يكمن مستقبل أي منظومة تعليمية في ما يحدث من تفاعلات وعلاقات داخل المدرسة العمومية ،ذلك أن ملامح كثيرة لهذا المستقبل تبقى،وفي كل مظاهرها المادية والمالية والبشرية والتربوية رهينة بنوعية السياسة التعليمية ومقاربتها لثنائية المنشود والممكن، ,بين هذا المنشود والممكن تتموضع السياسة التعليمية التي تبقى أسئلتها كلها مشوبة بالمصلحة،ذلك أنه بمجرد قولنا أن في مجتمع ما سياسة تعليمية،فإن هذا يعني ضمنيا أن ثمة صراعات بين مصالح جماعات من الناس،وهي بذلك آلية الانحياز والإقصاء العلمي والثقافي والاجتماعي. إن الوضعية المنهجية تتحدد باعتبارها أداة عملية،فهي على المستوى الفعلي مجموعة قرارات قابلة للتنفيذ بالقوة الجبرية التي تمتلك مفاتيح الأمور،وفي هذا المستوى من التحليل لا مجال للحديث عن (التوافق)أو (التراضي)أو( التعاقد) وما شابه ذلك ،فالسياسة التعليمية ليست تعبيرا عن المجتمع كله أو الثقافة كلها . تسعى السياسة التعليمية إلى مد الجسور بين المنشود والممكن,يكمن هذا الطابع المنهجي للسياسة التعليمية في ارتكازها على تلك التصورات التي تحدد الأهداف وتحولها إلى إجراءات عملية وممارسات داخل هذه المؤسسات العمومية ،أما إذا كانت تلك التصورات بعيدة عن واقع هذه المؤسسات العمومية وأسئلتها والتحديات التي تواجهها فإننا نصبح أمام منطق التباعد بين فكرة الإصلاح ومنهجيته وأهدافه ،وواقع هذه المدرسة التي تتجسد فيها كل مظاهر أزمة التعليم ،وعلى هذا الأساس نجد أنفسنا أمام (أوتوبيا) فكرة الإصلاح التي تبقى عاجزة عن الصمود أمام واقع هذه المؤسسة العمومية.في هذا السياق تبقى المدرسة العمومية محكا حقيقا لاختبار نوايا ومقاصد ونجاعة السياسة التعليمية ولا تقف أدوار هذا المحك الواقعي عند هذا الحد،بل تتجاوزه إلى مستوى الكشف عن تلك الفجوات التي تفرزها علاقة النظري المفارق والمتباعد وواقع هذه المدرسة الموسوم بالأزمة التي تهدد كيانها ووجودها وأدوارها التربوية والعلمية والقيم التي بنيت على أساسها... عن أية مدرسة تتحدث (نظرية الإصلاح)؟ لايختلف اثنان في شرعية ذلك السؤال الذي يطرحه الفاعلون في القرى والبوادي والمدن منذ ظهور الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى الآن ،أي بعد مرور عقد ونصف تقريبا ؛عن أي مدرسة تتحدث ( نظرية الإصلاح) فالمدرسة العمومية التي يفترض أنها تشكل موضوع هذا التنظير،هي غير ما يتحدث عنه الميثاق الوطني للتربية والتكوين.ومما لاشك فيه أن قراءة هذه الفجوة من حيث مسارها الزمني (عقد ونصف) تؤكد جملة من الأمور لعل من أبرزها الملاحظات الآتية: - اختلاف آليات التنظير لغة وفكرا ومنطلقا ومرجعية عن موضوع الإصلاح (المدرسة العمومية) - بناء نظرية الإصلاح على خلفية سياسية توافقية هشة ليس بمقدورها طمس التناقضات المتباينة التي لن تصمد أمام واقع المدرسة العمومية. - الاستكانة إلى قبول الإصلاح والمضي فيه في غياب التفكير النقدي الذي يمكن أن يحد من انزياحاته عن واقع المدرسة العمومية ومشكلاتها الحقيقية. - الارتماء الكلي والمطلق في أحضان ما تقوم به مكاتب الدراسات التي حلت محل الفاعلين المباشرين في تقديم البدائل والحلول والمشاريع التي زادت في تعميق الفجوات بين الميثاق وواقع المدرسة العمومية. - النزيف المالي المترتب عن تلك المشاريع الفاقدة للحكامة والبصيرة وما استتبع ذلك من هدر زمني على امتداد مواسم دراسية متصلة ... - تدهور العلاقات التربوية بين الفاعلين الأساسيين داخل المؤسسات العمومية:العلاقة بين الإدارة والمدرسين،العلاقة بين المدرسين والتلاميذ،العلاقة بين المدرسين والأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين ،تدهور العلاقة بين الفاعلين والوزارة الوصية ... - استفحال ظاهرة العنف في المؤسسات ،وانتشار المخدرات في أوساط التلاميذ .. - سوء تدبير برامج التكوين الخاصة بالمدرسين والإداريين وما رافق هذه البرامج من هدر مالي ملحوظ.. مواصفات المدرسة المغربية العمومية ومبدأ تكافؤ الفرص المدرسة العمومية خزان لقيم التماسك الاجتماعي وتكافؤ الفرص التعليمية التي تعلق عليها الفئات المحرومة آمالها العريضة في واقع يهددها بالإقصاء.ويعني مفهوم تكافؤ الفرص التعليمية إتاحة التعليم لكل قادر بتذليل الصعوبات التي تعترض عملية التعليم سواء كانت هذه الصعوبات مادية أم مالية أم بشرية أم معنوية،ومعيار هذا المفهوم في نظر الدارسين هو التمثيل النسبي للفئات الاجتماعية داخل مراحل التعليم المتعاقبة،كما أن مظاهر الفرص التعليمية تتحدد في إزالة العوائق التي ذكرناها سابقا والتي تحول بين الفرد والتعليم ،وتوفير أفضل الظروف الميسرة للتعلم،وقيام العملية التعليمية التعلمية على أساس مشاركة كل الأطراف التي يعنيها أمر التعليم والتعلم ،ويمكن تفسير هذا المبدأ من خلال التحليل الذي يعتبر أن تكافؤ الفرص معناه تقديم تعليم إلزامي لكل الأطفال البالغين سن التمدرس،وكذا تقديم منهج موحد للجميع،وتوفير التعليم للجميع بصرف النظر عن خلفياتهم الاجتماعية ،وتحقيق المساواة بين مختلف الأقاليم والجهات ...ويجمع الباحثون على أن مفهوم تكافؤ الفرص تتضاعف أهميته حاليا وذلك بالنظر إلى سياق التحول الاقتصادي الذي يشهده المغرب،اقتصاد السوق،الخوصصة ،وما يترتب على ذلك كله من تحولات أخرى ذات الطبيعة الاقتصادية وتغيرات في أدوار الرعاية الاجتماعية للدولة وما يستتبع هذا كله من علاقات اجتماعية ذات التأثير السلبي في الواقع التعليمي وواقع المدرسة العمومية في المغرب تحديدا.في ضوء هذا التحديد تبرز التساؤلات الآتية:ما حقيقة مفهوم تكافؤ الفرص في المدرسة المغربية العمومية؟ تكمن أهمية هذا السؤال في استجلاء منطق التباعد بين (أوتوبيا) الميثاق باعتباره وعدا من وعود الليبرالية ،وواقع المدرسة العمومية ،ويمكن تعميق هذا البحث باللجوء إلى منهجية المقارنة بين نص الميثاق وواقع هذه المدرسة ،كما يمكن الاستعانة في هذه المقارنة بالأدبيات التربوية الحداثية والخطاب التربوي بغية استجلاء عناصر السياسة التعليمية في بعدها المفارق والمتباعد لواقع المدرسة العمومية،وعلى الرغم من أن المجال هنا لا يسمح بمقاربة مستفيضة لمنطق التباعد بين التنظير والواقع ،فإننا سنقتصر على قياس مدى الاقتراب أو الابتعاد بين الميثاق وواقع المدرسة العمومية،ورصد أهم سلبيات الإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية ،ومسعانا في ذلك هو فتح حوار اجتماعي موسع وإيجابي في المسألة التعليمية ومستقبل المدرسة العمومية باعتبارها بوابة المستقبل وإرثا سياسيا مرجعيا لفكرة التقدم الحبلى بكل دينامكية قيم حقوق الإنسان . تتبنى هذه الدراسة في مقاربتها لا ختلالات المدرسة العمومية مفهوم اللامساواة في الحقل التعليمي،وينسجم هذا المفهوم المعتمد في هذه الدراسة مع مقاربة نظم التعليم التي ترى أن المدرسة العمومية في هذه النظم ما هي إلا أداة تصفية اجتماعية قائمة على الانتقاء.وتتمظهر اللامساواة من خلال إجراءات التصفية الأساسية الآتية: - اللامساواة في الفرص التعليمية المتاحة للالتحاق بالتعليم. - اللامساواة في مواصلة التعليم: :الرسوب،الإنقطاع.... - اللامساواة على مستوى الناتج التعليمي :الاختبارات،الامتحانات ... وتجتمع هذه الآليات لتجعل من القول بالتعليم للجميع ودمقرطة التعليم والمساواة مجرد شعارات جوفاء،ذلك أن الممارسات الواقعية تثبت( أتوبيا )هذه الشعارات،وسنقتصر هنا على محك هذه الممارسات التي تضعنا أمام حقيقة فجوات العدالة في التعليم التي تعصف بالمدرسة العمومية:ظاهرة الاكتظاظ التي حولت فصول الدراسة إلى أسواق عشوائية تفتقر إلى أبسط شروط التعلم الضرورية للتحصيل العلمي والثقافي .... - ظاهرة تحويل الرسوب إلى نجاح بانتقال من مستوى إلى آخر دون الحصول على المعدلات الموضوعية التي تسمح بذلك... - التفشي المهول لكارثة الدروس الخصوصية والتغاضي المقصود عن مواجهتها ... - ضعف آليات التوجيه وإعادة النظر في بعض الشعب التي أصبحت آلة لتفريخ البطالة( الشعب الأدبية والشرعية والعلوم التجريبية...) - إضعاف الأساس المادي للمدرسة العمومية بحرمانه من المختبرات والحصص التطبيقية في الشعب العلمية... - إضعاف البنية البشرية للمدرسة العمومية بحرمانها من الأطر القارة ،واللجوء إلى تلك الإجراءات المنافية لحق المدرسين في الاستقرار بمؤسساتهم بإعادة انتشارهم ،وما يترتب عن إعادة الانتشار هذه من مخاطر وآثار نفسية واجتماعية ذات التأثير السلبي على المردودية... إن مفهوم اللامساواة يجد مرادفا له في سياسة الإقصاء التعليمي بكل معانيها العلمية والثقافية والاجتماعية .من هنا تتضح توجهات هذه السياسة المتمثلة في إضعاف قيمة الانتماء إلى المدرسة العمومية وتعزيز الثقة في المدرسة الخصوصية.ولا غرابة هنا أن تترك المدرسة العمومية لتواجه واقعها المأزوم ونهايتها التي تنذر بالكارثة.ويمكن في سياق مسلسل إضعاف قيمة الانتماء للمدرسة العمومية أن نقف عند هذا المستوى المتوتر من العلاقات داخل هذه المؤسسات: - العلاقة العدوانية التي أصبحت السمة البارزة التي تربط التلاميذ بمدارسهم؛ وتتجلى هذه العدوانية في إتلاف الممتلكات من أبواب ونوافذ وزجاج ومقاعد ومعدات أخرى... - العلاقة العدوانية بين التلاميذ والمدرسين، ومن أبرز علاماتها؛ العنف الرمزي والجسدي... - ضعف الارتباط بين المدرسين والمؤسسات، وتقلص هذه العلاقة إلى حدودها الضيقة المتمثلة في أداء الساعات الواجبة دون الانخراط في الحياة المدرسية أو المساهمة في حل بعض مشكلاتها... - توتر العلاقة بين المدرسين والإدارة التربوية... - ضعف العلاقة بين الأسر والمدرسة العمومية، فأغلب الأسر لا تعرف شيئا عن المؤسسات التي يتابع فيها الأبناء دراستهم.... إن نوعية الأجيال القادمة تتوقف على نوعية المدرسة العمومية،وعلى ما يتاح لهذه الأجيال،أو لا يتاح لهم في هذه المدرسة،ونوعية الطاقة التي ننتظرها من هذه الأجيال تتوقف على ما نقدمه لها عمليا من وسائل تضمن لها الاستجابة الفعلية لتحديات السياق الذي توجد فيه.ونعتقد أن أول خطوة في هذا الاتجاه هي التي تكمن في العودة إلى منطق البصيرة ورؤية الحقيقة التي تتجلى في الحياة اليومية للمدرسة العمومية، وفي هذه الخطوة يمكن أن نميز بين (ميثاق مكاتب الدراسات) وأزمة المدرسة العمومية. *با حث في علوم التربية