لا يسعني إلا أن أهنئ الشعب المغربي على اجتيازه للمعركة الانتخابية بسلام خصوصا أن احتقان الوضع الداخلي كان يثير تخوفات من عدم مرورها بسلام، وأتمنى صادقا بعد أن تم مخطيها بنجاح نسبي، أن تنجح كل الجهات التي شاركت فيها في التقليص من حجم التشوهات المهيمنة التي اعترت ثقافتها وأشكالها وتفاعلاتها، والتي يمكن أن يلاحظها أي إنسان بيسر ووضوح -أينما يمم نظره- سواء كان الملاحظ مواطنا عاديا، أو دارسا أو مراقبا أو متتبعا ومحللا سياسيا؛ ما يدفعه لطرح السؤال الملحاح الذي يفرض نفسه، هل أنها (الانتخابات) بكل مستوياتها تعكس تحولا حقيقيا نحو الديمقراطية؟ أو بشكل أخر هل الانتخابات عندنا كما في دول العالم الثالث رديف الديمقراطية؟ خاصة أنه من المعروف أن العلاقة بين الانتخابات والديمقراطية علاقة تلازمية: بنيوية وتأسيسية بحيث لا يمكن تصور إحداهما بدون الأخرى. فالديمقراطية تقوم على أساس المشاركة السياسية الواسعة للشعب، وما تنتجه من ثقافة وقيم تداول السلطة عن طريق الانتخابات النزيهة التي هي بدورها أداة فعالة لإعمال الديمقراطية في جوهرها و حقيقتها والتي لا تخرج عن ذلك التداول السلمي للسلطة بما تُمكن الأحزاب والمواطنين من المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والنظام السياسي الذي يعتمد أساسا على التداول الذي يعد المقياس الأوحد لدمقرطة الانتخابات عن طريق اختيار ممثلي الشعب، وطنيا ومحليا، لتحقيق طموحات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، والتي قد تنعكس عليهم ايجابا فتحقق التنمية بأبعادها الشاملة، خلافا لما عرفته الممارسة الانتخابية منذ الاستقلال، والتي لم تكن لها نتائج ملموسة على مستوى التنمية، حيث لم تتراجع التبعية الاقتصادية، وظل الأداء الاقتصادي يعمل لصالح نخبة من الأعيان وأصحاب النفوذ التي توسعت دائرتهم إلى أبعد الحدود، بينما ظل الفقر والأمية والبطالة والتهميش يتعمق في كل يوم وكل مكان. فإذا لم تؤد الانتخابات لتغيير دوري لهرم السلطة بين الأحزاب و النخب الوطنية، و بقي الاقتراع وسيلة سهلة لوصول نفس عناصر التعصب الديني والعنصري والأمية والفساد المتحكمة في تسيير الشأن العام. فلابد أن المشاركة السياسية تفقد معناها، ويجب البحث لها عن تفسير آخر وتسمية أخرى غير الديمقراطية. و هذا لا يعني تقليلا من أهمية الانتخابات الجماعية التي عرفها المغرب عبر تجربته الديموقراطية، وخاصة تلك التي جرت مؤخرا، لأن مؤشر قابلية الاحتكام للشعب خلالها كانت موجودة بنسبة عالية لدى النظام والأحزاب الحاكمة والمعارضة على السواء، وإلا لما لجأت جميعها لمحاولة تخليقها والحد من فسادها. وحتى لو كان اللجوء إليها في شكلها ومضمونها الجديدين بسبب الضغوط الخارجية أو في إطار المناورة والتضليل لإضفاء شرعية دستورية مفقودة، أو لتزين الواجهة السياسية فقط، فإنها كانت وراء خلق حراك سياسي غير عادي ساهم في تغيير ثقافة الاستبداد الحزبي التقليدي والخضوع لقدسية أبوته العتيقة التي تحكمت في الرقاب لعقود، إلى جانب ما كرست من استعداد لملامسة استحقاقات الديمقراطية الحقة بما أفرزت من استقطابات حداثية. فليس وجود الديمقراطية رهين بوجود الانتخابات وحدها، بمعنى أن وجود الانتخابات لا يعني بالضرورة وجود ديمقراطية، وإلا لاعتبرنا كل دول العالم تقريبا أنظمة ديمقراطية حيث لم تخل دولة من شكل من أشكال الانتخابات أو الاستفتاءات الشعبية. حيث أن الكثير من الدول تلجا لانتخابات موجهة وتحت الضبط لتضفي على نفسها شرعية دستورية وديمقراطية أو لتحي شرعيات متجاوزة. فالافت للانتباه الكثير في الانتخابات الأخيرة هو أن التغيير بدا وكأنه الموجة الجديدة التي سادت الساحة المغربية. فانتصار التيار الليبرالي العريض بمختلف أطيافه من الاسلام المعتدل (حزب الاستقلال) مروراً بكل تلاوين الليبرالية والحداثة (الأصالة والمعاصرة)؛ لمؤشر مهم، ودليل قاطع على المزاج المغربي العام ولآمتخابي خاصة، عرف نقلة مهمة جدا، فما جرى في البلاد من تغيير واقعي ومتعقل، يعطينا صورة عن نموذج خاص لنظام سياسي جديد يحاول التوفيق بين الانتخابات كآلية من آليات الديمقراطية وبين المرجعيات التقليدية المتوارثة التي لا يمكن التمرد عليها ولا تستطيع حتى العملية التجديدية الانتخابية أن تؤسس شرعية أقوى من شرعيتها أو بديلا عنها. فمما سبق نستنتج أن الانتخابات المغربية الأخيرة بالرغم مما شابها ومن خضوع للمرجعيات غير الديمقراطية المتوارثة، فقد عرفت درجات من التنمية السياسية والانتقال الديمقراطي ومثلت حالة تستحق التوقف عندها من طرف المفكرين والمحللين المهتمين بالتحولات الديمقراطية في المغرب والعالم العربي. [email protected]