بالنسبة لحزب الاتحاد الاشتراكي، فإن الأمر لا ينبغي أن يبقى مجرد عملية حسابية للحقائب الوزارية بقدر ما ينبغي أن يطرح نقاشا عميقا ينصب حول آفاق عمل الحزب . وموقعه في الخريطة السياسية من منظور خدمة المشروع الديموقراطي الحداثي .و أتصور أن نقاشا موضوعيا لا يمكن أن يتجنب مجالات التوافق و الاختلاف سواء تعلق الأمر بالمرجعيات أو بعمق طبيعة البرنامج الحكومي و مدى ملاءمته لاختيارات الحزب الحداثية . فانتصار العدالة و التنمية لا ينبغي أن ينظر إليه من زاوية واحدة بل من عدة زوايا . و لا يمكن الإدعاء أن صناديق الاقتراع قد تكلمت و علينا أن نساير منطوقها . فالعدالة و التنمية بالرغم من انتصاره لا يمكن أن يحكم لوحده . فهو محتاج للآخرين . و علينا أن نكون واضحين في اختياراتنا لأنها سترهن من جديد مستقبل الحزب الذي بنى برنامجه الانتخابي على إقرار مواطنة تقطع مع الكثير من الممارسات و تعمق كرامة و حرية المواطنة و المواطن في مواجهة كل أشكال الوصاية. أبرزت الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها التي جرت في 25 نونبر مجموعة من الإفرازات التي ينبغي الوقوف عنها و التأمل في دلالتها اعتبارا لخصوصية المرحلة ، وكذا تداعياتها على الفترة المقبلة . فالمعطى الأساس الأول يكمن في المناخ العام الذي تمت في ظله هذه العملية الانتخابية . فبشكل إجمالي ، فقد تمت في ظروف مقبولة تستجيب للمعايير العالمية للممارسة الديموقراطية . و في هذا السياق ، و في انتظار التقارير النهائية لمختلف مؤسسات الملاحظة الانتخابية ، فإنه يمكن القول أن بلادنا قد نجحت في إقرار الآلية الانتخابية كأداة لا تشكيك فيها لتدبير التنافس بين القوى السياسية . فالإجراءات و التدابير التي اتخذت مكنت من إجراء استحقاق لم يتم الطعن في مصداقيته . و ربما قد تكون قد شابته بعض الخروقات ، و لكنها تبقى ثانوية و غير مؤثرة في المناخ السليم لكل عملية من هذا النوع . و يعني هذا الأمر أن التراكم الذي حصل لحد الساعة قد ساهم في تنقية العملية الانتخابية ، دون أن يعني ذلك أننا وصلنا إلى الكمال ، بل لا مناص من مواصلة الجهود لتحسين الأداء و الحد أكثر من الشوائب التي قد تشوه إرادة الناخب. و تشكل هذه المعاينة الربح الأكبر للتطور السياسي لبلادنا الذي يتم بشكل تدرجي هادئ وسلس . يكمن المعطى الثاني في التطور الإيجابي لمعدل المشاركة الانتخابية . فقد انتقل من %37 إلى 45 % . ورغم أنه يبقى دون المأمول, حيث لا ننسى أن أكثر من النصف من الناخبين لم يقوموا بهذا الواجب ، فإنه على خلاف ما كان يعتقد البعض ، فإن هذه الانتخابات لم تتم في ظل اللامبالاة و العزوف ، بل شهدت استجابة أحسن للمواطن . و بذلك يمكن إدراكها كانخراط للمواطن في التحول الديموقراطي السلس الذي يسير فيه المغرب ، و الذي كان من لحظاته البارزة دستور فاتح يوليوز الذي وسع من فضاء الحقوق و الحريات و أعاد هندسة السلطات . لكن هذه النسبة تتطلب جهودا إضافية لرفعها ، وقد يكون في مقدمتها السهر على تطبيق ديموقراطي لمقتضيات الدستور الجديد في اتجاه خدمة الشأن العام ، و تخليق الحياة السياسية ، و إرجاع الاعتبار للسياسة كفعل شريف و ليس مجرد مجال للمناورات و الحسابات .فضلا عن ذلك ، فإن نسبة المشاركة تحتاج من الفاعلين السياسيين و المختصين وقفة أعمق لقراءة دلالاتها وخاصة القوى المستفيدة منها ، و البواعث المحركة للسلوك الانتخابي للمواطن . ثالثا : إذا تركنا هذه المعطيات المتعلقة بمناخ الاستحقاق ، فإن ما يهم أساسا في كل عملية انتخابية هي النتائج المترتبة عنها . و هي تدفعنا إلى مجموعة من الملاحظات : 1 : إن فوز حزب العدالة و التنمية لم يشكل في حد ذاته مفاجأة . فكان هناك شعور قبل إجراء الاقتراع بإمكانية حصول ذلك . لكن الكيفية التي فاز بها ، و التي جعلته بعيدا عن أقرب منافسيه لم تكن منتظرة . فقد أصبح يحوز أكثر من ربع مقاعد مجلس النواب . و هو يسجل هذا الانتصار كنتيجة لعدة عوامل . فمن جهة هناك تداعيات الربيع العربي التي كانت ايجابية, حيث عجلت بكثير من الإصلاحات ، لعل أبرزها المقتضيات الدستورية الجديدة التي أعطت للحكومة اختصاصات فعلية واضحة ووسعت من أدوار البرلمان خاصة مجلس النواب ، فاتحة بذلك آفاقا جديدة للتطور السياسي في بلادنا . هل كان من الممكن أن نتصور هذا الزخم بدون هذه الرياح الجديدة ؟ لكن علاوة على ذلك يمكن أن نشير إلى عاملين مفسرين ذي طبيعة متباينة : يكمن الأول ، وهو هيكلي في قدرة الحزب رغم طابعه المحافظ على تمثل ثقافة و ممارسة حزبية حداثية . فهناك حضور مستمر داخل المؤسسات التمثيلية و هناك تعاطي بشكل احترافي لقضايا السياسة فضلا عن انضباط ملحوظ في التنظيم . و هذه المواصفات تتمايز عما هو سائد في أغلب الأحزاب السياسية الأخرى التي ربما فضلت تبني شعارات حداثية دون أن تعطيها الزخم العملي وخاصة ما يتعلق بالانضباط والتفاعل العضوي مع انتظارات المواطنين . و يكمن العنصر الثاني ، و هو ظرفي ، في نوع من الإحساس لدى الرأي العام أن الحزب يتعرض باستمرار لمؤامرة إبعاده لكونه يمثل نموذجا متميزا في مواجهة النموذج الحزبي السائد . بمعنى آخر ، فقد قدم على أساس أنه الضحية لكونه يريد بلورة ممارسة مغايرة . و قد نساير التحليل الذي يعتبر أن إن شاء التحالف من أجل الديموقراطية أو ما يسمى مجموعة الثمانية بالكيفية التي تم بها و محاولة إبرازه على انه موجه بالأساس ضد حزب العدالة و التنمية لم يكن اختيارا موفقا . فقد بدا كتجمع سوي على عجل و لا يرتكز على مرجعيات صلبة . لذلك بدل أن يضعف حزب العدالة و التنمية ذي المرجعية الدينية ، فقد زاد من تقويته ومن تعاطف الناخبين معه . الشيء الذي رفع بشكل كبير من نتائجه 2 : في مقابل هذا الاكتساح ، نسجل تراجعا لمختلف القوى التي شاركت في انتخابات 2007 ،بدءا من حزب الاستقلال الذي فقد ريادته للمشهد السياسي ، إذا أخذنا بعين الاعتبار كون مجلس النواب أصبح يتكون من 395 بدل 325 في المجلس السابق . وحتى حزب الأصالة و المعاصرة الذي لم يكن قائما خلال الانتخابات السابقة ، يمكن اعتباره من المتراجعين إذا أخذنا بعين الاعتبار النتائج التي حققها خلال الانتخابات المحلية لسنة 2009 . في نفس الوقت ، فقد احترمت الهرمية الحزبية . فلم يستطع اي حزب آخر اختراق النواة الصلبة للتشكيلة الحزبية المغربية رغم ادعاءات البعض منها خلال الحملة الانتخابية بإمكانية القيام بهذا النوع من الاختراق . أكثر من ذلك ، فإن عددا من القوى التي تؤثث المشهد السياسي لم تستطع أن تضمن أي مقعد في البرلمان .و عليها أن تستقي الدروس و العبر من هذا الحضور الباهت الذي لا صدى له في المجتمع . 3 : على خلاف ما كان في السابق ، فإن هذه الانتخابات قد تسهم في خلق أغلبية منسجمة . فعمليا حزب العدالة و التنمية يتوفر على كتلة نيابية مهمة . و يمكن له حسابيا الاكتفاء فقط بحزبين من الكتلة لقيادة حكومة مغايرة للخليط الذي كانت تتكون منه الحكومات السابقة . لكن توجهه قد يتجه نحو توسيع التحالف من خلال العمل على إدماج أحزاب أخرى . فقد عبر في أغلب تصريحات مسؤوليه أن الخط الأحمر يتمثل فقط في عدم التحالف مع حزب الأصالة و المعاصرة . و قد لا نستبعد إمكانية الانفتاح على الحركة الشعبية . و بالنسبة لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي لا يملك ثقافة المعارضة قد لا يجد غضاضة في الانضمام إلى التحالف الحكومي . وإذا تحقق هذا السيناريو ، فإن ذلك يعني أن تحالف الثمانية لم يكن في العمق إلا مجرد تحالف حكومي سرعان ما انفرط عقده بفشله في الحصول على المرتبة الأولى لتشكيل الحكومة . كذلك ، فإن حزب الأصالة و المعاصرة سيجد نفسه و حيدا في المعارضة . و هي مهمة ستكون صعبة بالنسبة لحزب لا يتوفر على تراكم في هذا المجال رغم أن الدستور قد أعطى المعارضة إمكانيات لإسماع صوتها داخل قبة البرلمان . في هذا الإطار ، فإن انتصار العدالة و التنمية مؤشر افتراضي على التغيير ، و على ممارسة سياسية يمكن أن تساعد على تحسين مصالحة المواطن مع السياسة ، و لكنه في نفس الوقت حامل لكثير من القلق الناتج عن الظرفية الاقتصادية الصعبة التي سيتم فيها تطبيق الوعود الانتخابية ، خاصة الاقليمية المتعلقة بالأزمة التي يتخبط فيها الجوار الأوربي . وقدرته على تحويل الوعود الانتخابية إلى استجابات فعلية . فضلا عن حدود الفصل الذكي بين فضاء الحريات الخاصة و تدبير الشأن العام في اتجاه يخدم ترسيخ دولة القانون و المؤسسات . 4 : بالنسبة لحزبنا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، فإنه لم يتمكن من تحسين موقعه . و بالنظر إلى عدد المقاعد المحصل عليها و زيادة أعضاء المجلس يمكن القول أننا سجلنا نوعا من الانخفاض . و يعني هذا الأمر أن مسلسل التراجع ما زال مستمرا . فلم يعد الحزب قادرا على أن يتموقع كقوة رئيسة في اللعبة السياسية المغربية . فالدرجة الخامسة لا تليق بحزب ذي ماض كبير و حامل لمشروع تقدمي ، و متوفر على طاقات مهمة . يتطلب الأمر مرة أخرى القيام بتقييم موضوعي للنتائج على ضوء الاستحقاق برمته وكذا فتح آفاق لإرجاع الإشعاع و المكانة التي تليق به . سيقع مرة أخرى على الأجهزة الحزبية ، و في مقدمتها المجلس الوطني عبء تحديد موقع الحزب خلال المرحلة المقبلة . من المرتقب أن يتوجه حزب العدالة و التنمية نحو أحزاب الكتلة لتشكيل الحكومة المرتقبة . . و بالنسبة للحزب ، فإن الأمر لا ينبغي أن يبقى مجرد عملية حسابية للحقائب الوزارية بقدر ما ينبغي أن يطرح نقاشا عميقا ينصب حول آفاق عمل الحزب . وموقعه في الخريطة السياسية من منظور خدمة المشروع الديموقراطي الحداثي .و أتصور أن نقاشا موضوعيا لا يمكن أن يتجنب مجالات التوافق و الاختلاف سواء تعلق الأمر بالمرجعيات أو بعمق طبيعة البرنامج الحكومي و مدى ملاءمته لاختيارات الحزب الحداثية . فانتصار العدالة و التنمية لا ينبغي أن ينظر إليه من زاوية واحدة بل من عدة زوايا . و لا يمكن الإدعاء أن صناديق الاقتراع قد تكلمت و علينا أن نساير منطوقها . فالعدالة و التنمية بالرغم من انتصاره لا يمكن أن يحكم لوحده . فهو محتاج للآخرين . و علينا أن نكون واضحين في اختياراتنا لأنها سترهن من جديد مستقبل الحزب الذي بنى برنامجه الانتخابي على إقرار مواطنة تقطع مع الكثير من الممارسات و تعمق كرامة و حرية المواطنة و المواطن في مواجهة كل أشكال الوصاية . إن مستقبل الحزب الذي يمثل النواة الصلبة لتطلعات الحركة التقدمية المغربية يبقى رهينا بقدرتنا على بلورة اختيارات واعية لا تتحكم فيها فقط اعتبارات ظرفية و ذاتية ، بل توجهها خدمة المصالح العليا للبلد برمته .