الكل يعلم الأهمية الكبرى للأدوار السياسية التاريخية الريادية التي لعبها المناضلون في حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ المقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى يومنا هذا من أجل التقدم في مسلسل دمقرطة البلاد وإنقاذها من الفتن. فبعد تحقيق الاستقلال، تجند رواد الحركة الاتحادية، إلى جانب المغفور له الملك محمد الخامس وإخوتهم في الحركة الوطنية، من أجل بناء الدولة العصرية الديمقراطية الحداثية. إلا أن تفاقم حدة الخلافات حول طبيعة المشروع المجتمعي بين المرحوم الملك الحسن الثاني وقادة الاتحاد وعلى رأسهم المهدي بنبركة فرق الإرادات السياسية وتم فرض منطق الازدواجية "التقليد/المعاصرة" من طرف واحد، وتشكلت القوة الثالثة بدون سند تاريخي لحماية المنطق المخزني الجديد. أمام هذا المعطى، لم يكن أمام رواد الحركة الاتحادية إلا أن يعبروا على وطنيتهم وتعلقهم بالملكية كنظام للحكم، وقرروا إستراتيجية النضال الديمقراطي مبكرا (سنة 1975). وبالرغم من الإعلان الرسمي على هذا القرار الموضوعي والوطني، دخل المغرب مرحلة غريبة الأطوار سميت فيما بعد بسنوات الجمر والرصاص قدم فيها الإتحاد تضحيات جسام تكبد فيها القائد عبد الرحيم بوعبيد العناء والمعاناة الكبرى، معاناة تفاعل معها عقله ووجدانه وإنسانيته لسنوات عجاف إلى أن أنهكت صحته، وتسببت له في خلل في وظيفة جسمه جراء إصابته بالمرض الخبيث، ووافته المنية شريفا عفيفا نقيا محبا لهذا الوطن (مراسيم جنازته حضرها الألوف من المغاربة وتتبعها بحزن كبير الشعب المغربي بكامله). مرارة المرحلة ومعاناة المرحوم عبد الرحيم كانتا مرتبطتان بتشبث الإتحاد بالنضال من أجل الديمقراطية بأي ثمن وبدون ملل ومهما كانت حدة ممارسات التزوير والتدليس، حيث لم تنفع مع هذا الإصرار كل أنواع المساومات والإغراءات. واستمر المد والجسر بين السلطة المخزنية والقوة النضالية الاتحادية إلى أن أعلن المرحوم الحسن الثاني عن فتح أبواب القصر للتوافق مع المعارضة التاريخية لإنقاذ البلاد من السكتة القلبية بعدما اقتنع بضرورة إنهاء مرحلة الصراع التي توجت بشعار "لا غالب ولا مغلوب". وبالدخول إلى التوافق، شكلت هذه المرحلة بالنسبة للإتحاد مكسبا قويا ومنعطفا سياسيا في إستراتيجية النضال الديمقراطي. لقد تبين للنظام السياسي في بداية التسعينات أن الدولة لا ولن تستقيم إلا بإعطاء الانطلاقة لبناء الديمقراطية وترسيخ الحرية. وتوج المسار الجديد بعد ذلك بحصيلة إيجابية لحكومة عبد الرحمان اليوسفي وبتجديد الثقة في حزبه في الاستحقاقات البرلمانية لسنة 2002، حصيلة وتواجد إتحادي ساعدا على انتقال العرش بين ملكين بشكل سلس وثقة كبيرة في المستقبل. وبدون الدخول في التفاصيل لما حدث ما بعد 2002، قدر الإتحاد، لاعتبارات وطنية، ضرورة تقديم تنازلات جديدة وقرر المشاركة في حكومتي جطو وعباس الفاسي للتقدم في الإصلاحات التي تحقق منها الجزء الكبير تحت قيادة اليوسفي. واليوم، بعد التأكد من بلوغ زمن الديمقراطية والحقوق والحريات، واستحضارا للحمولة السياسية لنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة (25 نوببر)، قدر الإتحاد مرة أخرى، من باب مسؤوليته التاريخية والوطنية، أن المرحلة الحالية تستدعي منه المساهمة في فتح المجال لتناوب ثان يدعم الديمقراطية كأساس لإعطاء الانطلاقة لمرحلة فرز الهويات في العمل السياسي بعيدا كل البعد عن ضغط هواجس المقاعد البرلمانية والوزارية. إنه قرار جاء كتتويج لإقرار دعم المسار الإصلاحي الذي استمر منذ التسعينات إلى 2011. فاختياره الخروج إلى المعارضة ليس اختيارا مزاجيا، بل أملته عليه مجددا مسؤوليته السياسية ومصلحة الوطن. إن الإتحاد يرى أن تقوية الحياة السياسية بعد 25 نونبر تتطلب تفرغ مناضليه لإعادة بناء ذاته ليتمكن من الإسهام في تحقيق تناوب حقيقي في المستقبل القريب، تناوب بتقاطب سياسي بهويات إيديولوجية واضحة المعالم. لقد تأكد تاريخيا أن تحقيق التحولات المطلوبة والمزيد من الوضوح في السياسة لا يمكن أن يتم إلا بالإتحاد برأسماله السياسي وبمرجعيته الاشتراكية الكونية الإنسانية. فبفضل نضال الاتحاديين تمكن المغرب من المرور من الحكم الفردي إلى التوافق ثم إلى مرحلة انبثاق الأغلبية من صناديق الاقتراع (2011)، ويطمح من خلال خياره التاريخي للعب دور المعارضة في إعطاء الانطلاقة لبناء التقاطب بين العائلات السياسية بهويات واضحة. وفي الأخير نقول، أن واجب إعادة بناء الذات بالنسبة للإتحاد أصبح اليوم أمانة ثقيلة يتحملها الاتحاديون أينما حلوا وأينما وجدوا. إنها أمانة التقدم في بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي من خلال الإسهام في تقوية عزيمة الشعب المغربي للتقدم إلى الأمام غير مبال بدعوات العودة إلى الوراء أو إلى الأصول الواهية وغير المبررة عقليا. إن التقدم الواعي إلى الأمام يستدعي تقوية العزائم لمواجهة كل أشكال الأصوليات المتربصة منذ عقود بالمنافع والامتيازات الاعتبارية والمادية. لقد حان وقت تحقيق الالتقائية بين القوى الحية في البلاد لترسيخ الانفتاح ومناهضة الكبت والعنف والنفاق، ولإسقاط الأقنعة، ولإضعاف العرقيات المبتدعة والتعصبات المذهبية العقائدية والقبلية البالية، وللحد من نظام الارتزاق والاسترقاق ومعاداة التكافؤ والحرية والإبداع والحداثة. في اعتقادي، إن مغرب اليوم في وضع مريح قد يمكن الشعب المغربي من القدرة على رفع اللبس مجتمعيا على خبايا السياسة وعلى كل ما يتعلق بالقراءات التقليدية الانتهازية للتراث والسلوكيات المبتدعة المرتبطة به. والاتحاديون في المعارضة، عليهم أن يستحضروا أن حزبهم كان وراء تمكين البلاد من قطع مراحل عصيبة من تاريخها حيث انتقلت بدون فتن من سلطة المخزن والشرفاء ورجال الدين إلى سلطة الديمقراطية، وهذا شرف كبير للوطن وللاتحاديين ولكل المغاربة.