إلى أحمد بلبداوي سقوط الإمبراطورية الرومانية يوم الأحد بعد الزوال لاحظت أن الريح كانت هوجاء، وكيما أكون دقيقا حدث ذلك على الساعة الثانية و تسع بعد الزوال. في تلك اللحظة و كالعادة - أي مثل كل أيام الأحد بعد الزوال- كنت جالسا على المائدة في المطبخ أدون يومياتي الحميمة الأسبوعية، و أستمع إلى موسيقى غير مستفزة. خلال الأسبوع، أكتب كل يوم أهم الأحداث بشكل مختصر، على أن أعيد كتابتها بعبارات واضحة في مذكرة يومياتي يوم الأحد. مجرد ما أن انتهيت من كتابة كل ما حدث إلى غاية يوم الثلاثاء، لاحظت ريحا هوجاء تصفر خلف نافذتي. توقفت عن الكتابة، أغلقت القلم بالسدادة، وخرجت إلى الفيراندا لإدخال الغسيل. كانت القمصان تصطفق في الريح محدثة صخبا حادا مثل أذيال مذنبات مستعدة لقطع حبال المراكب. الظاهر أن الريح قد هبت من غير أن أنتبه. فعندما نشرت الغسيل في الفيراندا في الصباح- على الساعة العاشرة و ثمانية وأربعين بالضبط- لم يكن ثمة هبة ريح. تذكرت هذه اللحظة بدقة وبصلابة غطاء على كوكوت- مينوت. وأذكر أنني قمت بهذه الملاحظة:» لا داعي لمسك الغسيل بالمقابض.» لم تكن ثمة هبة ريح حتى. طويت الغسيل ونضدته بعناية، بعد ذلك قمت بجولة في الشقة. أغلقت جميع النوافذ، فلم يعد يُسمَع تقريبا أي صفير للريح. كنت أشاهد من خلال النافذة الأشجار- قسطل وأرز الهيملايا- تتلوى بصمت وسط العاصفة، مثل كلاب تركت نهبا لحكة لا تحتمل، فيما كانت نتف الغيوم تجري بسرعة في السماء، شبيهة بعملاء سريين بنظرة شزراء. على فيرندا الشقة المقابلة، التوى قميصان أو ثلاثة حول حبل الغسيل النايلوني، متمسكين به مثل يتيمين ضائعين. عاصفة حقيقية، قلت في نفسي. رغم إمعاني النظر في تقرير النشرة الجوية من كل الزوايا، لم ألحظ أدنى إشارة تخبر بوقوع إعصار، فيما كان احتمال سقوط المطر صفر في المائة. و إذا ما صدقت النشرة الجوية، فيوم الأحد كان يعد بالاستقرار مثل الإمبراطورية الرومانية في ذروتها. تنفست الصعداء بكثافة بحوالي ثلاثين في المائة؛ أعدت طي الجريدة، وشرعت في ترتيب الغسيل في الدولاب. أعددت فنجان قهوة، و أنا استمع إلى الموسيقى الهادئة. بعد ذلك عدت إلى تدوين يومياتي مع احتساء القهوة. يوم الخميس، ضاجعت صديقتي التي تعشق ممارسة الحب بعصابة على عينيها. لهذا السبب تتنزه دائما وفي حقيبتها الصغيرة واحدة من تلك العصابات المنسوجة التي يقدمونها في طائرات المسافات الطويلة. بالنسبة لي هذه ليست إحدى عاداتي، على حين تبدو هي فاتنة بالعصابة على عينيها، ما يجعلني غير معترض على عادتها. فنحن بشر ولكل واحد منا حماقاته، أليس كذلك ؟ إجمالا، هذا ما قمت بتدوينه على صفحة الخميس، لأن سياستي فيما يخص اليوميات الحميمة هي ثمانون في المائة للحدث، وعشرون في المائة للملاحظات الشخصية. يوم الجمعة صادفت صديقا قديما بمكتبة غينزا. كان يلبس ربطة عنق بزخارف غريبة فعلا: عدد كبير من أرقام الهواتف على خلفية الخطوط. كنت قد وصلت إلى حد هذه السطور عندما رن الهاتف. ثورة الهنود عام 1881 كانت ساعتي تشير إلى الثانية وست وثلاثين عندما بدأ الهاتف يرن. قلت في نفسي: هي بكل تأكيد أعني صديقتي، صاحبة العصابة على العينين. فقد تعين أن تأتي لرؤيتي اليوم. أضف إلى أن من عوائدها مهاتفتي قبل المجيء. و قد قالت إنها ستذهب إلى السوق لشراء ما يلزم للعشاء. إذ قررنا تحضير المحار في القدر. يبقى أن الهاتف قد رن على الساعة الثانية وست وثلاثين دقيقة. المنبه إلى جواره. وفيما كنت أنظر إليه، رن الهاتف، كنت متأكدا تماما مما أزعمه. لكن عندما رفعت السماعة، تناهى إلى مسمعي صخب عاصفة رهيب. ريح عنيفة ووووووووو تصفر في السماعة، و كأن الهنود في الطريق إلى الحرب إبان ثورتهم عام 1881. لما أضرموا النار في أكواخ المعمرين، و قطعوا أسلاك الهاتف، و اغتصبوا كانديس بيرغن. ألو، قلت لمعرفة من المتحدث، غير أن صوتي تلاشى فورا وسط الزوبعة المتواصلة للتاريخ. ألو ! صرخت هذه المرة ... في سبيل نتيجة مماثلة. وأنا أرهف السمع، تناهى إلي بشكل ضعيف وسط هبوب الريح، صوت مبهم لامرأة. لكن ربما أكون توهمت، فقد كانت الريح شديدة بالفعل، ثم إن عددا كثيرا من الثيران الأمريكية قد قضمت الغبار من قبل. بقيت واضعا السماعة على أذني للحظة من غير أن أنبس ببنت شفة. ظللت ملصقا إياها لدرجة الإحساس بعجزي عن إزالتها. أخيرا بعد حوالي عشر أو عشرين ثانية، انقطع التواصل بغتة مثل توقف الحياة بسبب أزمة قلبية، و لم يتبق سوى صمت مطبق دون حرارة مثل ثياب داخلية غمرها ماء جافيل. غزو هتلر لبولونيا هيا إذن! قلت في نفسي متنهدا. ثم عدت إلى كتابة يومياتي. بدا لي من الأفضل الإسراع للانتهاء من ذلك. السبت، إذن، غزت بولونيا جيوشُ هتلر المصفحة. وابل من القنابل على فارصوفيا... لا أخطأت، ليس هذا. اجتياح بولونيا كان يوم 1 شتنبر 1939، وليس أمس. البارحة، ذهبت إلى السينما وشاهدتفيلم اختيار صوفيا لميريل ستريب. في حين أن غزو بولونيا لا يعدو أن يكون إلا واحدا من أحداثه. في الفيلم تطلٍّق ميريل ستريب دوستين هوفمان، وتلتقي بروبير دو نيرو في أحد قطارات الضواحي، مهندس في الأشغال العمومية في الأربعين من عمره، وتقترن به. فيلم لا بأس به. على الكرسيين المجاورين، جلس تلميذان في الثانوي. لم يتوقفا عن لمس بعضهما في البطن. بطن تلميذ الثانوي ليس سيئا. فيما مضى كان لي أنا أيضا واحد. عالم الريح الهوجاء حين أنهيت تدوين ما حدث لي خلال الأسبوع، وفقت أمام رف الأسطوانات لاختيار أسطوانة مناسبة لبعد ظهر يوم أحد عاصف. في الأخير، آثرت كونشرتو فيولونسيل لشوستاكوفيتش، متبوعا بأسطوانة لسلاي وفاميلي ستون. بدا ذلك اختيارا موفقا لبعد ظهر عاصف. بين فينة و أخرى، تعبر نافذتي أشياء محلقة في الفضاء. مر قميص أبيض في اتجاه الغرب، محركا كميه، مثل ساحر يحضر جروعا بالشُّريش، تتبعه يافطة من حديد أبيض، طويلة ومسطحة، ومقوِسة من الخلف فقرتها الضعيفة كلوطي هاو أثناء ممارسة الفعل. وأنا أشاهد المنظر الطبيعي من خلال النافذة، وأستمع لكونشرتو شوستاكوفيتش، رن الهاتف من جديد؛ إلى جواره أشار المنبه إلى الثالثة و ثماني وأربعين. وبما أنني كنت أتوقع صخب عاصفة شبيه بضجيج بوينغ747، رفعت السماعة، لكن هذه المرة لم يكن ثمة أدنى صوت للريح. ألو ! فاه صوت امرأة. ألو، أجبت مرجع الصدى. أرغب في رؤيتك الآن ومعي المحار، ألا يزعجك هذا؟ كانت صديقتي. وكانت ستصل، حاملة معها المحار والعصابة السوداء في حقيبتها. كلا، و لكن... هل توجد عندك طنجرة؟ أجل، قلت، و لكن ماذا حدث؟ لا أسمع صخب الريح. لا، الجو هنا هادئ. لقد توقفت الريح في ناكانو منذ الساعة الثالثة و خمس و عشرين، و سوف لن تتأخر في التوقف عندك أنت أيضا. ربما، كذلك، قلت، ثم أعدت السماعة إلى مكانها. أخرجت قدرا فولاذيا من دولاب المطبخ، و غسلته في مغسل الأواني. طبقا للتوقعات، توقفت الريح بالتدقيق على الساعة الرابعة إلا خمس. فتحت النافذة و نظرت إلى الخارج. كان تحتها بالضبط كلب كبير يتشمم الأرض بحدة. واصل نشاطه لمدة خمس عشرة أو عشرين دقيقة دونما كلل. لم أدرك جيدا لماذا كان عليه أن يتشمم تحت نافذتي إطلاقا. لكن لا بأس. بصرف النظر عن ذلك، بدا أن مظهر العالم ونظامه لم يتغيرا قيد أنملة خلال هذا الفاصل الريحي. أشجار الأرز وقسطل الهيملايا ظلت منتصبة من جديد وصامتة في العراء و كأن لا شيء حدث. تدلى الغسيل الجاف على حبل النايلون، وغراب واقف على رأس عمود التلغراف يحرك جناحين شديدي اللمعان مثل بطاقة بنكية. في تلك الأثناء، وصلت صديقتي، وشرعت تهيئ المحار في القدر. غسلته و هي واقفة في المطبخ؛ قطعت بحيوية الكرنب الصيني إلى شرائح دقيقة، وصففت مربعات الطوفو الصغيرة، ثم أعدت مرقا لتطبخ فيه ما حضرته. سألتها إن لم تكن حاولت مهاتفتي على الساعة الثانية و ست و ثلاثين. بلا، هاتفتك، أجابت، و هي تشطف الأرز في مصفاة تحت الحنفية. لم أسمع شيئا. حقا. كانت الريح قوية جدا في تلك اللحظة، قالت، وكأن الأمر يتعلق بتفصيل غير ذي بال. أخرجتُ قنينة جعة من الثلاجة، و جلستُ على حافة المائدة، ثم أفرغتُها في جوفي. ولكن في رأيك، لماذا تحولت الريح إلى عاصفة لتتوقف فجأة؟ سألتها مهما حدث. هذا ما ليس لي به علم، أجابت( و أدارت لي ظهرها منشغلة بتقشير الجمبري بأظافرها)، ثمة عدة أشياء نجهلها عن الريح، مثل ما هناك عدة أمور لا نعرفها عن العصور القديمة، و داء السرطان، وأعماق المحيطات، والكون أو الجنس. مم، قلت. غير أن ذلك لم يشبع فضولي. و إذ شعرت بخيبة أملي في إيضاح الحديث معها، صرفت النظر عن الأمر، و أخذت أنظر إلى إعداد طبق الطعام. هل أستطيع أن ألمس بطنك؟ سألتها. أجابتني، بعد قليل. و بينما كنت أنتظر أن تجَّهز الوجبة، دونت أحداث اليوم الهامة، في انتظار تحرير يومياتي الأحد القادم. هذا ما قمت بتدوينه. 1. سقوط الإمبراطورية الرومانية. 2. ثورة الهنود عام 1881. 3. غزو هتلر لبولونيا. و هكذا أكون متأكدا من تذكر ما حدث هذا اليوم بدقة، و حتى خلال الأسبوع. فالاحترام الشديد لهذا الإجراء سمح لي بالحفاظ على يومياتي منذ اثنين و عشرين سنة دونما إغفال يوم واحد. كل فعل هام له إجراؤه الخاص. أما أن تعصف الريح أولا تعصف، فعلى هذا النمط أعيش. المرجع: Haruki MURAKAMI, L' éléphant s'évapore, Edition Seuil, 1998.