ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السي عبد الرحيم بوعبيد ثقل التاريخ وحلم الكائن

لاشك أن المصير العجيب والتقلبات العنيفة التي عاشها المرحوم عبد الرحيم بوعبيد هي جديرة بأن تكون موضوعا لرواية خيالية? لكن ما حدث له ليس أمرا استثنائيا لأن الوقائع التي عاشها هي نفسها التي عرفها المغرب منذ أن كان عبد الرحيم بوعبيد معلما بفاس في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين، يخرج كل صباح من سكناه بحي الدوح في اتجاه مدرسة اللمطيين، وهو يرسل نظرته النفاذة إلى ملامح المدينة شبه النائمة، دون أن يجد في المدينة مغامرة حياته التي اشتهاها، لدرجة أنه اكتشف ذات يوم أن التعليم ليس مهنته، ولذلك فكر أن يتطوع في الجيش الفرنسي بعد أن اندلعت الحرب الثانية، وكانت هذه النزوة بداية الاهتمام بحالته، ولذلك تم إنذار أعضاء الحزب الوطني بماكان سيقدم عليه عبد الرحيم، ونجح حينذاك المهدي بنبركة، إضافة الى أحمد مكوار وامحمد بن سودة في إقناع الشاب السلاوي بأن تلك الوجهة الغريبة لا تليق بأمثاله? كانت تنتظره حرب أخرى أطول نفسا وأشد فتكا، ولذلك زال الإحساس بالغربة في فاس وهو يكتشف لذة تحرير بلد بأكمله.
لن يستطيع أحد وصف تلك الابتسامة الأخّاذة التي ارتسمت على محيا عبد الرحيم بوعبيد، وهو يتخذ قراره الذي لا رجعة فيه وقتذاك، لقد نجح في اختبار الآخرين بضرورة وجوده بينهم وتطلع منذ تلك الفترة إلى أن يعود من حيث أتى، لا ليوفر نصف الأجرة التي كان يرسلها إلى والديه في سلا فقط، ولكن ليكون أيضا قريبا من مركز القرار، حيث تحضّر السياسة الاستعمارية، وحيث الأصدقاء الكثر لهم نفس اللغة، خصوصا وقد تركهم خلفه في معهد مولاي يوسف، هو انقطع عن دراسته ليعول نفسه ووالديه، وهم مازالوا يتابعون دراستهم الثانوية.
في سلا التي عاد إليها بعد سنتين من الغياب ليدرّس بمدرسة أبناء الأعيان، كان عبد الرحيم بوعبيد أصغر معلم في هذه المدرسة الوحيدة بالمدينة، وربما تذكر مجددا تلك العطل الصيفية التي كان يقضيها في توسيع معرفته بالثقافة الإسلامية والعربية ومناقشاته الهادئة عن الشعر الجاهلي، وبالخصوص عن شعر امرؤ القيس وعنترة وطرفة بن العبد وعلقمة الفحل. ولدرجة يدهش فيها المرء لسعة معلوماته حول موضوعات ليست من تخصصه مع أن سنه لم تتجاوز الخامسة عشرة.. لكنه، وهو هذه المرة يعود إلى سلا مثقلا بهمّ مختلف، وبأفق جديد، أصبحت كلماته أكثر تشويقا وسحرا، يحكيها أطفال أعيان سلا لآبائهم، لدرجة فرضت تلك السمعة على المسيو دارلي، مدير المدرسة، احتراما استثنائيا لهذا المعلم النحيف، مشوب بقليل من الشك والريبة..
لم يكن عبد الرحيم وقتها قد اشترى دراجة، كما فعل آخرون ليتنقل بها بين الرباط وسلا، كان يبدو عازفا عن أي شيء مع أنه دوما محافظ على أناقته المغربية التي لا تضاهى، رغم أن تلك الأناقة تتخذ أحيانا ذلك الطابع الإفرنجي النادر، تعززه تلك القامة والمحيا الدقيق، المطبوع بتركيز الكائن ككل، أحيانا يتلطف فيرسل تلك الابتسامة الرقيقة الحيية، وأحيانا أخرى يخفض جفنيه في نوع من الخجل.. لكن ذلك لا ينم عن رخاوة أو حِلْم، بل ينم عن إرادة لها طابع هادىء، لا تتزعزع، لأن تلك الجفون تكشف فجأة عن نظرة حية، نفاذة، يتخللها ذلك النور الخاطف الماكر الذي يكاد يكون طفوليا.. ويطبع شخصيته ومزاجه الهادىء، المثير للإعجاب.
كان محمد اليزيدي، مثل غيره ممن أعجب بعبد الرحيم، المعروف عنه أنه يفكر باستمرار في الآخرين، هو أول من عرض عليه الانضمام إلى الطائفة، أي إلى الخلية السرية للحزب الوطني، حدث ذلك في نهاية 1941، مباشرة بعد عودته الى سلا، وكما كان مفروضا، أثبت عبد الرحيم بكل ما يملكه من طاقة عقلية وقدرة على استيعاب الحقائق من حوله، أن كل معطيات القضية الوطنية كانت واضحة, ولذلك تابع أحداث الحرب الثانية وأفقها المفتوح على تحرير المغرب، دون أن يلتجىء إلى بناء أي من الأوهام التي روجها غيره، ومكنته، تبعا لذلك، وضعيته كعضو في الخلية السرية للحزب الوطني، من معرفة أعمق بالملف المغربي، وانعطافاته وتشابكاته.
لكن اعتقاله في يناير 44، غداة تنظيم أضخم مظاهرة شعبية عرفتها سلا في أعقاب إلقاء القبض على أحمد بلافريج، الأمين العام لحزب الاستقلال، ونائبه محمد اليزيدي بتهمة التواطؤ مع دول المحور، وهي المظاهرة التي كانت من تنظيمه، كانت نقطة تحوّل أساسية، فمدة خمسة عشر شهرا التي قضاها في السجن، كانت العربون الأول الذي تلقاه عبد الرحيم بوعبيد من الإدارة الاستعمارية ببرودة أعصاب، وبسخرية.
بعد صعود الحكومة المؤقتة إثر نهاية الحرب التي كان يرأسها الجنرال دوغول، تم إطلاق سراح عبد الرحيم بوعبيد، باستثناء من كان منفيا في الكابون أو في الصحراء (علال الفاسي، والوزاني)، وبمرور بضعة شهور (خريف 45) سيتقرر، بعد استئناف النشاط الوطني، أن يلتحق عبد الرحيم بفرنسا، من جهة، لكي يمارس مهامه الجديدة كممثل للحزب في العاصمة الفرنسية وكمسؤول عن الطلبة والجالية المغربية عموما، ومن جهة ثانية، ليتابع تكوينه الذي انقطع بسببه عن متابعة الدراسة واشتغاله بالتعليم الابتدائي.
في باريس سيكون عبد الرحيم على موعد آخر متصل بالنخبة السياسية والثقافية والإعلامية لفرنسا، سيندمج في علاقات متعددة لا تمثل شبكة، بقدر ما تمثل مجموعة علاقات متساندة يحكمها التعاطف والصراع في نفس الوقت، وهكذا، وشيئا فشيئا سيوصل عبد الرحيم كلماته الرقيقة الى تلك النخبة التي يوجد من بينها شارل أندريه جوليان، وألبير كامو وفرانسوا مورياك، وكلود بوردي وروبير باي، وجان لاكوتور فيما بعد.. وسيتابع بنفس الاهتمام الذي يوليه لتطورات قضية بلاده، ما يجري في فرنسا من أحداث اقتصادية وسياسية بالغة الدلالة، أهمها قرارات التأميم التي أقرها رئيس فرنسا الحرة، دوغول، ضد شركات لها موقع نافذ وحيوي بالنسبة للاقتصاد الفرنسي، كما سيتابع باهتمام أكبر، مآل المفاوضات التي انتهت الى الفشل حول ما سمي بالقانون الأساسي لأقطار الهند الصينية: فيتنام، لاووس، وكمبوديا، وحول ما كان يعرف بالاتحاد الفرنسي، تم الاهتمام بهوشي مينه، وعودته الى بلاده واندلاع حرب استعمارية دامت ثماني سنوات في الهند الصينية?
من جانب آخر، سمحت له متابعة المحاضرات بمعهد الدراسات السياسية بزنقة سان كيوم بأن «يستوعب تطور الفكر الاقتصادي وأن يتعرف بالأساس على التوجه الكينزي الذي كان له في ذلك الوقت إشعاع كبير، لأنه يكوّن الأساس النظري لتدخل الدولة، سواء في مواجهة الأزمة الاقتصادية قبل الحرب، أو لتأطير تشييد الاقتصاديات المنهارة بفعل هذه الأخيرة»? وقد تهيأ له مباشرة بعد خروجه من السجن أن يتابع السياسات التي كانت تنهجها إدارة الحماية بعد الحرب على عهد المقيم العام إيريك لابون، والمستندة إلى نظرية الازدواجية الاقتصادية والهادفة الى إدخال متغيرات جديدة عبر تحديث القطاع الفلاحي التقليدي بإيعاز من بعض المختصين الاجتماعيين مثل جاك بيرك، والزراعيين مثل جوليان كولو والجغرافيين مثل جون دريش، وهي شخصيات تعرف عليها عبد الرحيم بوعبيد عن قرب، وقد سعت نفس السياسة «إلى توسيع فضاء الاقتصاد الرأسمالي وإحداث جسور الارتباط بين المعمرين والمجتمع المغربي مما يفتح المجال لميلاد بورجوازية مغربية يطلب منها أن تساهم في المشروع التحديثي للحماية»
في 49 سيعود عبد الرحيم الى المغرب، وفي ذهنه مقولات الاشتراكيين في مجال السياسة الاقتصادية، انطلاقا من تجربة «الجبهة الشعبية» التي أشرف عليها ليون بلوم، و كانت صدى لنمط التطور الاقتصادي بالاتحاد السوفياتي ذي الجاذبية آنذاك، رغم أنه تابع بدهشة تلك الظروف التي أدت إلى الانقسام بين أحزاب اليسار: الفرع الفرنسي للأممية العمالية والحزب الشيوعي، والحركة الجمهورية الشعبية، مما خلق شروطا أدت إلى الهيمنة التدريجية لليمين، وتقلص نفوذ التيار الليبرالي... وفي المغرب الذي غاب عنه عبد الرحيم جسديا أزيد من أربع سنوات متصلة، وبعد أن يستقر بمكتب المحاماة بالرباط كمساعد للأستاذ دارّو Darroux سيفاجأ الذين لم يكونوا على صلة مباشرة به بقوة ذلك المنطق الذي أصبح يستعمله لانتقاد السياسة الاستعمارية, لقد أصبح مشرفا على جريدة الحزب الأسبوعية «الاستقلال» وأصبح يكتب افتتاحياتها التي لم تكن أبدا تشبه مثيلاتها، لا بسبب قوة أسلوبها ونقاء لغتها، ولكن بسبب الدقة التي تحكم مضامين تلك الافتتاحيات والمتجهة بالأساس نحو انتقاد السياسة الاستعمارية، ودحض مبرراتها وأهدافها عن طريق حجج شبهت «بالحجج الديكارتية» رغم أن هذه العبارة اشتهرت بعد ذلك حين قالها إدغار فور عن عبد الرحيم عقب مباحثات إيكس ليبان..
بالطبع، كان من قراء «الاستقلال» وافتتاحياتها بالخصوص الملك محمد الخامس طيب الله ثراه، وقد دفعته تلك الافتتاحيات الى مزيد من التعمق فيما يحدث حوله، بل إلى تبني أفكارها وحججها, ولذلك حين فكر في تقديم مذكرة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، فانسان أوريول، خلال زيارة جلالته لباريز في أكتوبر 1950، يطلب فيها التخلي عن معاهدة 1912 وتعويضها باتفاقية جديدة تراعي التغيرات وما تم إنجازه، تم إلحاق عبد الرحيم بالمجموعة الصغيرة التي عهد إليها بإعداد أهم مذكرة حررت في وقتها? ورغم أن الرئيس أوريول كان يتفهم مطالب الوطنيين في المغرب، كما هو الحال في تونس، فإن البرلمان الفرنسي المحكوم من الأغلبية اليمينية آنذاك كانت بيده حرية التصرف، وعاد الملك خائبا، الأمر الذي دفع عبد الرحيم إلى كتابة افتتاحية في «الاستقلال» قال عنها الأستاذ عبد الرحمان القادري فيما بعد بأنها من «أروع ما كتب» و «قرأناها ونحن تلاميذ في الرابعة من الثانوي»، وكانت بعنوان: «دفع بعدم القبول»
ويوجد حدث له مدلول هام في حياة عبد الرحيم وهو الذي تلا المفاوضات الفرنسية التونسية حول الحكم الذاتي التي انتهت الى الفشل، وما أعقبها من اعتقال بورقيبة واغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد في أواخر 52 ستعرف الدار البيضاء شللا نتيجة الإضراب العام الناجح، الأمر الذي سينتج عنه لجوء الإقامة العامة إلى إصدار مرسوم بحل ومنع حزب الاستقلال واعتقال قادته الوطنيين، وتقديمهم للمحكمة العسكرية بالدار البيضاء و «تم اعتقال عبد الرحيم بوعبيد نفسه خلال الليل واقتيد الى السجن بملابس النوم دون السماح له حتى بأخذ بعض ملابسه، وزج به في زنزانة واحدة مع [من أطلقت عليه الصحافة الاستعمارية] لقب «جزار تادلة» والمقصود به الشهيد الحنصالي, وبعد 22 شهرا تخللتها أحداث غشت 53 الخطيرة, كان على هذه الوضعية أن تنتهي في أحد أيام شتنبر 54 بعدم المتابعة، خصوصا أن الأحداث أخذت تتحرك، سواء في المغرب أو في فرنسا من منطلق أن الحسم لن يتم في الرباط، بل في باريس.
هكذا سيلتحق عبد الرحيم مجددا بباريس بعد أن رفض إجراء أي محادثات مع فرانسيس لاكوست، المقيم العام، وفي باريس تتبع تطور المفاوضات التونسية الفرنسية وسقوط حكومة مانديس فرانس، واعتراف الحكومة التالية بقيادة إدغار فور بالحكم الذاتي لتونس الذي كان علامة على قرب حدوث انفراج في الملف المغربي..
وكذلك كان، إذ سيستدعيه إدغار فور ليناقش معه إمكانية تحديد موعد لإجراء مفاوضات متعددة الأطراف، وفي إيكس ليبان، وبالضبط في صيف 55، سيكون عبد الرحيم مستأثرا باهتمام الصحافة الفرنسية هو وزملاؤه اليزيدي وبنبركة وبن عبد الجليل، وبالخصوص من طرف لوموند، ووقتها قيل عنه إنه «مفاوض يجمع بين الذكاء وبعد النظر، والتركيز على الجوهر» خصوصا حين قدم «مرافعته» الشهيرة التي تلقاها إدغار فور باستغراب كبير، متهما عبد الرحيم ورفاقه بكونهم «يؤلهون الأشخاص» في سياق تعقيبه عن دفاع عبد الرحيم عن عودة محمد الخامس باعتباره المؤتمن على السيادة الوطنية، وذلك إثر تطور مفاجىء تمثل في التهامي الكلاوي الذي جدد ولاءه للملك قبل طلبه العفو في سان جيرمان أون لي، إضافة إلى فكرة المرور بمرحلة «حفظة التاج» التي دافع عنها بعض «أصدقاء» فرنسا في المغرب, وسقطت تحت مطرقة عبد الرحيم الهجومية.
بعد أسابيع قليلة، سيتم تشكيل أول حكومة وطنية بعد الاستقلال، وسيعهد وقتها إلى عبد الرحيم بوعبيد ضمن وفد رباعي بالشروع في مفاوضات مع فرنسا تتجاوز البلاغ المشترك الموقع في أواخر 55, لكن فرنسا كانت وقتها بدون مخاطب لأسباب داخلية، ولم يتم الشروع في تلك المفاوضات إلا في مطلع السنة الموالية، وذلك قبيل إجراء مفاوضات في مدريد أسفرت عن توقيع اتفاقيات مع الحكومة الإسبانية تكرس بدورها الاعتراف باستقلال المغرب، واضطلع فيها عبد الرحيم بمهمة بجانب جلالة الملك محمد الخامس خلال إقامته بمدريد.
وخلال التطورات الهامة التي عرفها المغرب إلى حدود الحكومة الرابعة، أرسى عبد الرحيم عبر توظيف معرفته الاقتصادية وقدراته العقلانية الخلاقة، الملامح الكبرى للمؤسسات العمومية وهو يتحمل أكبر مهمة حساسة في المغرب المستقل وهي وزارة الاقتصاد الوطني، وفي ظل ظروف صعبة ومعقدة، ووضع حدا نهائيا للامتيازات الناشئة عن اتفاقية الجزيرة الخضراء، وفي الفترة التي شارك فيها استطاع المغرب أن يرسي دولة القانون بعد صدور ظهير الحريات العامة، وإعداد النصوص الأولى للانتخابات التشريعية.
بالطبع، حين اتخذ قرار من طرف جلالة الملك محمد الخامس بإقالة آخر حكومة حزبية ملتزمة بتنفيذ برنامج محدد في ماي 60، سيدخل عبد الرحيم مرحلة جديدة من حياته السياسية طبعت كل ما تبقى من عمره الحافل, سيصبح عبد الرحيم على رأس المعارضة التي لم تتخل أبدا عن التزامها بالوفاء للأهداف الحيوية للقوات الشعبية وللمصلحة العليا للبلاد، وعلى رأسها إنجاز الانتقال الديمقراطي والوحدة الترابية, رغم كل المحن.
ولعل جنازة عبد الرحيم في 9 يناير 1992، بكل الدلالات التي تمثلها، لا تضع رباطا بين الموت والسياسة، إذ مازال جيلنا الموتور يتعلم باستمرار من خصال هذا الرجل الكبير ومن مزاياه الإنسانية، قد يبدو أن جزءا كبيرا ممن كانوا في جنازته قد تشتتوا أو طلّقوا السياسة، كما تعلموها عن طريق «النموذج» عبد الرحيم، وقد يحن البعض منا إلى تواريخ محددة، كسنة 1962، حيث يبدو عبد الرحيم واقفا على منصة المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدار البيضاء، أو يحنّ إلى سنة 1975 خلال انعقاد المؤتمر الاستثنائي وإلى ذلك الجدل الخارق للعادة الذي واكب إعداد «التقرير الإيديولوجي»، لكن الحنين ليس هو نفسه دوما، إذ ثمة ذلك الصوت الرزين الودود، وهو يتحدث بتؤدة كمن يسير فوق الغيم عن أشياء مألوفة لا يدركها ولا يستوعبها إلا المقربون، تخرج الكلمات الذكية من فمه وخلفها إيقاع الجاز العذب، المرصع بالآهات والعذاب والحشرجات، ويطرق الرجل بجفنيه ليخفي تلك النظرة اللماعة وهو ينصت وينصت وأنت تتعلم منه درس الصمت الكبير الذي يسبق أي كلام، ثم يتكلم عن الأدب في أرقى نماذجه وعن السينما والكتب التي ينبغي الاطلاع عليها، وتدرك أن من يتكلم هو أنت، لا هو، وتعلم أن سبب ذلك هو بعد المسافة, لقد صعد هو إلى السماء وازدادت في أعيننا، مرة أخرى، قامته طولا، فيما نحن هنا نحاول أن نخترق الحجب لنعيد اكتشاف ملامحه، لعلنا نستعيده، أو يعود إلينا, على الأقل، كي لا نبقى صغارا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.