جدتي امرأة طاعنة في السن، لم تشتم من ريح المدينة نفسا كبيرا، هي تزور أولادها كل حين، فتتخذ من كل مدينة مستقرا لها، غير أن لكنتها الشمالية، وأسلوب عيشها لم يتغير منه شيء.بدوية في لباسها ومأكلها ومشربها وطريقة مناداتها. استقر بها المقام كما اعتادت قبيل كل رمضان في مدينة الدارالبيضاء، ملأت جنبات بيتي متعة وغرابة، مواقفها الجميلة، وتصرفاتها الغريبة كانت تربك حياتنا حينا، وتملؤها وداعة ولطافة حينا آخر، ومع أنها تتدخل في كل شيء، وتنتقد كل شيء وتعترض على كل شيء، كانت تجد من أهل بيتي صدرا رحبا، وعقلا ناضجا. صدقوني، أنا لا أقبل خرافاتها وتعاويدها، غير أني لا أملك إلا أن أصيخ لها أذنا جامدة، لا تكاد تلتقط شيئا، وكنت أعلم أنها لا تكترث بكل هذا، إذ كنت أمامها كالصنم الجامد، فتأخذ بتلابيب كلامها، ولا ينقطع حديثها، فلها من كل موقف حادثة، ومن كل حادثة مثل، ومن كل مثل طرفة ونكتة، وأحيانا لا تستطيع أن تتنبأ بما يمكن أن تفعله إن قاطعها أحد، ربما أخذت بحزام سروالي تريد أن تضرب ولدي الصغير إذا ما اقترب إلي يكلمني. هكذا هي جدتي، تشم فيها رائحة الوالدة، وتصبر على هرمها، وتتعايش مع عقلها المهترئ. ومع أنها بلغت من السن ثمانين حولا، إلا أنها لم تسأم تكاليف الحياة، هي مقبلة عليها بنهم شديد، وأغرب ما في الأمر أن يدها تمتد كثيرا إلى التكنولوجيا، دون أن تدرك من سرها شيئا. جدتي حريصة على صلاة الصبح، لكني أعدم في بيتي وجود ساعة تستعملها كمنبه تستيقظ عنده للصلاة، لقد طلبت مني أن تستعمل هاتفي المحمول، وقالت بلغتها الجبلية: إيوا طيني ديك البورطال، تحا الله نوضو نصليو الصبح!! قلت لها بأدب، وبكثير من الحذر: لكن، آيما الحبيبة!! كيفاش ما شي تعمل لو؟ انتينا قل لي ونا نعمل!! أفحمني منطقها، فأردت أن أتهرب منها بلباقة، فقلت لها: آيما الحبيبة!! قل لي وقتاش ما شي دفيق، ونا نفيقك؟ فردت بصلابة وحزم: وهي انتينا دابا الفرخ ما شي يفيق يماه!!!!! أطبقت حينها، وعلمت أني إن لم أفعل، فقيامتي لا شك قائمة. جهزت المحمول، وأعددته حتى تستيقظ الجدة قبل الصلاة بنصف ساعة، حتى تتمكن من لحوق وقت الصلاة، فعادتها أن تحتكر بيت الراحة لوقت طويل. سعدت الجدة بهاتفي المحمول، وظلت تتناوله بكلتي يديها، وتزهو به، وتحرك حاجبيها وكأنها لم تتجاوز العشرين من عمرها. استوعبت موقفها ورد فعلها، فهي لا تنتمي بفكرها إلى عصر العولمة، غير أن خيالها يرجو ذلك، وتتألم كثيرا إذ لا تمتلك الآليات والأدوات التي تؤهلها لتتفاعل مع كل الأجهزة، بما في ذلك الانترنت الذي لم تبرح حاسوبي، وهي تحاول خلف ظهري أن تفهم بعض أسراره، غير أن لغة الانترنت كانت أبعد منالا، فكانت تفضل أن تنسحب بكل هدوء، وعليها علامات الحسرة. نامت الجدة طويلا بعد أن ازردت وجبة العشاء، كان شخيرها يملأ فضاء البيت، كنت أجد فيه متعة خاصة، بينما زوجتي لم تسعد بالنوم تلك الليلة، فراحت تبحر في عالم الانترنت، علها تظفر ببعض النوم. رن جرس المحمول مؤذنا بدخول وقت الصلاة، لا أدري كيف ستتصرف جدتي؟ كيف ستسكته؟ زاد الجرس من صوته المزعج، أرادت جدتي أن تسكته، غير أنها ضغطت على زر المكالمة، توقف جرس المحمول هنيهة، وانطلق بعدها هاتف المنزل يرن!!!! أسرعت الجدة لتجيب عن الهاتف، قبضت السماعة، وأرسلت تقول: هو حتى واحد!!!هاد المساخيط ليفيقوا الناس في هذا الصباح وما لا يردوشي!!!! أرادت جدتي أن تعاملهم بذكاء بدوي، فلم ترجع السماعة لمكانها، لقد تركتها فوق المكتب، وقالت بصوت مسموع: مزيان دابا ليماهم، يخسروا لفلوس ديالهم، ونوريهم كيفاش يلعبوا على الناس!!!! رجعت من المسجد، استرحت قليلا، تناولنا إفطارنا، وأخذت هاتفي النقال، فقالت جدتي بأدب ولياقة: والله يا ولد بنتي!! خصك تشري لي بورطال!! ماغاليشي عليك آيما الحبيبة. كان لي موعد مهم مع أحد الأساتذة، أردت أن أذكره، فركبت الرقم، غير أن صوتا انبعث من هاتفي النقال صدمني قائلا: إن رصيدكم لا يسمح بإجراء أية مكالمة، المرجو تعبئة رصيد بطاقتكم!! رجعت على التو إلى لائحة مكالماتي، فوجدت جدتي قد تكلمت مع هاتف منزلي لمدة ساعتين. لقد قادها ذكاؤها الجبلي إلى إنهاء كل رصيدي!!!!. فأيقنت بعدها أن العولمة لم تستطع بالفعل أن تعبئ جيل جدتي، وأن جيلنا مطلوب منه أن يتحمل مسؤولية عجز هذه العولمة، ولو كلفه ذلك أن يخسر خدماتها.