يكفي نطق اسمه لتقفز ملامحه إلى مخيلتك بشاربه الكثيف وعينيه المبحرتين في العمق وتقاطيع وسامة ملامحه وعفوية حديثه، وتعلق يده بسجارته المغروسة في فمه على الدوام. رحل هذا العملاق مسجلاً اسمه كأول الراحلين لهذا العام، وكأن العام لا يريد المضي في أيامه قبل أن يلتهم سادناً من سدنة الحرف البهي. رحل بعد أن رأى ولادة مصر التي يحبها ويعرف تفاصيلها الليلية تماماً، وحين أقول الليلية كونه كائناً ليلياً كما يصف نفسه. فأصلان يرى أن القاهرة لا تنام ولكل وقت من أوقاتها كائناتها، ولأنه عاشق لليل تجده يفتش في شوارع القاهرة عن شخصياته الليلية. كنت مبهوراً به من خلال روايته »المالك الحزين« التي تحولت في ما بعد إلى فيلم سينمائي حمل اسم »الكيت كات«، وهو الحي الذي عاش فيه أصلان وسط مجاميع من البشر كل منهم له حكاية تلصص عليها أصلان بحرفية الفنان، كي يخرجها من واقعها إلى الواقع الفني. تكررت لقاءاتي بأصلان في القاهرة وفي مؤتمرات عدة تباعدت زمنياً، وفي كل لقاء يكون حال إبراهيم كما تركته آخر مرة، نتبادل الأحضان وكأننا لم نغب عن بعضنا إلا ليلة، فالرجل بقي على دماثة خلقه من غير أن يمسسها تحريف أو كبر. في يوم سألته عن مقدرته على اقتصاد الكلمات في أعماله الروائية والقصصية، فأجابني بأن ما تحذفه لا يستحق أن تندم عليه، فلو كان مهماً لما رضيت روح الفنان بحذفه. منه تعلمت اقتصاديات الأدب ومع ذلك لم أطبق ما تعلمت منه. رحل إبراهيم الآن وبقي متناثراً في كل شخصياته التي كتبها بحرفية صائغ الذهب. عبده خال القبض على المشهد السردي لحظة حدوثه قصة أو رواية الأديب المبدع والراحل العظيم إبراهيم أصلان، تجدد الرغبة في أن نعيش حياة أفضل بوعي أوسع، كما يكرر دائماً، هذه فلسفتها بكل بساطة وهذه رؤيتها النقدية العفوية. قدمها أصلان في كتبه السردية بكل عفوية وهدوء وجمال وعمق. هذا الفنان المبدع فعلاً، الذي تحولت القصة الإيحائية العميقة التي يكتبها، فجأة، إلى رواية، رحل، فجأة أيضاً، بعد أن ترك لنا »خلوة الغلبان« و »شيء من هذا القبيل« و»حكايات من فضل الله عثمان«، وهي كتبه الفنية الأدبية السردية العظيمة غير المصنفة التي سارت خطواتها في كل حارات القاهرة على مدى نصف قرن من الإبداع، إضافة إلى رواياته وكتبه القصصية المعروفة. جميع كتابات إبراهيم أصلان في المقالة والقصة والرواية وحتى حكاياته الشفهية العذبة التي أمتعتنا كثيراً، كانت في المنطقة الوسطى، ما بين الرواية والقصة، أو ما بين السرد والشعر الإيحائي، أو ما بين اليقظة والحلم، دائماً إيحاءات في المنطقة الوسطى، لكنها ليست محايدة وليست مباشرة... إذ صاغ بأسلوب مختلف وعميق من المشاهد اليومية ومتاعبها ومباهجها القليلة، لحظات سردية غاية في البساطة وغاية في العمق أيضاً، ذلك حين يقوم هذا الكاتب الفنان بالقبض على المشهد السردي لحظة حدوثه فعلاً، حتى لو كانت هذه اللحظة في عمر إبراهيم أصلان، إنها محاولة القبض على الزمن، أو محاولة إيقافه ربما. فهد العتيق صوت متفرد هذا رجل معجون بطينة أرض مصر، ومية نيل مصر الزلال الطيبة، وهواء مصر، وشجرها وعصافيرها وطيبة أهلها ونخوتهم. هذا رجل مصري خالص حتى النخاع، بصدقه ونبله وصوته وابتسامته وكلمته وكرامته وإخلاصه وترفعه وقهره وثقافته وإبداعه. إبراهيم أصلان، صوت متفرد على الساحة الإبداعية العربية في القصة والرواية، وتفرده بشخصه ومسلكه الإنساني، في هذا الزمن الفقير والملتبس، يضيف الى تفرده الإبداعي الكثير الكثير، ويجعل من فقده حادثاً مؤلماً، يمضّ في القلب. »تعلمت تكثيف اللغة في حضن الناس الغلابة«. هكذا أسرني إبراهيم مرة، وأخبرني أن عمله كموظف في قسم البرقيات البريدية، وحبه لمساعدة الناس الفقراء، أبناء جلدته، جعله يطلب منهم الاختصار في كلمات البرقية، كي لا يحملهم فوق طاقتهم. وتبتسم عيناه لي، يضيف قائلاً: »اللغة تحيا بين الناس، وعلينا أن نتعلم منهم الأجمل«. لأن إبراهيم أصلان ينطوي على روح كريمة، وهدف غالٍ نبيل، فلقد عاش كالنسمة، لكنه في الوقت نفسه كان يمتلك من خبرة الحياة وعمق الثقافة وسعة الاطلاع ما يجعل الحديث معه متعة، وقراءة كتبه فائدة كبيرة، وتتبع عوالمه إضافة مهمة لحياة القارئ. طالب الرفاعي علامة مهمة بالطبع أنا في غاية الحزن، وأعتقد أن وفاة الصديق الروائي الرائع إبراهيم أصلان، إحدى الخسارات الكبرى، للكتابة ولغير الكتابة، فقد كان من الشخصيات التي صنعت مجداً، وعاشت في هدوء بعيداً من الزخرفة التي تصنعها الشهرة، أعتقد أن إبراهيم كان من أكثر الناس موهبة، من نوع تلك المواهب التي يمكن قراءتها في العيون، ومنذ بداياته في »مالك الحزين« و »يوسف والرداء«، إلى كتاباته اللاحقة، مثل »وردية ليل«، و »عصافير النيل«، لم يتنازل أصلان عن ضخ الجمال في كل ما يكتب، الفكرة قد تبدو عادية، لكن قراءتها قصة لأصلان، تمنحها اللاعادية حد الإبهار. ذكاء كبير، ودرجة عالية من الثقافة، أعتبرها مثالية. أتذكر حين أهديته روايتي الأولى »كرمكول« عام 1988، لم يحتف بي فقط، لكنه اشترى منها نسخاً عدة وزعها على قراء كثيرين، تماماً مثلما فعل محمد مستجاب. منذ شهر التقيت أصلان في الشارقة، كان جميلاً كعادته، جلسنا على شرفة فندق »ميلينيوم« لساعات، وكان عادياً في وجهه وتنفسه، لم ألحظ عليه شبهة غياب سيحدث. وكان أيضاً يمارس السخرية كما يمارسها دائماً، وأبدى انزعاجاً من مصور لإحدى المجلات التقط له عشرات الصور. أمير تاج السر الأرستقراطي الجميل هناك أشخاص يحتلّون قلوبَنا من دون أعمارهم، يدخلونها متخفّفين من كل ما يجمعهم بالآخرين، فإذا بهم حين يغادرون يباغتوننا، ولا يعزّينا قطّ أن نكتشف أنهم لم يرحلوا عنّا مبكرين. كان إبراهيم أصلان استثنائياً، أديباً وإنساناً. هكذا كنت أنا أراه. كالخارج من كتابٍ أو من عملٍ مسرحيّ، منفرداً، دانياً ونائياً، مثلما تكون الشخصيات التي هي مزيج من الأهل ومن أبطال الحكايات. وكان من القلائل الذين يجعلون أهلَ مصر في مخيّلتي، سكّانَ عالمٍ على حدة، وناسَ معرفة وسعة وسخاء. لم أعرف صامتاً بقدره ومتواصلاً بقدره، مُقِلاً بقدره وصائباً كريماً بقدره، سلس الابتسامة، لطيف الحزن، سمحاً وودوداً. كأنه الأخير. لا بل هو حتماً الأخير. وداعاً أيها الارستقراطي الجميل.