عندما اتصل بي عبد الرحمان اليوسفي هاتفيا، يدعوني إلى الإدلاء بشهادتي في ذكرى اختطاف المهدي بن بركة، قبلت فورا من دون تردد. ولكن، كي تكون شهادتي صادقة ومفيدة إلى حد ما، عليّ أن أحدد منذ البداية، أن قضية اختطاف بن بركة، بالنسبة لي، مرتبطة ارتباطا وثيقا بقضية اختطاف أخرى: اختطاف أبي. ترتبط القضيتان إلى حد يجعلني عاجزا عن ذكر الأولى دون استرجاع الثانية، ولو بشكل عابر. في الثلاثينيات، كان عبد القادر برادة واحدا من أوائل الوطنيين في مدينة فاس، وقد نفي إلى الجزائر عام 1973 مع رموز الحركة الوطنية مثل علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني. غداة الاستقلال اختطف أبي في طنجة، في وضح النهار، أمام منزله في 12 غشت 1956 ، وبقي حتى الآن بلا قبر لأن جثمانه مفقود حتى يومنا هذا، كان مصيره مثل مصير المهدي بن بركة. كنت مراهقا عندما وقعت المأساة. ومع عائلتي قلبنا الدنيا لمعرفة مصير أبي دون جدوى برغم وعود محمد الخامس. والدعوى القضائية التي أقمناها أُوقِفَت بتدخل من الحكومة. وقد حاولت عندما كنت طالبا في باريس، في بداية الستينيات، أن أعمل على تعبئة الرأي العام الفرنسي من أجل قضايا الاختطاف، وكانت الشخصيات اليسارية التي قابلتها تنصحني بطرح قضية أبي مع المهدي بن بركة، بل إن أحدهم، وهو كلود بورديه، مدير أهم مجلة لليسار اتصل هاتفيا ب«بن» كما كانوا يسمونه من أجل الحصول على موعد لي معه. كانت تلك هي المرة الأولى التي ألتقي فيها بن بركة. استقبنلي في شقة في شارع لوريستون في الدائرة السادسة عشرة. حكيت له تطورات القضية فأجابني بأنه لا يعرف جيدا ملف الاختطافات في الشمال، وأن اليوسفي هو الذي كان يتابع ذلك، ونصحني بالاتصال به. كانت الأمور واضحة بالنسبة لي. لقد أحرجته بطرح القضية وهو يتخلص مني بإحالتي إلى شخص آخر. (...) مرت السنوات ولكن المأساة لم تمر. بقيت وكأنها في اليوم الأول. تسكن الحياة بل تحتلها. نفكر في المختفين ولا نتخلص أبدا من الإحساس بالذنب: هل فعلت كل ما كان علي أن أفعل؟ كيف يمكن لي أن أحيا حياة طبيعية؟ كيف يمكن لي أن آكل أو أدرس وأنا لا أعرف إن كان أبي حيا أو ميتا؟ كان علي أن أختار طريقا للخروج من هذه الحالة التي يمكن لها أن تقود إلى أسوأ النهايات. كان قراري الذي صار توجها لحياتي هو أن أتجنب أن تتحول قضية أبي إلى قضية طلب للثأر ألاحقه طوال عمري. اخترت أن أجعل منها قضية عامة، واعتبرتها ظلما ككل أنواع الظلم الذي يعاني منه المغاربة. كان أبي ضحية، ولكنه كان أيضا مناضلا وأفضل ما يمكن لي أن أفعله إخلاصا له وتشريفا لذكراه، هو أن أتابع نضاله. لكل زمن نضاله. بالأمس كانت المعركة من أجل الاستقلال ومعركة اليوم هي من أجل الديمقراطية. وهذا النضال علي أن أخوضه مع أولئك الذين يشاركونني الأهداف نفسها: اليسار والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. في مرحلة النضال في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في باريس ثم في الرباط، سمحت لي الظروف بالعمل مع المهدي. في الرباط كنت واحدا من أعضاء الفريق الذي يقود نقابة الطلاب مثل محمد الحلوي وأحمد لحليمي وعبد العزيز بناني... وبالمصادفة كنت أسكن في شارع تيمارا، مقابل بيت المهدي بن بركة. كثيرا ما كنا نلتقي به للعمل، وكنا نصادفه أيضا في آخر الليل أو في ساعات النهار الأولى. كان يحب متابعة الأمور عن كثب، كبيرة أو صغيرة. مشاكل التعليم أو التنظيم في الجامعة أو في القرويين أو في المدارس الثانوية العربية (النهضة في سلا مع عمر دهكون أو المعهد المصري في الرباط، مع فاضال الناصري) وكلها معاقل لليسار. بانتباه ورحابة صدر وحُسن نصيحة، كان المهدي يحترم استقلاليتنا دون أية نزعة سلطوية في علاقاته معنا. كان يملك قدرة كبيرة على الإصغاء ورغبة في الإغواء والإقناع. لم يكن المهدي موجودا في المغرب عندما تفجرت قضية مؤامرة يوليو 1963. ربما لأنه لم يكن يجهل ما يحاك، ولذلك غادر المغرب احتياطا بعد الاعتقالات الأولى مباشرة. خلال ذلك الصيف عشنا لعبة حساسة ومعقدة بين القصر والاتحاد الوطني للطلبة المغاربة. كان القصر يساير الطلبة كي يُدعم في الخارج فكرة أن حملة القمع لا تتعلق إلا بعدد قليل من قدماء المقاومين ولا تشكل تراجعا في التوجه الديمقراطي للنظام. بل كان يستغل أمام الرأي العام الخارجي البيانات العنيفة التي كنا ننشرها للتنديد بالقمع. لم نكن غافلين عن هذا بالطبع، ولذا أعطينا الأسبقية لتنظيم مؤتمرنا السنوي الذي كنا نريد له أن يكون برهانا على فشل سياسة كل من يحاول استعمالنا أداة لمخططاته أو تجييرنا لمصلحته. انتهى المؤتمر بإعلان بيان سياسي يعتبر حرفيا أن النظام الملكي هو العقبة الأساسية أمام إحلال الديمقراطية في المغرب. وعلى هذا الأساس انتخبت رئيسا للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. في اليوم التالي تسارعت الأمور اختُطِفتُ بدار المقري. استنكار في الخارج. أطلق سراحي بعد أربعة أيام. استنتجنا من هذا خطة الاستفزاز المحسوب كانت هي الأفضل. يجب علينا إذن متابعتنا وتكرارها. دعونا مجلس كونفدرالية طلاب المغرب إلى الاجتماع في الرباط، وهذه المرة سنعلن حرفيا أن النظام الملكي المغربي هو العقبة الأساسية أمام تشييد المغرب العربي. تمكنت من الهرب من محاولة جديدة لتوقيفي. وبعد شهرين من الحياة السرية المليئة بالمفاجآت اجتزت الحدود الجزائرية. تصادف أن يكون وصولي إلى بلاد بن بلا مع حرب الرمال، ولم يكن لدي أدنى شكل في أن الحسن الثاني هو الذي بدأ العدوان (وكنت مخطئا في هذا الاعتقاد). لم أتردد في المشاركة مع شبيبة جبهة التحرير الوطنية في تجمع جماهيري في ساحة الشهداء في باب الواد، في إدانة النظام الملكي المغربي متهما إياه بكل شرور الحرب. في الوقت نفسه اتخذ المهدي بن بركة مبادرة مماثلة بتأييد الجزائر، فعل هذا عبر إذاعة صوت العرب في القاهرة. لم يكن هناك أي اتصال بيننا في الشهرين السابقين. المصادفة وحدها هي التي جمعت المبادرتين في التوقيت نفسه. عندما سأراه بعدها في الجزائر سيلومني علي تحميل الملك مسؤولية الحرب. «هذا ما فعلته أنت أيضا»، قلت له. أجابني «أبدا». وهو يعطيني خطابه في القاهرة حيث يتحدث عن قطع يد من بدأ الحرب دون أي تحديد آخر. كان هذا النوع من الدقة في التعبير لا يخطر لي آنذاك. الحكم في الرباط أيضا لم يعط اهتماما لهذه الاعتبارات أثبتت المحكمة العسكرية علينا معا جريمة الخيانة العظمى في حالة الحرب وحكمت علينا بالإعدام معا. بعد هذا عملتُ مع المهدي في مناسبات عديدة في تنظيم حملة مساندة في العالم لضحايا القمع في تمثيل الحزب في حركة التضامن الإفريقي الأسيوي وقد كان أحد دعائمها، في التحضير لمؤتمر القارات الثلاث وقد كان مهندسه الذي لا بديل عنه مع جماعة الجزائر التي كانت تضم رجالا مثل مولاي عبد السلام الجبلي ومحمد بنسعيد وعبد الفتاح سباطه. عمل المهدي على إنشاء مدرسة عالية المستوى للأطر. وقد أتى من أوربا بالأموال اللازمة لتمويلها، وأعد لها مشروع برنامج للدراسة يضاهي أكثر البرامج جدية في العلوم السياسية. أحرص على ذكر هذا لتأكيد أن التكوين كان من أول اهتمامات المهدي في حياته كلها، وحتى النفس الأخير. في 29 اكتوبر 1965 وقعت المأساة. كلنا يعرف المسلسل: من التحقيق البوليسي إلى مافضحته الصحافة، إلى تجنيد الرأي العام في فرنسا والعالم، ثم التحقيق القضائي والمحاكمات والأزمة الديبلوماسية بين فرنسا والمغرب... ولكن، ربما كنا لا نعرف جيدا أن هذا الصخب السياسي الرائع لم يكن ممكنا من دون العمل الرائع أيضا الذي قام به عبد الرحمن اليوسفي. كان يمكن لاختطاف المهدي بن بركة أن يوارى بالصمت، أن يخفي بالتجاهل. ما أريد قوله هو أنه من دون العمل الدؤوب الذي قام به عبد الرحمن ما كان هناك ما نسميه قضية بن بركة. ولكن من هو بالضبط ذلك الشخص الذي اختطف في 29 اكتوبر 1965؟ كان للمهدي بركة أدوار متعددة.. هل اختطف زعيم اليسار المغربي الخطير، أم بطل تحرير العالم الثالث؟ نعرف جميعا أنه كان الصانع الرئيس لمؤتمر القارات الثلاث الذي كان مقررا له أن يعقد في 1 يناير في هافانا؟ كان لاختيار ذلك التي سيحل محل المهدي في العاصمة الكوبية دلالة رمزية وسياسية. اتخذت قيادة الحزب قرارا مفاجئا بل غريبا. وعبد الرحمن اليوسفي هو الذي أبلغني به: «أنت من عليه أن يترأس وفد الحزب»، وبرر هذا الاختيار بالحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية بالإعدام علينا معا. حاولت تنفيذ المهمة التي أسندت إلي على أفضل وجه، مع محمد باهي والحبيب سيناصر دون أن تكون لدي أوهام حول حقيقة أسباب هذا الاختيار: كان الأمر واضحا. قررت القيادة بواقعية وحكمة أنه من الأفضل لها أن تقوم بعملية انسحاب أنيقة من مؤتمر القارات الثلاث. كان المشروع الذي يريد أن يرسم طريقا ثالثا لتجنب اتخاذ موقف في النزاع الصيني - السوفيتي يتجاوز بكثير قدرات اليسار المغربي. بالاضافة إلى ذلك، فقد كان المؤتمر الافتتاحي الذي عقد في كوبا، على أبواب الولاياتالمتحدةالأمريكية، يبدو تحديا جريئا بل استفزازا ومغامرة. لقد كانت منظمة القارات الثلاث من صنع واخراج المهدي بن بركة، عملا قائما على إرادته وحيويته وقدرته الخارقة على العمل والتخيل، وعلى حسه التنظيمي وما كان يمكن لها أن تستمر من بعده. وهذا ما حدث فعلا. امتلكت منظمة القارات الثلاث التي أسست في هافانا مقرا وصارت لها فروع ... الخ في المدار الكوبي وبمرور السنوات لم يعد لها نشاط يذكر. اسمحوا لي الآن أن اعرض عليكم تأملات على شكل سؤال: إلى أي حد فشلنا في الوصول إلى الحقيقة في قضية بن بركة بسبب تفضيلنا الاهتمام بجانب واحد على حساب الجوانب الأخرى؟ إن القضية معقدة جدا. إنها ليست قضية دولة، بل قضية عدد من الدول. تتحمل المسؤولية في هذه القضية دول متعددة: المغرب وفرنسا، ثم بدرجة أقل، أو على الأصح، بشكل أقل وضوحا، الولاياتالمتحدةالامريكية وإسرائيل. عندما نركز اهتمامنا على المغرب فقط نمنع أنفسنا من رؤية الحقيقة كاملة. إن فرنسا لم تكن متورطة في هذه القضية على «مستوى ساقط ومنحط» كما ادعى دوغول. نتابع اليوم، وبشكل منتظم، نشر وثائق تكشف أن الجواسيس واللصوص الفرنسيين لم يكتفوا بتقديم المساعدة التقنية إلى عملاء المخابرات المغاربة، بل إنهم كانوا يتصرفون في تحضير عملية الخطف، لا كتابعين مأمومرين، بل كأصحاب الأمر. لم يكن دورهم ثانويا بل أساسيا. قبل أن أضيف كملة أخيرة تتعلق بشخصية بن بركة، أود أن أذكر بحقيقة بديهية. إن المهدي بن بركة ملك للجميع، ونستطيع بل إن من واجبنا، نتحدث عنه بحرية وصدق، دون أن نهتم كثيرا بصرامة قواعد التقديس. لقد كان المهدي بن بركة يجمع في شخصيته بين الطموح إلى الحكم والنضال من أجل الحرية في وقت واحد، مستخدما بالطبع أسلحة ذلك العصر. يكفي أن أعطي مثلا واحدا فقط، هو مناصرته لفكرة الحزب الواحد مثل كل اليساريين. لم يكن المهدي بن بركة ذلك الثوري المثالي الذي عممت صورته نهايته الفاجعة. كان «مزيجا من لينين وإدغار فور» كما وصفه جان لاكوتر. هو قائد ثوري يعمل على الوصول إلى أهدافه وفي الوقت نفسه سياسي محنك يهتم بتغيرات موازين القوى، ويبحث عن الحلول الوسط. بعد انتفاضه مارس 1965، نعرف أن القصر بدأ في مفاوضات مع اليسار واقترح على هذا اليسار تأليف الحكومة واعادة تجربة عبد الله ابراهيم. هنا علينا أن نتذكر نقطة هامة لا يعرفها الجميع: بينما كان عبد الرحيم بوعبيد يشترط تعديل الدستور قبل كل شيء، كان المهدي يتعجل في قبول العرض الملكي دون شروط. في آخر الأمر، يمكن لنا أن نتساءل إن لم تكون المزايا الرئيسية للمهدي ليست في هذا البحث الدائم عن الحلول الوسط والتسويات الديبلوماسية، وهذه القدرة على التأقلم مع الواقع لتغييره نحول الأفضول. إنها المزايا نفسها التي يتحلى بها صناع الديمقراطية الأساسييين، أعني عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي اللذان عملا منذ زمن بعيد، ودون هوادة، على تحقيق سياسة التناوب. تلك التسوية التاريخية التي يدين إليها مغرب اليوم. بالكثير.