إلى زكريا الساحلي المناضل الذي بترت ساقاه كما بترت ساق الوطن رغم ضيق الحال، كان صوتها يتوق لغد مشرق..حال يصعب أن تعايشه جوليا التي اقتلعت الحياة فرحتها من رحم قلبها المثخن بالألم.. ضيق حالها يكبر، وتشيخ دواخلها بنار كاوية.. تتعالى الصيحات كلما اشتدت مرارة الحياة تصرخ عاليا مع عشاق الحياة: إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر وَلا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِر تهتف، وتعشق الحياة.. مرت سنوات من الهتاف الصارخ بحناجر مبحوحة، وهي تتذكر أيام الكد والتحصيل العلمي..تتحسر على أحلام الطفولة بتنهيدة، تحلم بعمل مستقر، وبعض الدريهمات، وأسرة دافئة، وشراء بعض الملابس، وأدوات التجميل، والمجلات، والجلوس في مقاه فاخرة، ولما لا الاصطياف في فصل الصيف في الشرفات المتوسطية.. تضحك بدموع يكسوها الانتظار.. سنوات تمضي، ولا مجيب عن سؤال الحياة الذي يتغير بتغير الفصول.. تتجول جوليا في مساءات أوبيدوم نوفوم المدينة التي صار الخراب يجثو على أنفاسها المتقطعة،..تتجه صوب إحدى صديقاتها كالعادة مزودة بحرقة الانتظار التي تفوح من عطرها الرخيص الذي لا يفارق أرنبة أنفها في ساحة بيريس كالدوس، تسألها بوجه شاحب تمزقه التشققات والتجاعيد التي تطفو عليها وهي ماتزال تحلم بيد تحملها إلى قلعة فوق التلة المجاورة لنهر اللوكوس.. هل من جديد يخص طلبات العمل التي وضعناها الشهر الفارط لدى السنة الفارطة من القرن الماضي.. الشركات، والمصانع، والمخابز، والبلديات، ودار المواطن، ومراكز الطفولة، ودور العجزة، وإدارة السجون كلها لا تكلف نفسها عناء الجواب وإن كان بالرفض..اكتشفت متأخرة كجيلها -غير المحظوظ- أن الزمن يسرع باتجاه «نسيان.كم».)كن( -مع اعتذاري الشديد لأحلام مستغانمي- «معطلون عن الحلم».. معطلات عن الحب داخل هذه الحياة تهمس جوليا في آذان الورق الأخرس في تلك الليلة..ورق كان في الماضي يحمل قصائد تتغزل بالوطن الذي تكالب عليها اليوم، حتى غدت حاقدة على كل شيء.. أفواه كثيرة تعيش في برج الأنا المقدسة التي تقول بالصوت العالي: «أنا ومن بعدي الطوفان» قاعدة تبخرت عليها أحلام جوليا وأيوب..تتذكر الآن كيف دخلا معا إلى الجمعية الوطنية للمعطلين حملة الشواهد.. ناضلا معا بمعية الرفاق طمعا في حقهم المهضوم، بحثا عن فرص الاستقلال الروحي والمادي والنفسي والعاطفي من جيوب الأسرة المثقوبة، ونظراتها المتعبة بفواتير الكراء والكهرباء والماء، وغلاء الأسعار، والمضاربات في أثمان الحب، والدقيق والسكر والزيت والزيتون و..و.. أيوب كان إلى جانبها لما قررت الالتحاق بالرفاق المعطلين، ينمو إصرارهما باستمرار رغم ويلات الضيق، وحال أيوب الذي كان يلعن في نفسه الطريق المؤدية إلى مدرجات الكلية أو كما كان يسميها»مدرجات الوهم»..كيف لا ووجنتاه تحمران كلما طلب من والدته بعض الدراهم للجلوس في مقهى»الجلدة»، « أمّ قاومت جلاد الفقر على آلة الخياطة، وجعلتها رفيقة تؤنسها وتشتكي لها همومها حتى تستطيع أن توفر لابنها فرصة الدراسة في الجامعة، وما تتطلبه من مصاريف مضاعفة بسبب حرمان أيوب من سرير في الحي الجامعي.. أم ككل الأمهات المغربيات المناضلات اللواتي كرسن حياتهن لخدمة أطفالهن..أمهات بسيطات في كل شيء اعتقدن أن الدبلومات الجامعية كفيلة بإسعاد أبنائهن وتحقيق أمنياتهن.. حلم (أيوب وجوليا وزكرياء وأسامة وسعيدة، وفرح، وعبد الصبور، وأحمد...) لم تحقق ولم تلب الرغبات الدفينة لدى هؤلاء الأمهات برؤية أبنائهن يشغلون وظائف عمومية محترمة..لم يطق أيوب أن يرى إخوته الصغار يتصارعون من أجل دريهمات في العيد، شعر بإحراج شديد لما نظر في عيني أمه التي كانت تنتظر زبونة لم تأت أبدا..ومن يومها، وتفاديا لمزيد من الإحراج مع الأم قبل أيوب العمل بأحد المخادع الهاتفية بأجرة زهيدة لا تكفي لسد ثمن القهوة المرة يوميا.. تبدد الحلم مجددا كما تبدد معه العشق الدفوق في قاموس الأعماق..مرت خمس سنوات، وأيوب قابع في ركنه الصغير بمخدع يأويه من نظرات الأم المتأسية، وتلصص الجيران و»حكرة» المجتمع الذي يعمق الجراحات تلو الأخرى بنظرات الشفقة والتشفي أحيانا.. خمس سنوات كانت كافية لكي تزداد الأوضاع سوءا، ويرتفع منسوب مياه العطالة إلى مستويات قياسية في شرايين الوطن المهترئة..آلاف من المعطلين يتشردون سنويا في مياه المحيط الأزرق السماوي بحثا عن قوارب للحياة،..آلاف من المعطلين يقدمون أجسادهم هدية لنيرون محبة في البنزين الأسود للحياة، آلاف من المعطلين يبيعون أعضاءهم في السر والعلانية ليشتروا تذاكر عمل وهمية في أوطان حمراء..آلاف من المعطلين تجتاحهم نوبات الانتحار واكتئاب مدى الحياة..تقول جوليا في حديثها مع أيوب بالمخدع: - إلى متى سنصمد أمام هذا التشرد المقنع بورقة من الكارتون الرفيع، ضقت درعا بهذه الحياة المهينة، متى نخرج من هذا الكابوس؟..مدينة تفرش أرصفتها لبيع أحزمة الفقر.. تتفجر فيها الآم الأطفال الباحثين عن قطع الخبز اليابسة..مدينة تتسول فيها الأمهات مصحوبات بأزواجهن على بوابة مقبرة مولاي علي بوغالب أملا في كسكس زوارها يوم الجمعة.. مدينة صارت يا أيوب مأوى لجميع أصناف المتشردين والمرضى النفسانيين الذين يلقون بهم وسطها من مدن بعيدة، ولا يجدون دورا تقيهم برودة الصقيع، ولا مأوى يهبهم حقوق النوم والرعاية الإنسانية، يحملون أثقال الأوزون على ظهورهم لهدف واحد الانتشاء بقارورة من الكحول في سمر ليلي ينسيهم درجة القهر.. - «المدينة والجريمة والعقاب، مدينة تصر على أن تعاقب أبناءها» أجابها أيوب بغصة تملأ قلبه وهو يودعها بعد أن قرر مغادرة المدينة رغم خوف أمه عليه من الاعتقال..تتذكر بدموع طوفانية تشبه الفيضانات التي تعرضت لها المدينة مؤخرا، وفقدت معها شهادتها الجامعية.. أصر على إكمال المسيرة في اتجاه العاصمة استمرارا لمعركة الكرامة التي يخوضها مع رفاقه المعطلين من مختلف الأقاليم والمدن، تاركا وراءه حمرة في الوجدان.. وصل أيوب الرباط ليتسنى له مشاركة جميع المقهورين من طنجة إلى الكويرة الذين حضروا للعاصمة منددين بسياسات الحكومة في ملف تشغيلهم، وتماطلها، ووعودها الكاذبة.. حركات احتجاجية تطالب بوطن حر يسوده العدل والحرية والمساواة.. مطالب لا يجادل فيها أي أحد: سكن لائق، وراتب شهري محترم، وإجراء فحص طبي ولو مرة واحدة في العام دون أية تكاليف، أو على الأقل موعد محدد للفحص في السنة.. تتعالى أصوات الباعة المتجولين بأصوات البؤساء -أكثر من بؤساء فيكتور هيجو طبعا- بشعارات تحطم الصخر وتفتت الجليد، دون أن تجد آذانا صاغية. وبعد ساعات من التجوال أمام البرلمان، والأمانة العامة للحكومة ووزارات التربية والمالية، ومقرات الأحزاب الحاكمة المحكومة بمصالح أبنائها والمقربين وتابعي التابعين ضاربين أحلام أبناء الشعب عرض سينما الفتوة البوليسية على رؤوس المحتجين..قضى أيوب أياما سوداء يقتعد الأرض، ويغطي بالسماء أملا في نيل الكرامة المفقودة..هكذا أخبر رفيقته في العطالة جوليا حينما اتصلت به عبر الهاتف بمستجدات الوضع هناك، وحالات الإغماء التي تعرض إليها عدد من الرفيقات وأنواع الكسور التي فاز بها الرفاق في هذه المعركة غير المتكافئة مع الأيادي الخشنة التي تحمل هراوات تنزل على الأجساد النحيلة دون رحمة أو شفقة..لقد جرت دماء كثيرة تحت الجسر.. - لا أملك ثمن أرخص الفنادق، ولا أقارب لي بالعاصمة، يمازحها سأتدفأ بجسد الكارطون الرطب والناعم في هذا الليل أمام مقر نقابتنا العتيدة الهوائية الطاحنة بعد وجبة جماعية من العدس. أقفل الخط، ولم ينسى أن المعركة مفتوحة هذه المرة، ولو تطلب الاستشهاد من أجل التشغيل، فالموت أهون من حياة نموت فيها بالثواني والدقائق والساعات.. مضت أيام ولا من حرك ساكنا، الصحافة كانت تتفرج في صمتها المريب، والرأي العام دخل في نوم عميق بعد عمليات التدجين التي نهجتها الحكومة بالإكثار من المهرجانات المليونية، وحفلات أعياد الميلاد التي تشرق مع كل صباح بمكيفات هوائية من النوع الفاخر في مكاتب مفتوحة أيضا على خريجات الأحزاب النظيفة فقط.. هاتف يرن، يحدث موسيقى صاخبة» هما مين، واحنا مين..» يفتح الخط بعد أن نبهه أحد الرفاق النائمين بجواره في تلك الساعة المتأخرة من الليل»هل حضر رجال السيمي ليكرمونا مجددا على الصمود» يفتح الخط، يجد صديقه رشيد: اعتذر صديقي أيوب ما كنت سأحدثك في هذه الساعة لولا إلحاح الرفاق في القصر الكبير وإجماعهم على أن تقود حركة 20 فبراير في مسيرتها غدا بالمدينة. وافق أيوب دون تردد، وأغلق هاتفه. نهض فجأة دون تفكير لإيمانه العميق بضرورة الانخراط في التغيير، واتجه صوب محطة القطار القريبة للعودة إلى مدينة»الأوباش» بتعبير الصديق حسن رحمه الله..ركب أيوب وظل طيلة الرحلة ينظر من زجاجة النافذة إلى العالم القاتم خارجها، ومع ازدياد سرعة القطار، كان قلبه يزداد غضبا على حال هذا الوطن الموجوع، ومع ذلك تتقوى عزيمته لمواصلة درب النضال حتى تحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. فجأة توقف القطار، قام من مكانه متجها صوب باب الخروج وقد بدأ الفجر يبزغ بقليل، وعند أول قدم تنزل من بوابة القطار احتضنته ألسنة السكة الحديدية بأنيابها الشرسة، أغمي عليه، ونقل على متن سيارة الإسعاف التي توجهت في البداية إلى مستشفى المرحاض المدني بالقصر الكبير الذي يفتقر لأبسط أساليب العلاج، وفي غياب الطبيب المختص، وفي غياب الإسعافات الأولية من داخل هذه العلبة الليلية المتخصصة في كل شيء إلا التمريض والتطبيب، عادت سيارة الموتى الخالية من أي ممرض عدا قلب يبكي الطريق الطويلة العابرة به إلى مستشفى للامريم بالعرائش.. الوصول المتأخر وجوليا مرافقته في حالة شرود تام لما رأته من مشاهد في المستشفى.. تتكرر نفس السيناريوهات، ومعها معاناة ساكنة لا فرق بينها سواء أكان قصرا كبيرا أم صغيرا أم عشا من العرائش..وهكذا نقل أيوب مجددا في رحلة آلام وعرق وهذيان يبوح به عن عشقة للياسمين تحت جناح السرعة البطيئة إلى مستشفى ابن سينا بالرباط وصل مع وقت الظهيرة بسويعات عديدة. هذه المدة كانت كافية لكي ينعدم الأمل في إسعافه بعد قوة النزيف الذي تعرض له، في سيارة الموتى بسبب غياب ممرض لتصل حالته إلى أقصى درجات العناية المركزة بسبب رخص الموت بحياة المواطن التي ينهجها قطاع الصحة في ظل سياسته الوطنية القائمة على مبادئ بثر رجلي المناضل أيوب، ومعه كل المعطلين. انتشر الخبر كالنار في الهشيم عبر الهواتف النقالة والرسائل القصيرة، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.. واهتزت معه جدران المدينة، والوطن النائم الذي استفاق هذه المرة لتتحول قضية أيوب إلى قضية رأي وطني، وعربي، ودولي.. غرفة بيضاء محاطة بلابسي البياض، وسرير أبيض، وملامح بيضاء، ممدد على فراش أبيض، عيناه جاحظتان، والدم بالكاد يعبر أنبوب المصل جراء العمليات المعقدة التي تطوع للقيام بها أحد الأطباء الشرفاء إنقاذا لحياة هذا المناضل الرمز، حكت جوليا على مسامع معطلي الوطن ما عاشه رفيقهم خلال رحلة الألم وهي جامدة شاخصة لا تستطيع تراوح الممر الفسيح المليء بالمتعاطفين والمخبرين ورجال الصحافة وعائلته الصغيرة مركزة على غرفة العمليات.. بقايا الصور تتهاطل عليها من كل الجهات، أهذا هو القدر الذي استطاع أن يجعل من لعبة الحياة قبرا يحفر تربته في ذاكرة المدينة التي شهدت على مدى سنين حروبا دامية راح ضحيتها أطفال ونساء وشيوخ بسبب هذا القطار الأعور الذي يدهس بين الفينة والأخرى كل من أصابه شرود أثناء عبوره السكة الحديدية غير المحروسة، تتذكر قساوة لابسي البياض بالمستشفى المدني، والأرجل المبتورة في علبة الكارتون..والدموع الغزيرة، ودقات القلب المتوترة وخفقاته..الرفاق يتهامسون في صمت عن مصير قائدهم الذي كان نموذجا للوفاء والتضحية ونكران الذات..القائد في غرفة العمليات.. انتظار مرير وعلامات الحيرة والقلق تتبدى للعابرين في ذلك الممر الطويل الذي يشبه طول ملف المعطلين. وفي كل مرة تخرج ممرضة يسرع الجميع باتجاهها لتقصي الحقيقة، فيعودون خائبي الآمال..أما الأم المكلومة فقد انتقلت إلى عالم من الغيبيات، تدعو الله أن ينقذ فلذة كبدها من الموت.. خرج الطبيب من الغرفة، وهو يحمل رسالة الأمل، الأمل الذي تحول إلى ألم بعجلتين متحركتين لن يستطيع بها أيوب أن يمشي مجددا على قدميه..لكنه حي يرزق رغم كل هذا الوجع.. انطلقت شرارة أيوب في الصباح الموالي بعدما استفاق من تأثير المخدر، وفتح عينيه العسليتين ببسمة الأطفال قائلا: لن تنمو أصابعي وساقي يا رفاقي ورفيقاتي.. وفي فورة الدموع الحارقة كان أيوب يطلق شرارة ستعم أرجاء كل المدن صامدا يدعو الجميع إلى مواصلة المعركة، وتحولت وقفة 20 فبراير في ذلك اليوم التي غاب عنها أيوب إلى وقفة تاريخية شارك فيها الجميع بحناجرهم يعلنون رفضهم لكل أشكال التهميش الممنهج في حق أبناء أقدم حاضرة قائمة في تاريخ المغرب، ويطالبون بإسقاط الحكومة.. وقفة رمزها أيوب ووقودها دموع الأم، وجوليا، والأصدقاء والرفاق، دموع كانت سكينا يقطع أوصال شرايين جوليا التي انهارت لتدخل في دوامة أخرى من دوامات اليأس، وبين الفينة والأخرى تصرخ: «لا تذرفوا دموعا فقد صار أيوب ابنا للوطن».