"سيدقون بابك لا محالة!" قال لي قبل أن أهيل عليه التراب. ثلاثة أسابيع بعد ذلك، بدأت وفودهم تصل. راقبني أولهم ساعة طويلة وتقفاني عبر دروب المدينة ثم حاصرني عند إحدى العتبات وقال لي "أرجوك، لا أطيق". ضغط عليّ وانتزع مني موعدا في نفس الليلة. ثم انهمرت عليّ جحافلهم. لن أدعوكم لرؤية الأمور التي لا تطيقون. لن أربط لكم واحدا منهم إلى شجرة في ساحة الحي كي تروه وتلمسوه. لن تصدقوني لو قلت لكم إن الذي جالسني بالأمس وتظاهر برشف القهوة بصوت مسموع وفاوضني مفاوضة شديدة وعاتبني طول الوقت باكيا ثم قهقه ضاحكا حين أعطيته موعدا هو الآخر، كان منهم هو أيضا. حكاياتهم بشعة. وقد أصبحت أرتاع منهم. بدأ كل شيء ذات ليلة من تلك الليالي الشتوية التي ينزل فيها الضباب الخفيف على طليطلة ويبلل جدران المباني القديمة وأحجار البلاط فتلمع تحت أضواء المصابيح ويتسلل عبر أزقتها الضيقة الملتوية وفوق الأدراج والمنحدرات والأقواس والزوايا المظلمة ويلف المباني المتآزرة المغرقة في القدم والبيوت المهجورة التي يخشى المرء أن يطل منها وجه عجوز فارغ المقلتين في أي لحظة. كنت عائدا من سفر قريب ومشيت نحو بيتي غير مطمئن ونزلت أدراج زقاق "إيل ديابلو" ضاربا الأرض بكعب الحذاء لأستأنس بصوته. كانت المدينة خالية إلا من بعض المارة المتأخّرين. حين أفضيت إلى ساحة "الكاتدرائية" اعترض سبيلي رجل بادي القلق والتوتر. أوقفني عنوة تقريبا وسألني: - عفوا سيدي، أبحث عن كنيسة في هذه الناحية. فكرت قليلا وتذكرت أن هناك كنيسة قريبة فقلت له: - أجل، هناك خلف هذه المباني كنيسة اسمها سان أندريس. أجابني بسرعة: - لا، ليست هي. أبحث عن كنيسة أخرى، لكني لا أذكر الاسم بالضبط. - لعلّك تبحث عن الكاتدرائية، وها هي أمامك، ما عليك إلا أن ترفع عينيك لترى أبراجها. در حول هذا السور وستجد بابها من الجهة الأخرى. - كلا. أبحث عن كنيسة حقيقية تقام فيها الجنائز. الكاتدرائية لم تعد سوى مزارا سياحيا. ثم إنني أعرف سرها... دنا مني أكثر وهمس: - إنها كاتدرائية مزيفة، إنها الجامع الكبير! لم أفهم ما يعنيه ولم أشأ أن أستفسره –سأعلم فيما بعد أن الكاتدرائية شيدت فوق أنقاض الجامع الكبير بعد هدمه وعاينت بنفسي ولمست بشوق عمودين رخاميين رشيقين غريبين بين الأعمدة الغوطية الضخمة قيل لي أنهما من بقايا المسجد-. قلت له متفاديا أي تواطؤ معه: - لا أذكر كنيسة أخرى في هذه الناحية. غرز عينيه في عيني. لمحت ارتعاشة خفيفة فيهما. - لقد تواعدت مع زوجتي وأولادي في الكنيسة لحضور جنازة السيد غونثاليث، ألا تعرفه؟ كان رجلا طيبا ومات وهو في السادسة والخمسين من عمره. قالوا لي إنها في هذه الناحية وإنهم سيكونون في انتظاري، لكني لا أذكر اسمها. هل كنت تعرفه؟ - من تعني؟ - السيد غونثاليث. توفي غرقا في النهر، هناك تحت القنطرة. تعذب كثيرا قبل أن يسلم روحه. كانت المياه باردة. تخيلْ الماء البارد المترب يدخل من أنفك ومن فمك إلى رئتيك، وأنت ملقى في قاع النهر مكتوف اليدين والرجلين تتلوى والجرح الذي في صدغك هو الأكثر إيلاما. وفي الأخير تخمد بعد أن يمتلئ جوفك بالماء والتراب. إنها معاناة رهيبة. - لا، لا أعرف السيد غونثاليث. - زوجته اسمها خوسيفينا. خوسيفينا مارغريتا ديل أولمو غراندي. - لا أعرفها. - ترمّلتْ بقية حياتها وعانت من الوحدة. لكنها تستحق. فهي أفعى حقيقية. أبغضت زوجها الطيب وأذاقته الويل. أكاد أجزم أنها لن تكون حاضرة في الجنازة. أثار قوله "ترمّلت بقية حياتها وعانت من الوحدة" الريبة في قلبي. بدا أنه يخلط حكاية قديمة بالحاضر. لاحظ الشك في وجهي فسارع إلى إخراج قطعة جريدة من جيبه وقال لي: - انظر، ها هو نَعْيُهُ. مدّ أمام عيني قطعة جريدة متغضّنة ومصفرّة وكأنها تعرضت للبلل. قرأت بالإسبانية: "السيدة خو...... مارغ...... ... الزوجة الوفي... ...أولادها الأبرار ينعو... السيد غونثا... ديلام... الذي توفي عن سن ...... والخمس... ...... ...ارفهم أن يحضروا الجنازة التي ستق... غ... في كنيسة... ... ... ... ... كان اسم الكنيسة مبتوراً بالكامل وكانت أجزاء كثيرة من النعي والدعوة إلى الجنازة غير مقروءة . سارع بإخفاءها قبل أن أسأله. ابتدرني قائلا: - اللئام! دائما يتكلمون هكذا عن الأموات! الزوجة الوفية والأبناء الأبرار! ما أبشعهم! دارت عيناه بسرعة. كان أنفه مدببا يبعث على الشك. أطال النظر إلي. بقيت واقفا بأدب أمامه حتى يكون هو أول من ينصرف. لكنه أبطأ. حك ذقنه ونظر إلى عيني. ارتبكت قليلا. كانت حركاته غريبة. بدا لي أنه يريد أن يقول لي شيئا لكنه يبلع كلماته في آخر لحظة. كان يرفع عينيه نحوي ثم يخفضهما مرة تلو الأخرى. فجأة فهمت نظراته. إنه مرعوب. أجل، لا بد أنه فريسة لخوف هائل. حينئذ تلاشى ارتباكي وحل مكانه الخوف. تراجعت خطوتين إلى وراء. خطا نحوي ومد يده متشبثا بي. قال لي بصوت متهالك: - أرجوك، لا تتركني. تَلَفّتُّ حولي. وخزتني عظام أصابعه الباردة وكأنها أخشاب لا لحم عليها. أحسست بقطرات عرق باردة على جبيني. قال لي: - ناديتك منذ أسبوع بالهاتف لكنك لم تسمع صوتي. لا يمكنك أن تتخيل المجهود الهائل الذي أبذله حتى أستطيع الكلام. - ناديتني بالهاتف؟ متى؟ لا أفهم ما تقول. - أجل، ناديتك. تذكّرْ، هناك فوق، في المقبرة. اصطكّت مفاصلي. فعلا، حدث لي أمر غريب يوم الخميس. كنت قد قرأت في مكان ما أن زيارة المقابر فيها مواعظ كبيرة للناس، فصعدت إلى مقبرة المدينة. وحين كنت خارجاً من بابها بعد أن تجولت بين أشجار السرو الحزينة والشواهد المرمرية، رنّ هاتف عمومي معلق على الجدار هناك. نظرت حولي، وتطلعت خلف زجاج غرفة الحارس الصغيرة فاكتشفت أني كنت وحيدا. رن الهاتف من جديد. اندفعت نحوه ورفعت السماعة. قلت بالإسبانية: - آلو، آلو، هل تريد الحارس؟ لم يجبني أحد. كررت السؤال باللغة العربية مشاكساً ومُضْفِياً على الأمر المزيد من الغرابة. لم يجبني أحد. قلت في نفسي لعل المنادي خاف مني. لعله ظن أني ميت قام من القبر ليمازح الأحياء. ذهبت بعيدا في تخميناتي وابتسمت وأنا في الحافلة أنحدر وأصعد في مرتفعات المدينة حين خطر ببالي أنها قد تكون زوجة الحارس ولعلها ظنت حين سمعتني أتكلم بالعربية أني ميت من أيام الأندلس ومازالت روحي المعذبة تحوم في المدينة باحثة عن الخلاص. سيزداد خوفها من المسلمين بكل تأكيد. أمعنت في نظرياتي. لو كانت أرواح المسلمين ما زالت تهيم في هذه الأرض، فقد يفسر هذا خوفهم اللامعقول منا. لعل أرواحنا ما زالت تحاصرهم وخصوصا تلك التي عذبت في الحروب والفتن وفي أقبية محاكم التفتيش. - أرجوك، رافقني إلى الجنازة. قالها بلطف تعارض مع القوة التي جذبني بها. كان عقلي وقلبي يعملان بسرعة. نظرت حولي فاكتشفت أن المارة القلائل الذين كانوا يمشون في الساحة قد اختفوا تماما وأصبحنا وحيدين. رأيت شبح قط أسود يقفز من أحد المباني إلى البلاط. تنبهت فجأة لأمر غير معقول كنت قد غفلت عنه لسذاجتي. قلت له بصوت واه وأنا أخطو إلى وراء: - جنازة في منتصف الليل! هذا لا يعقل! من أنت وماذا تريد مني؟ ارتخت يده وسقطت عني. جلس القرفصاء وراح ينتحب بحزن. قال لي: - حتى أنت! لا أحد يرحمني. كان أملي فيك كبيراً. وبذلت جهدا لا يطاق حتى ألتقي بك. استعدت بعض الجأش حين رأيت تهالكه، وتلاشى خوفي وحلت محله شفقة عارمة. أقبلت عليه ووضعت يدي على كتفه. سألته: - لا أفهم. اشرح لي من فضلك. - عدني أولا بأنك سترافقني إلى الجنازة. - سأرافقك. - وعدُ مسلم؟ - أجل، وعد مسلم. قال لي: - لن يحضر أحد جنازة السيد غونثاليث. تنكّر له الجميع. لا يرحمونه حتى في موته. عذبه أهله وألقوا به في النهر بعد أن أثخنوه بالجراح. سألته: - وما أدراك؟ لعلنا نجد أناسا كثيرين في توديعه. سنجد زوجته وأولاده وأهله وأصحابه. صاح في وجهي: - كلا، لن يأتوا. القشتاليون الملاعين لن يأتوا! - دعك من كل هذا اليقين. - رأيتُ ذلك بعيني. لم يأت أحد. القسيس نفسه لم يأت. القسيس كان أشدهم عداء. - رأيتَ ذلك بعينك؟ كيف وأنت لم تجد الكنيسة بعد؟ عندئذ نظر إلي نظرة عميقة. تمتم معاتباً: - تتكلم كأنك لم تفهم بعد! أنا الميت. أنا آنخل غونثاليث، وأنا ميت منذ قرووون. مطّ وجهه نحوي وهو ينطق بكلمة قرون. تراجعت إلى الخلف. لم يمهلني حتى أطلق ساقي للريح. أسرع بالتشبث بي مرة أخرى بأصابعه تلك وقال مستعطفاً: - لا تتركني، أرجوك. رافقني. لقد وعدتني. لا تخني مثل الآخرين. كنتُ صديقا للمسلمين، كان كل جيراني مسلمين. وقد أحببتهم. وبسبب ذلك أهملني قومي وأهلي وقتلوني وحرموني من الجنازة ومن الدفن. آه من القشتاليين الملاعين! شرح لي أمره الغريب ووصف لي آلات التعذيب التي عذبوه بها في محاكم التفتيش وألقوا به في النهر ظنا منهم أنه قد مات. لكنه مات تحت الماء. طلب مني أن أدفنه حتى أخلصه من عذابه. ترجّاني أن أقيم له جنازة إسلامية، وترجاني أن أصلي عليه وأنشد ذلك الشيء الذي ينشده المسلمون. وحين رأى ترددي، نزع حذاءه ثم الجورب فرأيت. مشينا طويلا عبر أزقة المدينة الضيقة الملتوية واجتزنا الأدراج والمنحدرات والأقواس والزوايا المظلمة. كان الضباب كعادته في ليالي الشتاء قد جثم على المباني القديمة وبلل أحجار البلاط. خرجنا من "الباب المردوم"، وصعدنا التل خارج المدينة. كنت أردد بصوت عال ذلك الشيء وهو يحاول ترديد ما يسمع بلكنته الإسبانية ويمشي أمامي ويلتفت نحوي وهو يضحك ويبتسم وعيناه تلمعان بجذل. عندما وصلنا تمدد في حفرة قديمة وهو يردد "الله كريم!" "الله كريم!" أشار إلي مودعا وقال وكأنه يزفّ لي بشرى: - لقد اعتنيت بأن تكون الحفرة موجهة إلى القبلة. أضاف وهو يبتسم هازئا وباحثا عن تواطؤ مني: - نكايةً بالقشتاليين الملاعين! بقيت ساعة طويلة عند رأسه أقرأ عليه وهو يتنهد ويردد بصوت خفيض: "الله كريم!" مع الفجر انحدرت راجلا نحو المدينة وأنا أفكر في الجنازة الغريبة والميت القافز أمامي كطفل جذل وهو يسعى إلى قبره بقدميه، لكني تسمرت في مكاني بغتة إذ عادت إلى ذهني بقوة كلماته الأخيرة قبل أن أهيل عليه التراب: - هناك الكثيرون مثلي ما زالوا يبحثون عمن يقيم لهم جنازة. سيدقون بابك لا محالة!