برودته، من لامبالاته المُستفِزة. بيت الحياة يقيم فيه أكثر من ساكن، بما يجعل تبادل تحايا الصباح/ المساء، عند كل انصراف أو قدوم، التمرين الأول في أبجدية السلوك البشري. لنُسَمِّ الأمر ثقافة أو حضارة، إلا أن الأمر لا يعدو، في نهاية المطاف، تدشين أفق لحوار ما. هاهنا، ينبثق السياق حافلا بغير قليل من الحوارات: حوار الشعوب والثقافات، حوار المجتمعات والأديان، حوار النصوص والآداب، وغير ذلك مما قد يُبادِر إليه الإنسان بهذا الشأن. والشعر ليس ببعيد عن هذه اللغة: فاللاعب يحاور الكرة، مثلما يحاور النحات العجين بيديه. يختزل الحوار معنى الرُّفقة: الرفقة في الحديث. وكيفما كان عموديا أو أفقيا، بالمعنى التربوي، فإن الحوار أدعى إلى السكينة والطمأنينة. كل حوار يختزل رفقة ما، بالمعنى الذي يجعل الطريق تقود إلى نهايتها بكل سلاسة. الحوار يحد من غلواء الصراع إلى أقصى حدّ. الصراع في الحوار عنصر بناء، وليس هدفا مقصودا لذاته. في هذا الإطار، تعثر فنون الدراما على عنصر وجودها الحيوي. الحياة مسرحية في حقيقة انبثاقها وامتدادها. النقد وسيلته الحوار أيضا، غير أن الأخير لا يكون له معنى بدون بُعده العمودي. ومن ثم، نجد للنقد بعض النتوء، ما يقتضي قدرا من التطويع/ التسويغ، حتى يتم تقبل أي نقد من أي اتجاه. إذا كان الحوار ينزع إلى ما هو فطري/ طبيعيّ، باعتبار لزوميته للغة، فإن النقد ينزع إلى ما هو تطبعيّ/ ثقافي. التواصل ضروري بينهما، باعتبار التدرُّج بين ما هو أوليّ وما هو تكميلي.. بين ما هو عفوي وما هو صناعيّ. - هل نحن بصدد التمييز بين الطبيعة والثقافة؟ كل نقد يتضمن حوارا ما، وليس العكس صحيحا إلا في حدود دنيا. من هذه الناحية، يبدو المجتمع، الذي بلغ درجة من النقد/ التناقد، المجتمع الأكثر نضجا في أسباب ثقافته. اتجاه الإنسان، من بعض إلى بعض، كان عبر الحوار بدون شك. غير أن لحظة الاكتشاف الأولى، سرعان ما اتجهت إلى مرحلة أبلغ رقيّا: مرحلة بناء الإنسان في تجاذباته/ حواراته المتعددة. من هذا النحو، يمكن الخلوص إلى تصور آخر لتأريخ الفاعلية البشرية. النقد يستلزم لغة أكثر حدة من الحوار. ظاهريا، يبدو النقد محمَّلا بقدر من الصرامة، لأنه يفترض تسمية الأشياء بأسمائها. إنه يتجه إلى الآخر بدون مواربة. وحتى لو استعان بالحوار، فإن الهدف الذي يسير إليه النقد يظل نفسه منذ بداية انطلاقه. إنه يقدم شخصه على أنه نقد، من بين أهدافه إخراج الآخر من مكمنه: تعريته بعبارة أخرى. بحوار أو بدونه، النقد يُعرِّي في أصل وظيفته. لا نسير إلى جانب، مثلما نحاور، ولكننا نقتحم لكي يستقيم النقد لدينا. الاقتحام من الداخل أصدق تعبيرا من السير إلى جانب. ولذلك، فإن النقد عملية مُباطِنة في حقيقة أمرها. تمييز الجيد من الرديء في العُمْلة، ليس من شأن أي أحد كيفما كان. وإن بدا أن في الأمر تركيزا على الظاهر، إلا أنه لا يجوز الاستغناء عن خبرة « جوانية» معينة. غالبا ما يصل الحد إلى الاستعانة بالصيرفي في سوق العملة، قدر ما يصل إلى الاستعانة بالناقد في سوق الأدب. المسألة جدية، مادامت تنتهي إلى تقييم: جيد أو رديء. أكثر من ذلك، المسألة خطيرة بانطوائها على حكم.. حكم بإعدام في أحيان غير قليلة. ولذلك، نجد للنقد كثيرا من الهيبة، من قبيل التي نحسها في قاعة المحكمة. الهيبة المحسوس بها ذات صلة بالآخر، سواء كان ذاتا أو موضوعا. ولأن النقد غالبا ما يتجه إلى الغير، فإن حيويته كثيرا ما يبدو أنها تكتسب معنى تصفية الحساب.. انتقام من هذا الذي يستفزنا باختلافه، بمغايرته غير المُريحة لنا. تعريته يصير لها، أحيانا، معنى قتله. هاهنا، يتحدث البعض عن النقد الهدّام في مقابل النقد البناَّء. الفرق يكمن في فعل النِّية المُنطوية.. في الطريقة ( المعقوفة أو الناتئة) التي يجري بها ذلك النقد. - هل ينحدُّ النقد البَنّاء في تعديد الإيجابي والسلبي سواء بسواء؟ أعتقد أن الناقد، حتى وهو يُعرِّي بالمعنى السلبي، إنما يبني بالنتيجة. على المنقود/ المنتَقَد أن يوفر الطاقة لاستقبال النقود. طبيعي ألا نكون في حاجة إلى طاقة، حين نحس أن السهام غير ذات بأس. غير أن في نفوذها الغائر، يمكن تمييز النقد البناء من غير البناء. والمحاولات الأكثر شراسة، في تصديها لتلك السهام الناقدة/ النافذة، لهي خير مُعَبِّر عن حقيقة الآثار الحاصلة لدى مُستقبِليها. ردود الفعل، متجلية في السخرية من الناقد حينا، أو في ادعاء اللامبالاة به حينا آخر، لا يمكن أن تنطوي إلا عن واقع إيلام نقوده المُصوَّبة. النقد إيلام، إيجاع بعبارة أخرى. ومن ثم، فكل نقد حقيقي هو فعل قسوة: قسوة تَلَقِّي سهام البرد في العراء. يبقى لكي يتحول النقد إلى إيجاب، أن نحتفظ ببعض من تلك الطاقة، للاستمرار في تدارك سهام النقد.. ألا نَخِرّ صرعى بالضربة القاضية. وإلى هذا النحو، كثيرا ما كان يتجه كلامنا: الضربة التي لا تقتل تحيي. إن نقد الآخر، ممثلا في شخص أو نص، في قيمة أو مؤسسة.. لهو دليل اهتمام بما يقع في حدود المشترك، باعتباره مجال حيوية بين الناقد والمنقود. لذلك، فإن النقد، بصفته تعرية، يعتبر الخطوة الأولى في مسار عملية الفهم/ البناء.. فهم الآخر من جهة، و بناء ذواتنا من جهة أخرى. ليس من حقنا، اليوم، إنكار أن ثقافة العُري غدت تنتصر على ثقافة الحجاب في أكثر من حلبة ومضمار. عري الجسد بهذا الخصوص، لا يمكن أن يستقيم إلا بموازاة عري الباطن. أن يتملّى المرء تفاصيل جسده عاريا، لا يوازيه إلا أن يرى حقيقته مجردة.. لا لبس في معناها. باختصار، لكي نفهم ينبغي أن نُعرِّي. ليس ذلك وحده، إن لم نضف إليه: أن نتعرّى.. ونحن نُعرِّي. 2 - النقد الذاتي أو النقد الأليم لا يستقيم النقد إلا بالنقد الذاتي. ينبغي للنقد أن يستوفي مداه: الذات، وإن في مرحلة ثانية. تُتَصور الذات، في غالب أحايينها، في موقع المُبايِن للموضوع. هذا هو المجال الأثير للنقد بمفهومه التقليدي. الذات تنقد الموضوع، ليس في الأمر أية مُخاطرة. العملية منطوية على يسر وسلاسة، مادام النقد يدغدغ فينا الحاجة إلى تناول الآخر/ البعيد نسبيا. إلى حد هاهنا، نجح كثير من النقد المُسلَّط على الغيريّ. إننا ننتقد، ونحن أشبه بحيوان جائع. يبدو في الأمر شراهة أكثر منها جراءة. لا تعوزنا الأمثلة من تاريخ النقد: نقد المجتمع، نقد الأدب والفن، نقد الأفكار والأخلاق، وغير ذلك. من جهة مقابلة، لا نعدم أن نجد الذات تنطوي، في موضوعها النقدي، على الذات نفسها. إنه نقد مركَّب.. يصير فيه نفس الطرف الذات والموضوع في الآن الواحد. النقد، بالمعنى التقليدي، صار أدعى إلى الكسل، بل إلى التبجح أحيانا. الجميع ينتقد الجميع، بصورة فيها قدر من الآلية في كثير من الأحيان. وفي المجتمع التقليدي، غالبا ما يؤول النقد إلى مجرد ادعاء. يغيب العقل عن الممارسة النقدية، مع أنه شرط لا وجود لهذه الأخيرة بدونه. فحيوية المجتمع، كيفما كانت طبيعته، رهينة بحيوية فعل النقد العقلانيّ. وبالرغم من أن الممارسة النقدية قديمة تاريخيا، إلا أنه لشد ما اقترن أوج هذه الممارسة بمجتمع الحداثة. لا يكتسب النقد معناه الصريح، إلا بوجود فكر الحداثة وأخلاقها. - فماذا نسمي كل تلك الممارسات النقدية، الموصوفة بالعربية، على مرّ التاريخ؟ إننا، ونحن بإزاء بعض تلك النقود الذاتية، نلفي أنفسنا بإزاء ممارسة نقدية جريئة. الأمر يتعلق بالدرجة الممتازة من النقد: تعقُّل الذات لذاتها عبر تسليط النقد عليها. التعقل يبلغ ذروته حين يقترن بمدى أقصى من الجرأة. إن لم تكن الجرأة بذلك المدى، فعلى الأقل بحجم ما نستطيع تصويبه إلى الآخر في غاراتنا النقدية. ينبغي تلافي كل تكاسل أو تقاعس بهذا الخصوص. الأمر مرتبط، هنا، بتحصيل الدروس على مستوى التطبيق. لا أحد يريد أن يكون معنيا بقول الشاعر، حتى وإن على سبيل الإيحاء والتمثيل: لاتنهَ عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم النقد الذاتي حاجز طبيعي في وجه كل طمأنينة شخصية. الطمأنينة تتماهى مع معنى الخمول، بل الجمود بدرجة أشدّ. ولكي يظل المرء حيًَّا، بما تنطوي عليه الحياة من توثُّب، ينبغي المواظبة على تحصيل الحصيص اليومي من النقد الذاتي. بالنسبة للبعض، الحصة الأثيرة يحين موعدها بحلول الليل.. في شكل حصيلة تستلزم جرد الحساب، قبل الخلود إلى النوم عادة. إلا أن أهمية الموضوع من جهة حيويته، تقتضي أن يكون الموعد مفتوحا على مختلف الأويقات.. بالمعنى السيّار للنقد، أو بالمعنى المؤسسي. إلى ذلك، لا يكون للنقد الذاتي قوة من غير الدلالة على الفضيحة. أهمية النقد الذاتي تتجلى في القدرة على فعل الفضح أساسا. لا يقتصر الأمر على تجريد علاقة، تكون الذات موزعة بين عامل وموضوع فحسب. الأمر، بخلاف ذلك، رهن بطبيعة تلك العلاقة..التي لن تحيد عن مستوى المُجابهة. في هذا الإطار، يعتبر السرد بضمير الغياب غير مفيد من هذه الناحية. ضمير الحضور أنجع، بالنظر إلى علاقة التقابل في ترتيب مواجهة الذات بموضوعها/ ذاتها. التعرية تغدو مطابقة لفعل الفضح، بدون استثناء لأية إيحاءات أخلاقية حتّى. السرد بالغياب يكاد يطابق فعل العادة السرية. الاسترسال يتحكم في العملية من بدايتها إلى نهايتها. أما السرد بالحضور، فإضافة إلى كونه مُجابهةً، تكتسي الرواية فيه بعدا علنيًّا. إن السرد الثاني يجري نهارا جهارا، باعتبار تربص الفضيحة به في كل وقت وحين.. سرد يتم بحضور الذات، الساردة/ الفاعلة بعبارة أخرى. السرد بضمير المتكلم، بالمضمون النقدي، يكاد يغيب عن ثقافة الاعتراف لدينا. والعلامات المضيئة، في الأدب والفكر العربيين المعاصرين، يمكن تعديدها عبر أصابع اليد الواحدة. والواقع أن السيرة الناقدة ستظل عنوان تحد لكثير من الأدباء والمفكرين العرب، بفعل جرأتها التي تخطت كثيرا من حدود المجتمع المحافظ. التحدي الأبرز هو تحدي الذات لذاتها، أي في تمكينها من أن تقول ذاتها بصدق.. وفي قولها ذاك، تقول مجتمعها وما يعتريه من علل وطابوهات. والسبب في ذلك أن ثقافة النقد الذاتي ليست متوفرة لأي كان، حين تكون عنوانا على الجرأة والمغامرة والأصالة في الطرح والتناول. ولعل الدافع إلى هذا النقد، سواء كان منصرفا إلى ذات فردية أو جمعية، لهو الإحساس بضرورة التخطي والتجاوز. - أو ليس الفكر/ الأدب حصيلة سير ذاتية/ عقلية لأصحابه، حين يجابهون أسئلة معينة بوعي نقديّ هاجس؟ الحاجة إلى النقد الذاتي تسير بعكس الحاجة إلى تقريظ الذات. الأخيرة لا تنحدّ بحدود الشخصيّ، وإن كانت تضمه وتستوعبه لا محالة. كل ما يمكن استيعابه من قِبَل هذه الذات، يصير عنصرا مميزا لشخصيتها: الدين، اللغة، التاريخ، الجغرافيا، الخ. النقد في سلوكه وفلسفته، أكبر دافع إلى التحلي بالنظر النسبي. وليس بجديد القول إن الطريق إلى المستقبل تمر عبر هذا النظر النسبي تحديدا. هذا النظر يحتمل الخطأ، إن لم نقل يطابقه في بعده التربوي، القائم على مبدإ «من الخطإ نتعلم». البعد النسبي، من الناحية العلمية، يؤول إلى تواضع من الناحية الأخلاقية. هكذا، نصير بإزاء مبدإ آخر، يمكن ترجمته على النحو التالي: لا علم بدون أخلاق. العالم لا يصير عالما من دون التحلي بأخلاق النسبية. وتبدو الحاجة إلى هذه الأخلاق ضرورية في المجتمع التقليدي، بالنظر إلى غلو الذات بالنسبة للآخر، بما يجعل الطمأنينة المتعالية سيدة الموقف. الطمأنينة لا تحمل من معنى غير الكسل والجمود.. الرضى والقناعة بعبارتين أخريين. من نافلة القول إن تاريخ العلم تاريخ أخطاء. بهذا المعنى، يكتسب الخطأ بعده الإيجابي، لدرجة يصير معها الخطأ في مستوى الصواب.. لا فرق.. الخطأ المحتمل للصواب أو العكس ، يكاد يلتقي الأمر مع وجهة النظر الشخصية من جهة أخرى. وبناء عليه، لا يجوز التردد في التعبير عن الخطإ/ وجهة النظر. فمن خلال تعدد وجهات النظر، يتم تحصيل المشترك الجمعي، الذي يمكن ملاحظته في شكل قواعد للسلوك والتواضع بين البشر. وجهة النظر، بمعناها الفردي، من حيث هي حكم نسبي، تندرج في إطار ما هو خاص بالإنساني في وجوده النوعي. ما يضفي عليه الطابع الإنساني، اشتماله على قدر غير يسير من الشك. النسبية و الشك عنصران حاسمان في بناء وجهة النظر. لا نقد يتحقق في غيبتهما المطلقة. الشك والنسبية أقوى دلالة، من خلال ممارسة الذات النقد على نفسها، بقصد اقتلاع جذور الغرور والطمأنينة واليقين من تربتها. وإذا كانت النسبية قد آلت إلى تواضع أخلاقي بالمضمون الاجتماعي، فإن وجهة النظر تؤول إلى حرية وجودية بالمضمون الحقوقي. إذاً، نجد أنفسنا، وجها لوجه، أمام إحدى الحريات الرئيسة: حرية التعبير. الإنسان هو الأسلوب على حد زعم الأسلوبي.. بل هو الشك على حد استنتاج العقلاني المتفلسف.. بل هو وجهة النظر على حد اعتقاد الحقوقي. هكذا، يلتقي النقد مع وجهة النظر، أي مع حرية التعبير أساسا. الحرية أصلها طبيعي، في حين أن النقد أصله ثقافي.. يكون الثقافي عندما نجنح به إلى التعليق تارة، والتحشية تارة ثانية، والاستدرك ثالثة، والتكملة رابعة، والتصويب خامسة، وهكذا. النقد هو النقد، غير أن اختلاف السياقات تقتضي التعبير بالانزياح/ الانزلاق الدلالي. الاعتبارات الثقافية تضطلع بدور أهم هنا، بالنظر إلى الغاية والوسيلة المعتبرتين في الموضوع. 3 - نقد النقد في هذا المستوى، يكون النقد قد ضَمِنَ لنفسه حضوره الأول. لا يستقيم نقد النقد إلا انطلاقا من وجود النقد ذاته. نقد النقد تعضيد للنقد، بما يجعل التراكب بينهما عملية تشديد وتأكيد. النقد، باعتباره مراجعة، في حاجة إلى مراجعة أيضا. الحرص سيد الموقف، مادام الكسل/ التسليم يتربص بالمواقف والسلوكات. يمكن الاتفاق، ولو جزئيا، على اعتبار النقد فعلا منصرفا إلى المضمون. أما بالنسبة لنقد النقد، فإن الفعل فيه موجه إلى مسار بناء هذا المضمون. المسألة لها علاقة بالشكل تحديدا، مادام التركيز ينصب على طريقة الاستدلال من حيث أسسها. غير أن نقد النقد لا ينحصر عند هذا الحدّ، خصوصا بالنظر إلى صدور هذا النقد عن مؤسسات واتجاهات، بما يجعل طرق بناء استدلالاتها تحت رحمة النقد نفسه. نقد النقد يحمل بعدا ابستمولوجيا واضحا. النزعة العلموية صريحة، يحركها قدر غير محدود من الحرص والتتبث. النقد، في هذا المستوى، يخرج من عفويته إلى مجال أرحب من الضبط والتحكم. فمراجعة آليات الاستدلال، في إطار تيارات واتجاهات، تستجيب لمطلب «النقد البنّاء» في مضمونه الإيجابي. من جهة أخرى، يبدو نقد النقد أكثر صدورا عن نظرة شمولية. فبحسب هذه النظرة، يتم تصنيف الحالة في إطار أعم، تتم مقاربتها في علاقة بباقي الحالات. ونظرا لما له من صلة بالروح الإبستمولوجية، فإن هذا المستوى المتقدم يقل حضوره لدى عموم المشتغلين بالنقد. ولأن النقد مفهوم ثقافي/ عبر معرفي، فإن نقد النقد من شأنه الصدور عن مشارب معرفية متنوعة. نقد الأدب، بحصر المعنى، ليس له أن يشذ عن السياق العام، أي النقد الاجتماعي بمعنى ما. المفاهيم، إضافة إلى طرق الاستدلال، تشكل موضوعات للتبادل بين مختلف الحساسيات النقدية في شتى اتجاهاتها المعرفية. - إضافة إلى بعده المعرفي، أليس هناك من موقع لوجود نقد النقد في السياقات الاجتماعية؟ بالنظر إلى ما له من صلة بالبعد المعرفي الصرف، فإن نقد النقد لا ينبغي تعطيل آلته في السياقات الاجتماعية. ليس مجرد سفسطة لغوية، مادام المطلوب من نقد النقد فاعليته الرقابية في أثناء الممارسة النقدية. ينبغي الحرص على سلامة الآلة النقدية، بما يجعل توفير الجهد، وبلوغ الهدف.. من الأولويات بهذا الشأن. نقد النقد، يجعل المراجعة مفتوحة على الدوام. لا يكفي مراجعة الذات أو الآخر فحسب، بل يتعدى ذلك إلى مراجعة تلك المراجعة نفسها، من حيث طبيعتها ووسائلها وأهدافها. هنا، يكتسب هذا المستوى من النقد امتداده، من خلال تفعيله داخل السياق الاجتماعي. الأداة تتحكم في طبيعة المضمون، ومن ثم كانت الحاجة إلى نقد النقد. تفعيل الآلة النقدية في هذا المستوى، تصل بالفرد/ المجتمع إلى مراتب عليا من العقلانية. لا يكفي النقد وحده، سواء كان ذاتيا أو غيريا، في غياب نقد لهذا النقد. ليس هناك من حقيقة، هناك وجهة نظر بالأحرى. وجهة النظر هاته، لا قيمة لها بدون بواعث متجددة على المراجعة، أي النقد في بعده المعرفي والاجتماعي. بوجهة النظر نخطط، لكن بالنقد نبني.. نبني على أساس. النقد، النقد الذاتي، نقد النقد.. مجرد مؤشرات على حيوية مجتمع، يهجس بالمستقبل أكثر مما يفنى في الماضي..