منذ أن بدأ المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط دينيس روس زياراته إلى المنطقة في تسعينيات القرن الماضي، لم يكن يسعى لتحقيق أي إنجاز باتجاه تطبيق الإتفاقات الموقعة، والتوصل بعد ذلك لاتفاق جديد يجيب عن كل التساؤلات، ويضع حدا للخلافات على أساس مرجعية عملية السلام والقرارات الدولية المتعلقة بالصراع . ولازال المبعوثون الأمريكيون الجدد يسيرون على نفس خطى دينيس روس، ولا يسعون إلا لتحقيق رغبة حكومة إسرائيل في العودة إلى مفاوضات عبثية لا طائل من ورائها، ويتجاهلون الواقع ويقصدون ممارسة الضغط على الجانب الفلسطيني لصالح مخططات وتطلعات نتنياهو. في موازاة مع ذلك، نجد أن رئيس حكومة الكيان الصهيوني الأسبق إسحاق شامير، الذي بدأت مفاوضات مدريد أوائل التسعينيات في عهده، يقول إنه كان يخطط لاستمرار المفاوضات عشر سنين دون التقدم خطوة واحدة إلى الأمام. ولازال المفاوضون الإسرائيليون يواصلون نفس نهج شامير، حيث وجدنا أن ما قدمه مولخو المفاوض الإسرائيلي في اللقاءات الإستكشافية التي عقدت مؤخرا في عمان بضغوط عربية ودولية شديدة، نجدها بائسة ورافضة ومتنكرة لكل مسعى جدي يمكن أن يمثل خطوة بإتجاه السلام، ومثلت تراجعا عن كل الإتفاقات السابقة وعن التعهدات والمواقف والطروحات التي تقدمت بها أو وافقت عليها، أي من الحكومات الإسرائيلية السابقة، وهي ليس أكثر من فتات يمثل عرضه استهانة واستهتارا بالجانب الفلسطيني وتقزيما للحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني بالحرية والعودة والدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وهكذا تضمنت مقترحات مولخو : - استمرار تواجد القوات الإسرائيلية في منطقة الأغوار على طول نهر الأردن مع استمرار بقاء المواقع الإقتصادية الإسرائيلية فيها، تحت مسمى «التمسك بحدود يمكن الدفاع عنها». - استمرار إقامة مستوطنات جديدة والتوسع في المستوطنات القائمة، مع استمرار مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وشق الطرق الإلتفافية لربط المستوطنات لتحقيق ما يسمى (التواصل الجغرافي للدولة الإسرائيلية)، وكذا ضم المناطق التي كانت تسمى بعد توقيع اتفاقات الهدنة عام 1949 «المناطق الحرام». - تقليل عدد الفلسطينيين المقيمين في القدس وعلى الأراضي الفلسطينية التي ستضمها إسرائيل أو التي تقع خلف جدار الفصل العنصري . - القدس خارج إطار البحث، حيث ستبقى العاصمة الموحدة الأبدية لدولة إسرائيل. - لا بأس بالحل القائم على أساس إقامة دولتين لشعبين، يما يتضمنه ذلك من اعتراف فلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية. في مقابل هذين الموقفين، كان الموقف الفلسطيني، وكما جاء على لسان الرئيس أبو مازن أثناء لقائه مع المبعوث الأمريكي هيل: - إن ما نطالب به ليس شروطا مسبقة، وإنما أمور تضمنتها الإتفاقات الموقعة في فترات سابقة مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وهو أمر لابد منه لتهيئة الأجواء لأية لقاءات قادمة. - لا يمكن استئناف المحادثات إلا بعد الوقف الشامل للإ ستيطان، والإلتزام بسقف زمني محدد للمفاوضات ومرجعية لها تقوم على أساس قرارات الشرعية الدولية وخاصة قرارالأمم المتحدة رقم 194 والأسس التي قام عليها مؤتمر مدريد وخاصة مبدأ الأرض مقابل السلام، وأن السلام مصلحة لإسرائيل قبل أن تكون مصلحة للفلسطينيين. - الإتفاق على جدول زمني للإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس التي هي عاصمة للدولة الفلسطينية، وإزالة المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية، مع إجراء بعض التعديلات الترابية التي لابد منها على أساس (التبادلية المحدودة بالقيمة والمثل). - الإتفاق على مبدأ إقامة دولتين مستقلتين، مع رفض الدولة ذات الحدود المؤقتة. بعد تبيان المواقف المعلنة والنوايا الدفينة لكل من الطرف الأمريكي والطرف الصهيوني والطرف الفلسطيني، لابد من البحث عن الموقف العربي، إن كان هناك موقف في الأصل. صحيح أن الجماهير العربية في كل مكان استبشرت خيرا بإسقاط بعض الطواغيت التي كتمت أنفاسها عشرات السنين، وتأملت أن يأتي التغيير المتضمن للديمقراطية والكرامة والحرية والعدالة الإجتماعية والإنفكاك من براثن التبعية للأجنبي، والمتخلص من الأمية والجهل والفقر والمرض والإستبداد . ولكن هذه التوقعات اصطدمت منذ البداية بأن التغيير جاء وفق ما تضمنته الأجندة الأمريكية الأطلسية الصهيونية، مع وجود بعض الكوفيات الطافية على السطح والتي سمح لها بالظهور مقابل أن تدفع بالكامل تكاليف العمليات من خزائنها. كما أنها اصطدمت بأن بعض الساحات استبدلت نمرودا قديما بنمرود جديد، واصطدمت بتحالفات مريبة بين بعض القوى التي غيرت مواقفها وولاءاتها مائة وثمانين درجة، بحيث رأينا من كانوا يعتبرون أمريكا عدوا لدودا، أصبحوا يسبحون بحمدها، بعد أن وافقت لهم على دور كومبارس، رغم إظهارهم بأنهم أصحاب أغلبيات وأصحاب معالي وسعادة ... الخ . لقد أصبح الوطن العربي بدون قيادة حقيقية مؤثرة وقادرة على تحقيق الحد الأدنى من التضامن الذي بدون تحقيقه لا يمكن الحديث عن موقف داعم لفلسطين يمكنها من الوقوف في وجه المخططات الأمريكية الصهيونية وكذا مخططات بعض القوى الإقليمية التي تنتظر فرصتها لإخذ نصيبها من الكعكة العربية المستباحة. وأصبحت الدول العربية منقسمة إلى ثلاثة أصناف : صنف منشغل بالمخاض الذي تعيشه أقطارها ولم ينته بعد، وصنف منشغل بتأجيج وتمويل عمليات المخاض القائمة في الدول السابقة، رغم وجود نفس الأسباب التي بسببها ابتدأ المخاض في الدول التي تعيشه، وصنف يتفرج على ما يجري وباله منشغل بما يجري وبالعمل على عدم وصول ما جرى ويجري إلى أقطارها . لقد كان الحكام العرب في الفترة السابقة يبررون عدم اتخاذهم مواقف إيجابية وصلبة في الشأن الفلسطيني بأن الساحة الفلسطينية منقسمة على نفسها، وأنها لن تفعل شيئا أو تقدم شيئا إلا بعد تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية. وها قد اتفقت حركتا فتح وحماس وكل الفصائل الفلسطينية على معالجة أمورها بما يضع قطارها على السكة الصحيحة، فأين هو الموقف العربي؟ أم أن الموقف الصهيوني القائل بأن (على أبومازن أن يختار بين إسرائيل والمصالحة) يجعل أولي الأمر في وطننا العربي كبالع المنجل .. لا يستطيع بلعه كما لا يستطيع إخراجه . الرباط 12/2/2012