أنهى المؤتمر الاستثنائي لحزب الاستقلال أشغاله مساء الأحد 4 دجنبر 1955 وبعد ثلاثة أيام تم تنصيب أول حكومة وطنية يقول الشهيد المهدي بن بركة عن ظروف تأسيسها في مقال بجريدة «التحرير» (7 دجنبر 1962)، يوم إجراء أول الاستفتاء على الدستور: «أصبح نظام الحكم بالمغرب غداة تنصيب الحكومة يمتاز بانتقال السلط من أيدي المستعمرين إلى مجموعة تضم الملك وحكومته التي تم تشكيلها بصورة شبه دستورية: اقتصر دور الملك على تعيين رئيس الحكومة الذي تفاوض مع الأحزاب في نسب المناصب المخصصة لكل منها وترك حرية تعيين اسم المسؤول في كل منصب، للحزب الذي ينتمي إليه الوزير. وبدأت الحكومة تُباشر مسؤولياتها الفردية والجماعية وكأنها تسير وفق دستور غير مكتوب، بل وتساهم في التشريع (بالحظ الأوفر) إذ أخذت لنفسها منذ البداية، حق اقتراح الظهائر والمراسيم التي كانت تُدرس مشاريعها في الوزارات المختصة ثم تناقش في المجلس الوزاري تحت رئاسة الملك ثم تختم وتصدر بالجريدة الرسمية دون تعطيل. كانت القوانين تهيئ في عهد نظام الحماية بالإقامة العامة ثم تعرض على الختم، وكان الملك يرفض الختم كلما وجد فيها مساسا بالمصلحة الوطنية، فأصبحت القوانين، بعد إعلان الاستقلال، تُصاغ تحت مسؤولية الحكومة التي تتمثل فيها (وإن بالتقريب) الإرادة الشعبية التي عادت إليها خصائص السيادة. وما كان على الملكية الدستورية التي بشر بها جلالة الملك محمد الخامس عند تنصيب الحكومة الأولى، إلا أن تصوغ القالب الذي انتقل بمقتضاه الحكم، من الإقامة العامة إلى الإرادة الشعبية المنسجمة مع القصر». تأسست الحكومة وكان من مهامها إجراء المفاوضات. حكومة إدغار فور وصلت إلى مرحلة نهايتها بعدما تقرر إجراء انتخابات سابقة لأوانها إثر حل الجمعية الوطنية الفرنسية في انتظار حكومة فرنسية جديدة تتولد عن المشهد السياسي لما بعد الانتخابات التي حُدد لها موعد 2 يناير 1956. ويوم 11 يناير 1956 احتفل المغرب لأول مرة في العهد الجديد، بذكرى تقديم عريضة الاستقلال وفي غياب الحاج أحمد بلافريج الأمين العام لحزب الاستقلال، ألقى الشهيد المهدي بن بركة خطابا أمام الجماهير بملعب أحمد شهود: «إننا على أبواب تجربة جديدة لتحقيق الاستقلال عن طريق المفاوضات، ندخلها بكامل الإطمئنان وبنية حسنة وما سيشجعنا على هذا، ما لمسناه لدى المحافل السياسية الفرنسية من خلال اتصالاتنا بهذه الأوساط من أن هناك استعدادات طيبة لحل مشاكلنا. ومع ذلك لا نجهل بأن كل تجربة جديدة تصبح بمثابة مغامرة قد تنطوي على أخطار ومزالق ولهذا فإننا مقبلون على هذه التجربة بكل شجاعة لأننا نثق في أنفسنا ونخوض هذه المرحلة على أساس الحصول على استقلال كامل وليس منقوصا...». وصل محمد الخامس إلى العاصمة الفرنسية يوم الإثنين 13 فبراير ليحضر، بعد يومين في قصر الإليزي، الجلسة الإفتتاحية للمفاوضات المغربية الفرنسية وقال الملك: «لا توجد بالنسبة إلينا أية حرية جديرة بهذا الإسم مقبولة في النفوس إلا في دائرة وحدة التراب الوطني وعدم قبول تجزئته وفرنسا والدول الموقعة على عقد الجزيرة وغيره من المعاهدات، تضمن هذه الوحدة ضمانا صريحا وإن قضيتنا العادلة ستحظى لدى جميع الدول الصديقة بالقبول الحسن الذي هي جديرة به». رد رئيس الجمهورية الفرنسية «روني كوتى» على الملك بقوله: «من حول جلالتكم هيئة ونخبة تدل دلالة واضحة على تشرفها بثقافة تضم أحسن وأرفع التقاليد الإسلامية و أسمى ما في مدينتنا اللاتينية». رغم أن المفاوضات بدأت في هذه الأجواء، فقد ظلت تتعثر في ظل حملات إعلامية كانت تقف وراءها، من يعتبرون أن المغرب غير مؤهل للحصول على استقلال تام يشمل السياسة الخارجية والدفاع. بل كان هناك حتى من يعترضون على أحقية المغرب في تدبير سياسته المالية بدعوى محدودية الكفاءات المغربية التي عليها أن تسهر على المؤسسات المالية والمصرفية. وهذا كان طبعا من الحقائق التي تركها عهد الحماية لمغرب عهد الاستقلال. ولن يتمكن المغرب من استعادة سلطة الدولة على البنك المركزي إلا بعد أكثر من ثلاث سنوات من إعلان الاستقلال ولن يحل بنك المغرب محل البنك المخزني إلا في يوليوز 1959 ولن تتم مغربة مصالح الإدارة المركزية لبنك المغرب إلا في عام 1966، عشر سنوات بعد الاستقلال، عندما تولى السي عبد العزيز العلمي منصب نائب والي البنك إلى جانب الوالي المرحوم ادريس السلاوي. قبل الشروع في المفاوضات الفرنسية المغربية، قد صرح بوعبيد لمجلة «الإكسبريس» في 17 يناير 1956 بأن مشكلتين ستطرحان أمام المتفاوضين بخصوص التمثيل الدبلوماسي وتنظيم الجيش: يجب أن يفهم الفرنسيون بأن الأمر لايتعلق بقضية أنانية وطنية أو حب الذات! هناك ضرورة حيوية لنتوفر حالا على تمثيل خارجي لأن المغرب المستقل يريد تحقيق وحدته الترابية ولهذا فهو في حاجة إلى أن يدافع بنفسه عن قضيته سواء مع إسبانيا أو مع الدول الأخرى الموقعة على عقد الجزيرة ومعلوم أن هذه الدول لا تقبل وساطة فرنسا إلا بصعوبة. وكان قرار محكمة العدل الدولية، قد برهن منذ سنوات على أن فرنسا لا تقوى وحدها على حمل الدول الأجنبية المذكورة، التنازل على مالها من حقوق بناء على اتفاقيات. وقد لا يخلو من فائدة لفرنسا أن تجد بجانبها لدى الأممالمتحدة وفدا مغربيا يتفق معها في التصويت على بعض المقررات. أما ما يرجع لتنظيم جيش وطني، فقد يكون من الغريب ومن الحيف أن المغرب الذي أوجد أثناء الحربين العالميتين كثيرا من الفرق المقاتلة، لا يتمتع بحق تنظيم جيش وطني. يوم الجمعة 2 مارس 1956، أصبح المغرب دولة مستقلة ذات سيادة... وسيعود الملك إلى أرض الوطن حاملا معه الوثيقة التي اعترفت بمقتضاها فرنسا باستقلال المغرب. الرئيس البكاي وقع باسم المغرب وكريستيان بينو باسم فرنسا على بيان مشترك: «إن حكومة الجمهورية الفرنسية وحكومة جلالة الملك تؤكدان إرادتهما على أن يُعطى المفعول التام لتصريح «لاسيل كلو»، ويشهدان أنه، إثر التطور الذي حصل بالمغرب، فإن معاهدة فاس لسنة 1912 لم تعد مطابقة لمقتضيات الحياة العصرية ولا يمكن أن تكون أساسا لأن تتحكم في العلائق الفرنسية المغربية. وعلى هذا فإن حكومة الجمهورية الفرنسية تؤكد رسميا اعترافها باستقلال المغرب مع ما يقتضيه من وجود جيش وتمثيل خارجي وعزمها على أن تحترم وتعمل على أن تُحترم وحدة الأراضي المغربية المضمونة بالاتفاقات الدولية». في مقال نشرته مجلة البلاغ المغربي ربيع 1983، بمناسبة مرور ربع قرن على مؤتمر أحزاب المغرب العربي بطنجة، كتب سي عبد الرحيم بوعبيد: «بمجرد التوقيع على الاتفاقات التي أعلنت استقلال المغرب، عُهد إلى بوصفي وزيرا للدولة مكلفا بالمفاوضات، بأن أقدم تحفظات ملحة بشأن الحدود المغربية: كان الأمر يتعلق بمناطق اعتُبرت دائما مغربية حتى من طرف الحكومة الفرنسية نفسها والتي لم تُقطع من التراب المغربي إلا سنة 1934 مثل تندوف وعين بنضال وأم العاشر وعين الصفراء.وبعد شهور اتفقت الحكومتان على تأسيس لجنة مختلطة عُهد إليها بتسوية المشاكل ولم يعرب القادة الجزائريون وقتها عن أي اعتراض لما أحيطوا علما بمواقفنا». الأستاذ محمد الشرقاوي كان عضوا في وفد المفاوضات كوزير دولة ويتذكر بأنه، بعد التوقيع على اتفاقية 2 مارس 1956، غادر «الكي دورسي» مقر وزارة الخارجية الفرنسية صحبة كل من وزيري الدولة عبد الرحيم بوعبيد وأحمد رضى اكديرة وقطع الثلاثة، راجلين، المسافة المؤدية إلى مقر إقامتهم في فندق بالضفة الأخرى لنهر السين، وكانوا يسيرون بسرعة في اتجاه مقر إقامتهم تحذوهم الرغبة في التخلص من البرد الباريسي القارس في شهر مارس وعند دخولهم إلى بهو الفندق كان كل واحد من الثلاثة يسأل الوزير الآخر: «هل صحيح أننا حصلنا على الاستقلال؟». بعد الإعلان عن استقلال المغرب شعر التونسيون بأن عليهم أن لا يكتفوا بالاستقلال الداخلي: كان الحبيب بورقيبة بالعاصمة الفرنسية تلك الأيام وعلم بالدور الذي لعبه بوعبيد في المفاوضات فاتصل به لمعرفة كيف يمكن لتونس أن تنال ما حصل عليه المغرب فكان جواب وزير الدولة المغربي: «عليك أن تعرف كيف تقنع «كريستان بينو» وزير الخارجية بأحقية تونس في الحصول على الاستقلال التام». وبعد أقل من ثلاثة أسابيع نالت تونس هي كذلك الاستقلال في إطار «الترابط الحر» يوم 20 مارس 1956.