( أُنشئ هذا النص خصيصا للمؤتمر الدولي السادس» ألكسندر فون همبولت وابن بطوطة» عن أدب الرحلة، والذي انعقد من 21 إلى 24 نونبر الماضي بالمغرب، بجامعتي ابن طفيل (القنيطرة) ومحمد الخامس (الرباط) وحضره باحثون وأدباء من الولاياتالمتحدة، وأمريكا اللاتينية وأوروبا الغربية، والعالم العربي.) 1 مذ وقت طويل، طال، وأنا بين هناك وهنا. أحسبني،أحيانا،هنا، وأنا هناك. أعني بين أرضين، فضائين، سماءين، بشريتين،حتى وآدم واحد. حين أقول أذهب إلى الشرق، بالتحديد المشرق العربي، تكون عندي نقطة الانطلاق، إما المغرب بلدي الأصلي، أو فرنسا، حيث أقيم بتقطع، منذ ثلاثة عقود. في منتصف سبعينات القرن الفائت سافرت إلى بغداد مشاركا في مؤتمر شبابي، في شهر آب (أغسطس) الذي يسميه العراقيون بحق اللهّاب. عرّجت منها في طريق العودة على بيروت، زمنَ سِلمها وبهرجتها الأخّاذة. هنا وقعَ بعض قلبي، ومن يومها والأيام ُتسلكني تباعا في عِقد هواها، ورغم كل ما فات وانطوى لم تبرد جمرة الهوى،وها أنا باقٍ أترنح جيئة وذهابا،تارة مشدودا إلى حبل الرغاب، وأخرى قلقا، مرتجّا عنها في الغياب. 2 يَفترض قرب بلادي من أوروبا أن أعانق شمال المتوسط، وتكون ديار الغرب، التي يعبدها العرب، مَحجِّي وافتتاني الأول،على الأقل في بداية طريق التيه؛ يُفترض. إنما لا شيء من ذلك. أو بعضه. كأنه نداء قديم وصلني إلى الدارالبيضاء على عتبة المحيط الأطلسي، حيث تعلمت السباحة صبيّا، قال اتبعني لأعلمك الغوص،هناك،على الساحل الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. مشيت، السماء من فوق هُدبي، والأرض تحتي، ومعي شدوي ووجيبي. غبت ولم أستفق إلا بعد أن غمغمتْ شفاه بيروت باسمي، وفي الآن نطقتُ باسمها، ومن يومها ارتدينا غلالة الأسرار. صار المكان عندي محرابا أنا الذي صلى للمرة الأولى في قلبه. وعلى جسدي رحت أنقش أوشام العيون وتسابيح الديار. 3 لم يكن النداء غريبا عني. خمّنت أني سمعته وأنا بعدُ نطفة. حين صرت علقةً صار هو خفقاً، وأول ما حبوْتُ ارتقيت ذُرى الصوت ليُبلغني أرض أجدادي. ليس لأن أبي أخبرني بأن جذور شجرة العائلة تمتد إلى هناك، فلكلٍ ما يشاءُ من ادّعاء،علما بأن لا أحد ينازع في نسَب علي الشريف دفين تافيلالت في جنوبنا المغربي،هو العربي الأصيل،ذو النفس الزكية،الذي احتمى من رمضاء فِتن المشرق بوداعة الرمال المغربية،حيث النخل ثامر والإيمان ريّان. مذ ولدت وريحٌ خفيةٌ تهدهدني لتميل بي حيث لا تستقر الأقدام. خرجت من طفولة الآخرين لأقطن طفولة عمّرتُها بوحدة مفرطة وفي شغافها اختزنتُ كل المشاريع التي لم يسعفني لا مقدوري ولا حُلمي على تنفيذها،مصمما أن أعيش من أجلها،أشدُّها استعصاءً، لكن أقوى جاذبيةً، لعبةُ الكتابة، اللذيذة، الممضة،ربما تعويضا عن كل ما فاتني من لعب الأطفال واستخباياتهم، والسفر اليوم، الترحل بين الأماكن والأزمنة، من مغارب الأرض إلى مشارقها. 4 لا فصلَ محدد للشرق. أيّ زمن هو له، حدَّ أني والأزمنةُ تسرقني من نفسي أبحث عني فيه. ما كان نداءً أمس،غدا همسا،أو حنوّ لمسة،وربْتة تحنان. أتسلق الأوقات أحيانا صاعدا مدارج السماء علني أقطف نجمته، فتَعتِب سائلة، مستنكرة:»أو تحسبني انطفأت، بدّلت كوكبا بكوكب، بينا مذ نَطقتَ وأنا في جوفك المضيئة». قلت:»بلى،إنما كلما عتمت الدنيا،أقبل الشتاء المضني في ليالي الغرب الطويلة، واعتصرتني قبضة غربة من طول غياب باتت كليلة، أخاف أن لا أراك بعد،أتشاءم من بُعدي عنك، فأغرق في بحر اللهفة،تهرب مني كل البلاد.». 5 أعود أرتجّ من سؤالي، قد تغير حالي، ما عدت أعرف سؤلي: «ترى، أيّ بلاد هذه ما أطلب؟». من شدة امتدادي في الأمكنة أحسَبُها أحيانا تجريدا، تتناوب عليها الأسماء، بينا جوهرُها باقٍ في الإسم الواحد، يستمد مُسمّاه من ساكنته، أوعاصفته، أو قلبي سيهوي حتما فيه. ومنذ أن فضَحَنا علم النفس، لم يعد أحدٌ قادرا على ادعاء الثبات في المكان، ولا ترويج وهم الاستقرار وخلو البال. ذاب كل يقين، والتعلقُ بوثن المكان ضربٌ من الإيمان بالجسد الفاني. لكنهما معا، ورغم هذا التحدي، يصعقاننا بالحضور الفتاك، بوهج التجلي، بافتضاح جليل ومعشوق، تخترق معه الرغبة حدود الإيمان،هي ما لا يعترف بأي حدود،وعندئذ نركب هوج الرياح باتجاه الأسطورة وأرض الأنبياء،هناك، هناك في الشرق حيث الشمس ُتشمّ، تدغدِغ الحواس! 6 رحلاتي الأولى تمت بالصدفة، لحاجة خارج إرادتي أو رغبتي،لمن قرر بالنيابة عني أن أذهب،وجدني أو افترض أني صالح لهذه المهمة أو تلك في القاهرة،أو بغداد،أو بيروت. عرفت هذا في حقول السياسة، والصحافة، والأدب، في فترة كانت منتديات اللقاء واللغو عند العرب كثيرة،ومتنافسة،. عموما، فالذين يركبون هذه الأسفار، يفعلون ذلك من أجل أنويتهم، يحسَبون أنهم سيكبرون بالحضور هنا وهناك، تسمعهم ينطقون من أفواههم لا من جوفهم،أو يتخيلون أن مهام خطيرة موكولة إليهم، وحين تنتهي مهامهم يعودون مسطحين كما ذهبوا،بلا إحساس، ولا ذرة عقل إضافية، فإن قلتَ لهم إن الرحلة خيال قبل كل شيء فغَروا أفواههم لا يفهمون،أو يستغبونك، لأنهم فعلا لا يفهمون، ستسمعهم يهزؤون بها، إنه يحلم صاحبنا هذا، الخيال، هه، الهبَل بدل الخيال، ولا أملك إلا أن أوافقهم، لأني قبل ذلك انخرطت في اللعبة، وتماهيت مع الخداع، لكني وأنا على شفير الهاوية، والاستسلام لنرجسية وصفقات التكاذب العلني، استرجعت ذاتي، نبهتني أني من نطفة الحلم خرجت،هو رحمي وسيبقى عيشي وملاذي، إن فارقتُه توحّلت في القاع، وصرت نهبا للسفلة، وهم كُثر في جميع العصور، تتعدد وجوههم، بيد أنهم يتشابهون في حالة واحدة: كونهم يشخرون وهم يمشون في واضحة النهار؛ أي مفارقة؟! في الأخير، لا هم سافروا، لا ركبوا بحرا، ولا جوّا، قبلهما الأرض ما ساروا في مناكبها حقَّ قدرِها، إنهم يراوحون بؤسهم، ولو اتفق أنّ طيف خيال همّ بهم تطيّروا منه فتداعوا إلى بيعه لأول شارٍ عابر، ليعودوا إلى سالف سفالتهم، ودَرَك تكاذبهم، وكذلك يفعلون! 7 انفصلت باكرا عن موكب الزفاف الجماعي المغشوش، لأنهجَ بإرادتي طلاقا مفتوحا، لا أنا أدفع مهرا للجواري، ولا ممن يتاجر في صكوك النخاسة أو يباع بها. بين شهرزاد والسندباد انبجس مائي الذي منه أبحرت، قاصدا الشرق الذي منه جاء أجدادي، وتركوا في دمي وصية وشم لأجدّد أحلامهم كلما غاض ماء دجلة أو امّحل بَرَدَى، ولا تسل عن النِّيل بأيّ ماء اليوم َ يسيل؟! ما أحسست إلا ويدي في يدها، قذفني الأطلسي إلى لُجة المتوسط من فوهة العينين، وإذا الماء اشتهاء، والزَّبَدُ الذي انتفض شخَصَ لي منه كائنٌ أحدٌ تيّهني منذئذ تفرُّدُه، رغم أني لا أكاد أستقر من نزوة العدد، والآن أذكر رغم طول الأمد أن الأرض دارت بي دورتين، فما عرفت بعدَ أن دخلت في ليلين، والنجوم كُنَّ عِداداً شهوداً،أإلى مشرقها أنتمي،أم تراني،منذ بدء الخليقة، سليلُ الفرقدين، لكني لا مناص اليوم أشهد، وقد طال بي تطواف العمر ونزيف النظر، أني لولا لمسة تلك الليلة، وشطحة الحلم.. ما كنت أحداً، أحد! 8 أنا من قرر الذهاب، بملء عقلي، وحُمَيّا وجداني، وبوَسَن حلمٍ مشى في نومي ويقظتي، سطرتْه الكلماتُ، ورسمتْه الصورُ المنفلتة، حقيقيةً، ومتخيلةً، وثالثة مبتغاة، وذي مجتمعةً تشكلت في عالم تراوح بين الواقع والخيال، فصرتُ حين أنطق الشرق، فإني أترنح بينما مَن في الخارج يراني أمشي أو أفكر مستقيما. مثل الحروف التي هي من خارجٍ أشكالٌ ثابتةٌ فيما هي بالأحرى في حركة دائبة، حسب تلاقيها، وتلاقحها، وتناسلها المستمر من عبارة لأخرى. منذ اللوح الأول عرفت أني جئت من الصحراء وكلما سطرتُ حرفا فوقه نبَتَ عشبٌ، كلما نبتتْ كلمةٌ أينعتْ زهرة، وحين حفظتُ ما تيسر من القرآن رأيت اللوح ازدان حقلاً بملء النباتات والألوان. كل حرف عربي قرأناه وسطرناه في اللوح، نحن أبناء المغارب،هو شمس عربية أشرقت في قلوبنا، وانشرحت لها الصدور.هكذا بدأت علاقتي باللغة العربية، أن لا أفكر،لا أحس،لا أنظر إلا من عينيها، وعيونُها خلابة. لا أجد من يفهمني حين أقول إننا لا نتعلم اللغة، ولكن نحس بها. طبعا، يمكن أن نتكلم ونكتب بلغة ما، إنما ماذا وكيف، أعني اللسان الذي يفيض بما في القلب، وهذا ضرب من الموهبة، مزيج من الفطرة والسحر، مثل الزهرة البرية في أرض مجدبة. بذا،أيضا، صار الشرق عندي كتابا سأتملى طول العمر قراءة فصوله، سأطوي الصفحات وأنسى لأتذكر، من غير أن أشك وأستغرب، أحب فيها لفطرتي أن تمضي على سجيّتها مُضيَّ أيّ مخلوق في المكان الذي يألفه، ويتبدّه عنده شكله ولونُه ورائحته. أما ما يستوقفك، ويستنفر حاسة انتباهك فهو بالطبيعة غريب عنك، يأتيك من خارجك، وتخاطبُه بوعيك،بغريزتك، فهل تحتاج أن تفكر لتستنشق الهواء أو تحضن طفلك؟! 9 كذلك الشرق عندي صار َبشَرَتي، أعرضها للشمس، فأسمعهما يتهامسان ويتسارّان،أيُّ سر تبادلاه خفية عني؟ تحسب بينهما حميميةٌ مفردةٌ منذ الأزل. تحت البشرة دغدغةٌ، ضحكات متكتمةٌ، ونزقٌ طفوليٌّ، وفوقها الكلام الدافق يطرُق الأذن، ينفذ إليها على أكثر من محمل، والأصوات كأراجيح أو كرات لعب نارية، تصدر من أفواه الباعة ُتروِّج البضاعة بأشكال بهلوانية، فما يلبث الصوتُ أن يصبح لوناً، واللونُ رائحةً، والرائحةُ شمساً وقمراً، والروائحُ إما مضمّخةً أو متعرقةً بصهد الفصول،أطفالٌ يهرجون، ورجال مكشوفون وملثمون، آخرون موشومون كي لا تخطئهم العين، يمشون، يتخبطون، ينفثون حرائق الدخان طول النهار وهم مستخفون، محترقون على الأغلب من دواخلهم، فرسانٌ ومحبَطون، لكن لا يتأففون، كأنه قدرٌ أن تكون عربيا، شريعةٌ لا قِبَل لك بالرِّدَّة عنها أن تحيا مشرقيا، ولدتَ هنا أو نطفتَ في الثلث الخالي. ها النساء يمشين فوق حلفاء النهار،أو يرفلن خلسة على حرير المساء، تكاد تقول لا توجد امرأة أنثى إلا في الشرق، عربيا أو أقصى، لأن الشرق امرأة شبقة، معطاء، مشتعلة، محترقة بنارها وحارقة،لا يقربهن إلا نساء أولاد حريز في الشاوية المغربية، اللواتي يتغير تحت مشط أقدامهن كلما رقصن أو مَجنْنَ شكلُ الكرة الأرضية، دعك من تلال أردافهن؛إنهن خِلاّني وخالاتي، في الغجريات الموشومات صادفتهن، وواحدةٌ بالذات في عمّان قادمة من بادية لو سمّيتها سيعيدُ ذبحي أهل عشيرتها لأنها ببساطة ذبحتني،وهذا ليس مجازا، لما أشارتْ بطرف العين اتبعْني وقد رأتني أكاد أهوي في السوق العربي، فسِرتُ خلفها، محمولا فوق هودج أحلام مائجة ورغاب هائجة، جلبابُها ليلٌ، ونقابُها خفاءٌ، وكُحلٌ لعينين خليجين، والنفََسُ المبحوح يسبقني ينفذ قبلا في الما بين، هيا اركضي أيتها المهْرة الجامحة، فلما أركبتني الجائحةُ صهلت فيّ خيلُ تغلِب، وحتى عادٍ وتمود البائدة، ومسدتْ تحتها شعرَها فإذا هي الريحُ التي حملتني من بحر الظلمات إلى مشرق الصبوات، وها أنا بينهما أسأل بحرقة : أين اليقين؟! 10 ... وكان مذ تركَ مغربَه ورحل إلى الغرب، تصور أنه مُلاقٍ يقينَه هناك. في البداية كان كلمةً أكبر منه. صاغتها المزاعم، الطموح، قلة التجربة وقلقٌ وجودي غامض مناسبٌ للعمر. بدا الغرب افتراضا بدلا لمغرب/ مشرق لا يشفيان الغليل. كل رحلة هي تركٌ لقديم سابق، وسعيٌ نحو جديد لاحق. بلادنا فقيرة، وأحلامنا شحيحة، ورغباتنا لا تكفيها حدود أرضنا، نفسُها التي لا نبذل ما يكفي من جهد لمعرفتها، لأن أدواتنا ومحيطَنا لم يساعداننا على ذلك البتة. ولأننا إما فضوليون أو نابهون أكثر من اللازم،لا نطيق الغفلة، أحببنا أن نكتشف بدورنا هذا العالم الباهر خارج حدودنا لنثتبت أننا موجودون حقا ونتمكّن مما يفهمنا هويتنا أو يصقلها، أو أيّ شيء نصنع به حضورنا،نحن الجيل الجديد المزعوم،إبان ستينات خلت،في وجه فئات وثقافة ومراسيم تمكّنت من الحاضر بقدر ما سيّجت المستقبل على كيفها. تركتُ المغرب إلى ما تصورته الغرب، لا الغربَ في ذاته. لم تكن وقتها رحالةً بعد، وإنما أقرب إلى هاوي حفريات، لأنك تبحث في الخارج عن ما له علاقة بالداخل،أو سيفتح مغاليقه. ثم لأن هذا العالم الذي نذهب إليه يمثل صورة مفترضة لدينا نتخطى بها حقيقته الشاخصة، ولأننا نحتاج قبل ذلك إلى عيون مدرّبة على البصر نفتقر إليها غِبَّ الوصول، فنعيش وقتا في الأوهام قبل أن ينبلج الصباح على حقائق ضاحكة أو مؤسية. لتيقنوا مما أقول عودوا إلى ما كتبه العرب جميعا عن غربهم وستكتشفون العجب العجاب من البطولات الوهمية، والسذاجات المثيرة. 11 في وقت لاحق أبصرتِ العيونُ، فرأتْ عالما جديرا بالنظر، وحياةً تستحق أن تعاش، وهذا موضوع آخر، إنه استطراد عن ما كنت فيه، قلتُه لأعود إلى الشرق المتوهم عندي بدوره. شرقي، بعبارة أخرى، نظيرَ إسقاطي عنه في البداية أكثر مما كان وسيكون. أوَلَا يقول المثل العربي إن»حبك الشيء يعمي ويصُم»، وكذلك كان. غير أن لعبتي بلا حدود، فكلما توغلتُ في الرحلة وعاودتُها، كَسَوْتُها جِدةََََ نسيجٍ وألوانٍ أصوغُهما من «هواي ومن جنوني»، من هنا ننتقل من الرؤية إلى الرؤيا، من هنا تختلف مدن الكاتب عن المدن الطوبوغرافية، إنها تنسخ فوق الحواضر خرائط مرسومة بأهداب الروح وريشة الخيال وأجنحة التخييل،حيث تَرى الخلق غير الخلق، كأنه أول التكوين، والأمكنةََ والأشياءَ ومذاقات الحياة تصطبغ بوجود آخر، يغدو الأصحَّ والأبهى،لذا يغرق الناس في قراءة الرواية، وسماع الحكاية، والتعلق بالخرافة عبر العصور، ورغم كل ما يطرأ من تطور. إن كاتبا مشتهرا جدا اليوم مثل كويللو ليلبي بسخاء هذه الحاجة حتى وأدبُه سوقيٌّ حد الإسفاف. ولطالما نظر الغرب إلى الشرق من عيني شهرزاد، وما زال، وما رحل أحدٌ من أدبائه إليه إلا ليتغذى من هذا الزاد، وما كان ينقصني الخيال في مغربي لأرحل إليه، ولا كنت أبتغي العقل العاقل حين يمّمتُ شطر الشمال، فعن أي مهجة أو مقلة كنت أبحث، وما زلت بعد طول تطواف، وجدت لم أجد،هويت أهوى، خطاي تسابق خطوي،أحس أني سأظل مثل سميّي أحمد أبا الطيب «على قلقٍ كأن الريح تحتي»، لا الغواية تكفيني، ولا الجراح تقتلني، ولا في الأرض متسعٌ، بين مشرق ومغرب وغرب لجسدٍ ُمضغتُه كلماتُه، ودمُه فورةُ غضب ضد ضيم دامٍ، ولسانُه هتاف مضرمٌ لغد مشبع بالنّكد والأوهام، فيما حالُه أن لا يبيع لا بالغالي ولا بالبخس حسامَه. هو، بعد أن ترك مغربه، تشظّى بين الفرقدين، فصرتُ في كل رحلة أبسُط له مزيدَ الأرض، وأنشر له كثيف السماوات كي يتذرّر أكثر، فذاك ديدُنه، وليكن الله في عونه، فإلى أين يمضي بعد أن أصبح الغرب مثواه، وله في الشرق مضارب خيام ومغناه، وهو ما انفك بعد يطارد الشظية تلو الشظية، حتما حتى فناه!